نشرف على حربٍ. مرة أخرى نُشرف على حربٍ. ما هذه الحياة التي قانونها الحرب وشواذها السكينة. نحيا في العاصفة. من يوم الى يوم. من عامٍ الى آخر. من دون حربٍ أو معها، نحيا في العاصفة. نولد في الخوف والصراخ. وفي الخوف والصراخ نموت. العالم غاشم. مثل ابن المقفع أدرك توماس هوبز ان العالم غابة. جالساً في غرفة موصدة، يقلِّب الأفكار في رأسه، أحاطت الحيطان بجسمه، ونأت السماء عن عينيه، فرأى ظلمات لا يُسبر غورها. لم ينتهِ هوبز الغربي محترقاً في فرنٍ مثل سلفه الشرقي ابن المقفع. لكن ما أبصره الثاني أبصره الأول أيضاً. العالم غابة. نحيا في العنف. وفي العنف نموت. أين تجد الهدوء في هذه الغابة؟ إن لم تقتلك الحرب قتلك الوقت. "الوقت المدمر" ذاته الذي أنهك ماركوس أوريليوس وزرع ألماً ثاقباً في بدن ريلكه. يدمرنا الوقت بينما يصنعنا. يصنعنا ويفتك بخلايانا. وها هي حربٌ آتية. يراها الواحد مثل عواصف الشتاء، يتجمع غيمها الكثيف في الأفق، وكل الأنفاس اللاهثة التي نرسلها صوبها لا تنفع. الذئب نفخ على كوخ القش فطار الكوخ في الهواء. لكن بيت الطين والحجارة لا يذهب بالنفخ، والعاصفة الآتية لن تزول بصلاتنا. نرفع الدعاء بين أشجار الغابة. لا نفكر في ابن المقفع. ننسى جلود ابن بطوطة المصلوبة وقد حُشيت قشاً. ونقول اننا لم نقرأ يوماً ابن الأثير يكتب عن مذبحة. رأى إمامٌ قبل قرون موجاً يضرب نجوم الليل وكواكب كالجراد متناثرة. تلك ليست صورة من صور القيامة. مع كل حرب تهتز دعائم هذه الأرض، ترتجف غيوم السماء، ييبس عشب الحقل، والماء يعتكر صفاؤه. الحياة غابة. ما هذه الحياة التي قانونها الحرب وشواذها السكينة. الأيام تدور والرعب يجر الرعب والجثث لا تحرقها النار من دون رائحة. ثم نكتب شعراً. ونؤلف روايات. ونذهب الى طاولة الطعام. ونتبادل الأخبار. ونبقى. نبقى وغيرنا يموت. نبقى ونرى الموتى في التلفزيون، والنور الملون يتدفق من الشاشة الصغيرة، ويغطي السجادة ويغطي صينية القهوة والشاي، ويغمر أقدامنا الحافية. نبقى وفي التلفزيون موتى، ولا نقول: "ان العالم غابة" إلا لننسى العبارة وما تخفيه العبارة. سلسلة كلمات، حبل حروف، نعقد الحبل ونرميه عن ظهر السفينة، والشراع تشدّه الريح الى حيث تشدّنا، وكما مضى المتنبي من قبلنا نمضي. الى أين نمضي؟ كلنا الى التراب. وقبل التراب وقتٌ للنظر، وقتٌ للقراءة، ووقتٌ للصحبة، ووقتٌ للحزن، ووقتٌ للسلوى. نحيا لأننا هنا، ولأننا لا نستطيع إلا أن نحيا، ونحيا لأن الحياة - كما أيقن الكندي - حلوة. لا نكتب قصائد، ولا نكتب قصصاً، ونقول ان الحياة ثمينة، ونقول ان الحرب فساد، ونسأل رفاقنا في الغابة: هل لهذا من نهاية. الحرب آتية. مرة أخرى ها هي الحرب تطل برأسها وحرارة التنين تخرج من الأرض والبخار الساخن يتلوى في السماء. الغيوم قاتمة. لكن ما عسانا نفعل. نجلس في حياتنا المضطربة وننتظر. الحرب تقتل لكن الحياة العادية تقتل أيضاً. ابحثْ عن الأمل في التاريخ. التاريخ كتاب بعددٍ لا نهائي من الصفحات. ضارباً في متاهة التاريخ تدرك أن هذا يحدث دائماً. كل هذا الاستبداد، كل هذا الطغيان، كل هذا العنف، حدث دائماً. هذا هو عالمنا. ما تصنعه الطبيعة البشرية من قَبْل ثيوسيديدوس. العالم غابة. قانون القوة قانون الكون. ما الإنسان؟ طالب سلطة. نولد في الخوف. وفي الخوف نموت. وبين اللحظتين نرفع الدعاء الى السماء أو نضرب بالبلطة رأس الواقف على بعد خطوة منا. ليس هذا جنوناً. إلا إذا كانت الحرب جنوناً. وهي جنون. وفي هذه الحياة جنون أعمى لا يحد. طالب السلطة، طالب القوة، يسلك في دروب مظلمة، والقتل ليس إلا خطوة في الطريق. والقتل - منذ شجّ قايين رأس أخيه بصخرة وركض صارخاً في البريّة - ليس إلا الشكل الواضح المصقول لتوحشنا. ليس صعباً أن تؤذي الغير. ذلك يبدأ باللامبالاة، بغياب التعاطف البشري، لكننا لا نعلم أين ينتهي. ألا تعلم الدول التي ترسل جيوشها الى الحرب ماذا تصنع الحرب؟ أي سذاجة تدفع الكائن الى رفع سؤال مثل هذا السؤال. الحرب مفهومة لأن الإنسان مفهوم. العالم غابة. وفي الغابة نعيش. الألم قد يزورنا في أي لحظة. لكن الأمل أيضاً غير بعيد. يبدو بعيداً وهو ليس كذلك. الألم الذي يسقطنا الى أسفل، الذي يقطع معنوياتنا كما يُقطع الحطب، يعطينا القوة أيضاً. يخترق الألم البدن فيصقل مرآة الروح. مع الوقت نُعطى أن نرى صورة العالم منعكسة في الأعماق صافية منيرة. هذه الرؤيا قد تحررنا. الواحد لا يفهم الأشياء إلا بينما يسقط. السقوط معرفة. الصعود لا يعطينا حكمة. الصعود يرفع أبخرة الى الرأس، يعمي بصيرتنا. بينما نسقط ننتبه الى ما غاب عنا طوال الوقت. لم تبلغ أليس - فتاة لويس كارول الصغيرة - بلاد العجائب إلا اثر سقوط طويل. ها هي الحرب آتية. مرة أخرى سوف نسقط. مرة أخرى سنرى العالم يعبر لحظة جنون. صواريخ مضيئة تقطع ليل الشاشة الصغيرة وصراخ بعيد لا يسمعه أحد. نجلس في غرفٍ موصدة، في مدنٍ تتباعد على خريطة العالم، ونشاهد النار والبطش والعاصفة. ثم نلقي يداً كسولة على جهازٍ أسود مستطيل بحجم كتابٍ صغير، ونضغط زراً. فيغيب الموت دفعة واحدةً. يظهر فيلم أميركي أو مباراة كرة قدم أو برنامج وثائقي عن بناء الجسور. كل هذه الجسور، كل هذه الأبراج، كل هذه المدن. لا نتذكر إليوت و"الأرض اليباب". لا نتذكر الطبري ووصف بناء بغداد والخريطة التي رُسمت على الأرض أمام المنصور ببذور القطن المبلّلة بالنفط. لا نغمض عيوننا ولا نرى بذور القطن تشتعل فيها النار فيرى أبو جعفر المنصور "مدينة السلام" ترتفع أمامه بحيطان من لهبٍ فيأمر ببناء بغداد على ضفة دجلة حيث نام قبل ليلة فقط ورأى انه سوف يبني ها هنا مدينة تدخل التاريخ. لا نتذكر الطبري وننسى ياقوت الحموي الرومي وننسى الخطيب البغدادي وتلك الشجرة التي أدهشت رسول الامبراطور البيزنطي حين دخل على الخليفة العباسي المقتدر في قصره في بغداد. ننسى تلك الشجرة وننسى أغصانها الذهب والفضة وننسى الطيور تغرد فيها وظلالها تتموج على صفحة الماء. تلك شجرة تدهش ولا تدهش. تلك شجرة لا يجري في عروقها نسغ الحياة. ننسى الشجرة الذهب في قصر الذهب وننسى قبة القصر الخضراء. لكننا نفكر في شوارع تشبه الشوارع التي نعبرها كل صباح وكل مساء. ونفكر في بيوتٍ تشبه بيوتنا. ونتساءل ماذا يجري غداً لبشرٍ عاشوا ويعيشون كما نعيش. مثلنا يأكلون الخبز والملح واللحم والسمك والخضر. مثلنا يشربون الماء. مثلنا يتصفحون كتباً ويسمعون الأخبار ويحبون أطفالهم ويضحكون في الساعة الطيبة. مثلنا يستلقون كل ليلة بأجساد أرهقها تعب النهار. مثلنا يفتحون عيوناً ناعسة في الصبح وينظرون الى خيوط النور المتسربة من وراء الستائر. كل هؤلاء ماذا يحدث لهم غداً. العالم غابة. وفي الغابة نحيا ونموت. غير أن الأمل لا يندثر. رأى هيغل ذات مساء سبع بقرات بلون الفحم الأسود تتحرك في الظلام. هل كان يرى روح التاريخ من دون أن يعلم؟ شوبنهاور، كاره هيغل حتى الرمق الأخير، لم يرَ تلك الأبقار القاتمة. كان الليل كثيفاً صلباً فكيف يراها. لكن شوبنهاور، مغمض العينين في غرفة باردة، أُعطي أن يرى العالم، وأن يكتب - من أجلنا - كل ما رأى. يحوي العالم كل شيء. يحوي ما نراه، ويحوي ما نأمل أن نراه. في هذه الغابة المتشعبة التي نسميها العالم تنتظرنا أشجار لا نعرفها وأبواب تفضي الى غرف لم ندخلها من قبل. لا نعلم ماذا يخفي المستقبل، لكن بينما العاصفة تهددنا، نحتفظ بالأمل، نربيه كعصفورٍ في أعماقنا، نطعمه من حلاوة الروح، وننتظر. ماذا يملك الواحد منا غير هذا الأمل؟