تحاول غالبية العائلات السعودية التخلص من سلوكيات معيشية باذخة فرضت نفسها مع طفرة النفط. وتنتشر حالياً بين طبقات المتعلمين فكرة قبول التعايش مع شح الموارد المالية للفرد وتدني مستويات الرواتب. بينما ما زال المجتمع متورطاً بقناعات خاصة جعلت غالبية أفراد الأسرة عناصر اتكالية تتقاسم دخل الأب. ويواجه أرباب الأسرة يومياً دوامة توفير لقمة العيش البسيط ومصاريف العلاج وتكاليف التعليم والسكن، إضافة الى أن ثقافة المجتمع متورطة بأبواب انفاق ترهق الأب مادياً وتسلب نسبة 15 في المئة من دخله السنوي لتغطية مجاملات اجتماعية إلزامية، يتوجب صرفها تحسباً لتراجع القيمة الاجتماعية للفرد أمام بقية أفراد "قبيلته" أو زملاء العمل، وهي كما يصفها خالد معجب القحطاني "يا أخي تورطنا بمفاهيم قبلية تدك مقومات الفرد اقتصادياً، وتحول جزءاً من ايراده الى موائد ولائم المجاملات والأعراس". وكانت الطفرة النفطية على امتداد ثلاثين سنة تغري المجتمع الخليجي عموماً والسعودي خصوصاً بإغفال أبجديات المثل القديم "القرش الأبيض لليوم الأسود"، وجرفته الى مأزق "اليد المخرومة". وتورطت غالبية العائلات السعودية في العيش بأسلوب لا يتوافق مع دخلها الشهري، واكتشف غالبية الجامعيين العاملين طريقهم نحو كهوف البطاقات الائتمانية والقروض المصرفية، بينما اتجه صغار الموظفين وذوو المستويات التعليمية المتدنية الى ردم ثغرات فاقتهم المالية من طريق شراء سيارات بنظام أقساط تمتد الى 50 شهر، ثم بيعها نقداً من أجل حل أزمة عابرة! ما ينتج منه عودة الشخص نفسه لاستدانة سيارة أخرى قبل استكمال سداد السيارة الأولى، مما يعني بحسب وصف محمد عتيق الله المطيري "المرتب طاير طاير، يا دوب نشرب ماء". ويتجه الكاتب والصحافي السعودي فارس بن حزام الى اتهام جهات حكومية بتهشيم محفظة "الأب" بسبب قصور أداء واجباتها تجاه المواطن. ويعتقد فارس "لو أن وزارة الصحة لملمت ثغراتها، وقدمت خدماتها بتكامل، فإنها ستوفر لكل أب ما يعادل 20 في المئة من دخله الشهري تذهب للمستشفيات والمستوصفات الخاصة، وبسبب عدم وجود اشراف وسلطة مباشرة من الوزارة على أسعار المستشفيات الأهلية وخدماتها. ويكشف فارس النقاب عن استمرار رب الأسرة في دفع مصاريف مالية اضافية نتيجة عدم قدرة وزارات وهيئات على توفير بنية تحتية متكاملة تساعد الفرد على صرف تكاليف أقل خلال الشهر. وفي السياق نفسه، تفسر دراسات اجتماعية كيفية قبول المجتمع السعودي لتحويرات جديدة جذرية في تركيبته الاجتماعية نتيجة ضغوط مالية على رب الأسرة أدت الى رفع حرج سابق على عمل الفتيات في مهن كانت مرفوضة في زمن "الطفرة". كما بات من المألوف خروج الزوج مع زوجته الى العمل صباحاً لتشارك في تغطية مصاريف يومية، أو التعاون في ادخار جزء من رواتبهما الشهرية لشراء أرض أو منزل بالتملك، نقداً أو بالتقسيط. ويتوافق خالد القحطاني مندوب تأمين ومحمد المطيري موظف حكومي مع ابراهيم السنيدي موظف في شركة الاتصالات على أن حرص الآباء على توفير روافد نقدية اضافية تسبب في ازدياد نسبة العنوسة بين الموظفات في قطاعات غير تعليمية، إضافة الى ارتفاع أسهم المعلمات وحظوظهن من الزواج برجال اقترنوا بهن لمجرد كونهن مصدراً مالياً شهرياً ثابتاً. ويعتبر خالد القحطاني هذا الزواج طريقة أخرى يمكن وضعها في قائمة وسائل الرجال وحيلهم في ادارة مصاريفهم المالية وضمان موارد أولية قبل الدخول في نفق الحياة. ويكشف خالد أنه يحدث أحياناً قيام أحدهم بالزواج من ثلاث معلمات توالياً فقط من أجل تكوين "محفظة مالية" صغيرة يحقق من خلالها أحلام المنزل الوسيع والسيارة الفارهة. وفي المنحى ذاته، تبين جوري خالد جامعية ان الزوج السعودي، المنتمي الى طبقة محدودي الدخل، يزحف على وجهه كل صباح بين دهاليز نفق "تدبير المصروف اليومي"، ويتعدى تماماً بمجرد حدوث عارض صحي له أو لأحد الأفراد، أو حادث سيارة، حتى فواتير الهاتف الجوال والكهرباء تحولت الى شبح يؤرق رب الأسرة، وربما تسببت في شجار حاد بين الزوجين تلك الليلة، "فلم تعد الموازنة تحتمل الزيادات الطفيفة حتى لو بحجم مكالمة هاتف بالخطأ"، وتؤكد جوري ان قلق الرجل من احتمال انفصام ظهره تحت ثقل مصروف مادي مفاجئ دفع المجتمع السعودي الى قبول مبدأ "التأمين" ضد الحوادث العارضة بعد أن كان الفكر التأميني محظوراً ويندرج عند غالبية السعوديين تحت قائمة المحرمات. وتشير الى أن المسلسلات المصرية ألهمت المجتمع السعودي فكرة "جمعيات" يتشارك فيها أقرباء أو زملاء عمل بغية تجميع مبلغ من المال لحل أزمات صغيرة، وهروباً من الانغراس في مستنقعات فوائد الأقساط والقروض المصرفية. وتشير دراسات مادية واجتماعية الى انخفاض متوسط دخل الفرد السعودي الى 7900 دولار سنوياً، وكان في بداية الثمانينات يربو على العشرين ألف دولار، كما أن المحاظر المتسربة من تحت أبواب دور رعاية الأحداث تؤكد ان انجراف الصغار نحو عالم جرائم السرقات والمخدرات أتى نتيجة أولية لعدم قدرة أباء على توفير احتياجات بسيطة، إضافة الى شح الفرص الوظيفية المتاحة للأمهات غير الجامعيات على رغم ان المحلات التجارية تزدحم بملايين عدة من رعايا دول أجنبية أتوا لأداء مهن بسيطة تؤديها النساء في جميع أنحاء العالم. وتشير دراسة جامعية للدكتور علي السبعان شاعر وباحث مستقل الى أهمية أن تتنازل الدولة عن مشروع "السعودة" بصيغته الحالية المعتمدة على احلال شباب سعودي بديلاً من عاملين أجانب، واستبداله بمشروع "نسونة" ملايين الفرص الوظيفية المشغولة حالياً برجال أجانب ومنحها لسيدات سعوديات بخاصة بعد اعتراف الجهات المعنية بعدم تحقيق برامج السعودة "الذكورية" نجاحات مأمولة. ويتسابق المعلمون في المدارس الحكومية الى زيادة مداخيلهم الشهرية من طريق اقتناص فرص التدريس في مدارس مسائية، اضافة الى عملهم الصباحي، أو بإجراء محاولات للبحث عن عمولات سمسرة تحت أجنحة تجار العقارات والسيارات. كما أن غالبيتهم امتهن مهنة المتاجرة بالسيارات المستعملة، وبات اسم أحدهم في الصباح "أستاذ" وفي المساء "شريطي"، ومعناها سمسار سيارات في ساحات الكراجات، أو يتصيد زملاء المهنة ويغريهم بشراء سيارات بنظام التقسيط كما حدث لظاهر صالح معلم في مدارس تبوك عندما وجد نفسه بعد 9 سنوات من العمل انه لا يزال مديوناً لزميله في المدرسة بقسط شهري مقداره 2200 ريال سعودي لأن زميله يتفنن في توريطه بمشروع تقسيط جديد كلما أرغمته ظروف الأولاد والبنات على بث الشكوى لزميله "المدرس الشريطي". تعتبر فكرة "خذ سيارة بالتقسيط وبعها كاش" أولى خطوات الموظف الجديد لتدبير مستلزمات حياته. أما الداخلون الى قفص الزوجية فإنهم صيد ثمين وهين لسماسرة السيارات، وبالتالي قبل أن يضع "العريس" يده بيد عروسه يكون وضع عنقه ومستقبله في أيدي "سندات" سماسرة السيارات، تماماً كما حدث لخالد القحطاني. "تزوجت منذ أربعة أعوام، لدي طفل صغير، ولا تزال الأقساط الشهرية تخنقني كل ثلاثين يوماً"، في حين تعتقد سارة السالم معلمة أن أزواج المعلمات اقتنصوا منح المصارف تسهيلات للمعلمات فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها إلا بعدما تورط 75 في المئة من المعلمات بأقساط شهرية لسداد قيمة قروض أو سيارات ذهب بها غالبية الأزواج أدراج الريح، وتقول سارة "حتى هذه اللحظة ورطني زوجي بقسط سيارة وثلاث جمعيات، ومرت سنوات وأنا ما تهنيت براتبي". يلملم خالد، محمد، جوري، سارة وابراهيم أطراف أحاديثهم، ويرتحلون من هنا مجمعين على أن "الصداقة" هي العمود الفقري الساند لظهر كل أب وأم في ترقيع احتياجات الأسرة، ويصل الأمر الى أن أحدهم يستدين عشرة ريالات من صديقه لشراء علبة سجائر أو تعبئة سيارته وقوداً، بينما تؤكد سارة وجوري على أن الفتيات يتلاحمن في هذه الجزئية بحميمية ويتنادلن الخدمات التسليفية ابتداءً من اعارة الملابس، مروراً بأجرة مشوار سيارة الليموزين، وخمسة ريالات دولار ونصف مصروف جيب الطفل الصغير، وربما فاتورة علاج مرض عارض لم يستطع الزوج العزيز دفع فاتورة علاجه.