لا يريد الاكراد ان يعلنوا رسمياً حال الطوارئ في اقليمهم على رغم انهم باشروا اجراءات من هذا النوع. وعدم رغبتهم هذه يعود الى انهم اولاً في حال لا تمكنهم من الاضطلاع بالالتزامات التي يقتضيها اعلان هذه الحالة، وهم ايضاً يحاولون نفسياً استبعاد مخاطر الحرب عليهم في حال نشوبها. ولكن عملياً باشرت "الحكومتان" الكرديتان والاحزاب والهيئات اجراءات ضمن الامكانات المتوافرة والمتواضعة جداً. وتتداخل هذه الاجراءات مع مخاوف سياسية وخطوات لمنع النزوح الى خارج الاقليم، اذ يجمع المسؤولون والاحزاب على دعوة الاكراد الى عدم النزوح الى الدول المجاورة، ويقصدون تركيا لا غيرها. فالنزوح الى اراضي هذه الجارة حسب المسؤولين الاكراد سيوفر لها فرصة للتدخل في الاقليم، اذ لطالما سمع الاكراد من الاتراك عبارة "نحن ملاذكم من النظام العراقي فلماذا لا تقبلون بدور سياسي لنا في بلادكم". وتترافق الدعوة الكردية للبقاء في الاقليم مع شروحات بدأت الاحزاب تقديمها الى النازحين المحتملين، ففي 1991 حين نزح مئات الآلاف من الاكراد الى تركيا كانت القرى الكردية مهدمة بفعل "حملات الأنفال". اما اليوم وبعد مرور اكثر من عشر سنوات على ذلك النزوح أُعيد بناؤها وهي مهيأة لاستقبال النازحين من المدن، ثم ان الارياف حسب رجال "البشمركة" اقل تأثراً بالاسلحة الكيماوية نظراً الى ارتفاعها ولان اتجاه الهواء فيها واضح ويمكن بالتالي تفادي الهواء المحمّل بالغاز. وبالاضافة الى استعداد الريف لاستقبال اللاجئين الاكراد، يؤكد المسؤولون في الحزب الديموقراطي الكردستاني ان كل قرية كردية صارت مهيئة لاستقبال مئة عائلة عراقية يمكن ان تنزح من المناطق العراقية الاخرى. في اربيل ترعى وزارة الداخلية في الاقليم لقاءات لاطلاق حملات التوعية من الاسلحة الكيماوية، وهي انشأت هيئة اشركت فيها الاحزاب والمنظمات الانسانية المحلية لتولي الاغاثة في اللحظة التي تعلن فيها حالة الطوارئ. فقسمت المدينة الى ست مناطق ادارية، وحددت مستشفيات لكل من هذه المناطق، ثم تم الاعداد لشريط فيديو سيبث عبر محطات التلفزة المحلية التي يبلغ عددها نحو 7 تلفزيونات. ويتحدث فيها اطباء عن كيفية التعامل مع مصاب بهذه الاسلحة والعلاجات الاولية. وفي الشريط ايضاً تعليمات عن كيفية الوقاية من الغاز الكيماوي وضرورة اعداد غرف معزولة في المنازل للجوء اليها في حال الشعور بأن الهواء يحمل غازاً مسموماً. يشارك في هذه الاجتماعات مسؤولون عسكريون سبق ان خبروا التعامل مع الغاز السام الذي استعمله الجيش العراقي ضد البشمركة اكثر من مرة. ويقول بشمركي حضر احد الاجتماعات لنقل خبرته الى المجتمعين: "سبق ان تعرضنا للغاز السام عندما كنا نقاتل في منطقة باريسان، هناك في الجبال. انها قنابل غاز، وتترسب مع الهواء. كنا مقاتلين، ولم نكن عائلات ولهذا كان سهلاً علينا ان نخفف من الخسائر التي اقتصرت في حينها على بعض الاوجاع في الحنجرة، وشرعنا في حينها بتبليل كوفياتنا بالماء ووضعها على وجوهنا. وخلع بعضنا ملابسه عندما شعر بتلوثها". وأضاف: "المشكلة ان عقلية البشمركة مختلفة عن عقلية رجل العشيرة الذي يعتقد ان من الجبن ان نهرب من القصف حتى لو كان كيماوياً". وحدد لقاء هيئة الطوارئ مهمات على الاحزاب القيام بها خصوصاً ان دور الاحزاب وحتى الجيش الكردي في هذه الحرب قد حدد من قبل الولاياتالمتحدة الاميركية بأمر واحد وهو حماية منطقة الحكم الذاتي وعدم التدخل في الحرب نهائياً، هذا الامر يعني تحول عناصر الاحزاب والبشمركة الى عناصر اغاثية في حال وقوع القصف على المدن، لا بل المساعدة على اخلاء المدن الى الارياف اذا تطورت الحرب الى حرب كيماوية، مع التأكيد على ضرورة البقاء ضمن حدود الاقليم. يشعر الاكراد وبمرارة واضحة بأن استعدادهم للحرب المحتملة هو اقل من استعداد دول أبعد منهم عن الحدث واقل عرضة للمخاطر. فعبارة ان اسرائيل وزّعت واقيات من الغاز حتى على الحيوانات فيها، نسمعها كل يوم اكثر من مرة. ويرددون ايضاً ان الحرب لم تعد امراً غير مألوف بالنسبة اليهم، "فالعالم كله مسلّم بأن هذا الشعب تآلف مع اوضاعه ولم يعد من الضروري ان نرسل اليه ما يحميه من اي خطر". في اسواق اربيل القديمة ثمة زقاق صغير مخصص لبيع "الخرضوات" العسكرية من ألبسة مرقطة وبيوت للمسدسات وخناجر وجعب. وفي هذه السوق ايضاً محل عرض ثلاثة اقنعة. الاقنعة الثلاثة متآكلة، وهي من المخلّفات التي غنمها الاكراد من الجيش العراقي في العام 1991. سعر القناع نحو 300 دينار كردي، اي ما يوازي خمسين دولاراً وهو مبلغ غير متوافر لدى معظم سكان المدينة. البائع الذي عرض هذه الاقنعة شرع بحملها وعرضها مع ابتسامة سببها على الأرجح معرفته بتواضع بضاعته خصوصاً ان معظم الصحافيين احضروا معهم عند مجيئهم الى شمال العراق تلك الاقنعة الحديثة المؤهلة لتنقية الاوكسجين من اكثر من نوع من الغاز. قال البائع ان احداً لا يأتي لشراء هذه البضائع، فثمنها يفوق قدرة عامة الناس، والاغنياء القليلون في المدينة استوردوا اقنعتهم من الخارج، او هم غادروا اصلاً. الأسى واضح على وجوه الاكراد حين تسألهم عن احتمال تعرضهم لاسلحة كيماوية، لا بل الخوف الحقيقي، فهم خلافاً لما يدّعيه مسؤولوهم من انهم اعتادوا الحرب والاسلحة الكيماوية وتجاوزوا عقدة الخوف منها، صاروا أكثر خوفاً منها، اذ "لا يعرف الاسلحة الكيماوية إلا من يكابدها" بحسب تعبير صحافي كردي. ولكن يبدو أن الاكراد اكتشفوا تقنية اخرى للهرب من وهم الاسلحة الكيماوية، فيحاولون استبعاد وقوع الحرب بالقرب منهم، وهي تقنية تحتمل التصديق احياناً ولكنها من دون شك نابعة من ذلك العجز الذي يعيشه هؤلاء الناس حيال مواجهتهم أحداثاً أكبر من قدراتهم المتواضعة. فالمعركة الأساسية كما يرجحون ستكون في بغداد، وصدام باشر اصلاً بسحب قطعات الحرس الجمهوري من الموصل ومن الجبهات خارج المدن. وفي الأيام الأولى للمعركة لن يستعمل أسلحة غير تقليدية ليسهل وسائل الضغط الدولية على الولاياتالمتحدة الاميركية. وبالتالي فإن المعركة الحقيقية لن تكون على حدود كردستان. واشاعة هذا الكلام ستساعد على تماسك المجتمع الكردي وعلى الحد من المخاوف التي قد تؤدي الى نزوح كبير من المنطقة. علماً أن أهالي اربيل يتحدثون اليوم عن حركة نزوح بدأت تشهدها المدن الى القرى والأرياف. لا شك في ان اجواء الطمأنة هذه تقف وراءها الأحزاب التركية التي ركزت مخاوفها في المرحلة الراهنة على احتمالات التدخل التركي في الحرب، فالاكراد على تفاوت في الحماسة لضرورة سحب الذرائع من تركيا، وذلك عبر اعطاء التركمان ضمانات اكيدة بالحماية في حال اشتعلت الحرب، وايضاً عبر الحملات الداعية الى عدم النزوح الى الاراضي التركية. المخاوف من التدخل التركي متركزة اكثر في مناطق الحزب الديموقراطي الكردستاني، اما الاتحاد الوطني فهو من الداعين الى استيعاب المخاوف التركية عبر الاستمرار بعلاقات جيدة مع انقرة. وينقل مسؤولون في الاتحاد ما دار في اجتماعات أنقرة بين القيادتين التركية والكردية حول تأكيد الأتراك عدم نيتهم في الغاء الدور الكردي في العراق مع بقاء حساسيتهم حيال أي طموح انفصالي. هذه الأجواء الهادئة أطاحتها، بحسب مسؤول في الاتحاد، تصريحات وزراء أتراك تحدثوا فيها عن نزع سلاح الاكراد وعن نيات تدخل مباشر، واطاحتها أيضاً ممارسات المتظاهرين الاكراد في اربيل وغيرها من المدن. لكن الاميركيين، وايضاً بحسب مسؤول الاتحاد، هم الضمان النهائي. ومن السيناريوات المتداولة لاحتمال تعثر حال الهدنة بين الاتراك والاكراد عند بداية الحرب، ان تبدأ انتفاضة محلية في كركوك والموصل، ما ان تباشر الطائرات قصفها وان يسيطر اكراد محليون على المدينتين وان يشكلوا بذلك امتداداً ما للحالة الكردية في الشمال العراقي. وعندها لن يبقى الأتراك على الحياد. ويبدو ان انقرة طلبت ضمانات من الاميركيين ترجمها هؤلاء الاخيرون طلباً رسمياً وجازماً من الاكراد بالبقاء في مناطقهم. الطريق المؤدية الى الموصل من أربيل، هناك حيث تتسرب يومياً الحكايات عن انسحابات يقوم بها الحرس الجمهوري، وحيث التلال والسهول التي يتمركز فيها عناصر البشمركة، ثمة مساحات لانهائية تتخللها تلال صغيرة وطرق زراعية وحقول بدأ اللون الأخضر يغطيها. وأكراد القرى والتجمعات الصغيرة لا يشغلون حيزاً يذكر في هذا الفضاء الذي يتوقع ان يتحول بعد أيام الى جبهة. احدى هذه التلال الصغيرة اختارها اهل قرية بعيدة مكاناً لاقامة عرس ابنهم. عرس صباحي وحلقة الدبكة الكردية لم تخل من عثرات الصباح. فالنعاس لا يزال مرتسماً على الوجوه. والعروس التي تتطلب التقاليد ان تبقى متجهمة لم تبادلنا التهنئة، فيما العريس كان واقفاً وقفة كاملة بزيه الكردي، ومتنقلاً بسيغاره ليساعد المصورين على التقاط الصور له، لوحده.