لم ينظر الزميل الشاب إليّ مباشرة أبداً، لا بل التفت إلى زميل ثان مشترك، والصدمة ترتسم على كل ملامح وجهه: عيناه جاحظتان وكأنهما لا تصدقان ما رأتا لتوّهما، يداه تستديران نحو الأعلى وكأنه يسأل الرب، سبحانه وتعالى، عن سبب هذا المنظر المقزّز الذي اضطر مرغماً الى رؤيته، فمه ينفتح ليتكلم من دون أن يصدر أي صوت منه، إذ يبدو أن الدهشة أصابت أوتاره الصوتية جملة وتفصيلاً. أدار ظهره وقال للزميل الثاني بعد جهد كبير متأتئاً: "أليست هي؟ هي التي كانت شقراء وجميلة؟ هي التي كانت تعمل معك في الوكالة... منذ عشرين عاماً؟". وزادت صدمة المسكين عندما سمعني أقهقه ضحكاً على صوت عال. واضطر حينها إلى الإلتفات إلّي، فكانت الصدمة مزدوجة، واحدة للمنظر الماثل أمامه والثانية للبعد المعنوي الناجم عنه. وشككت حينها بأن الصدمتين ستتحولان مصدر كوابيسه الليلية للسنوات العشر المقبلة، على رغم أنهما يجب أن تطاولا أساساً كل الزميلات اللواتي لا بد أن يكنّ وقعن في يوم ما من حياتهن المهنية في الموقف المضحك والمبكي عينه. هن اللواتي خضعن حتماً لشريعة الحياة الطبيعية التي تقضي بالتطور إلى الأمام... أو إلى الوراء. فلم تنس السنون الماضية أن تخطّ بصماتها عليهن، تجاعيد من هنا، وبعض الشعيرات البيض من هناك، وبعض الوزن أو الترهل أو التعب البادي في النظرة والشكل معاً. فهن تبدّلن حتماً إلى حد إثارة هلع الزميل العزيز الحريص على جمالية المهنة و"شباب" قلمها اليافع... شرط أن يكون نسائياً من دون استثناء، كما يبدو للعلن، وكأن الزملاء لا يخضعون لقوانين الطبيعة ذاتها، فلا يتبدلون ولا يترهلون ولا يشيخون ولا يتعبون... أو الأدهى أنهم لو فعلوا، فما من يسأل أو يستغرب أو يفاجأ أو يصدم. فما من زميل كان سيلتقي به الزميل المفجوع ويقول له: أنت الذي كنت شاباً ومع كامل شعرك الأسود وعضلاتك المفتولة، أنت الذي لم يكن بعد الشعر الأبيض غزا رأسك، ولا الصلع أبدع وعاث فيه. لا بل كان سيسأله: أين أنت؟ ماذا حلّ بك؟ أين تكتب اليوم؟ أنت الذي كنا نراك تعمل ليل نهار من دون كلل، أنت من كتبت مقالات أحدثت ضجة في البلد... أما الزميلة فلا تسمع يوماً هذا الكلام، وكأن قلمها أيضاً من الجنس اللطيف... والجميل الذي لا يؤخذ على محمل الجد. فلا يسألونها البتة عن الظروف الصعبة التي مرت بها، عن الأيام العصيبة التي واجهتها وتحولت أسابيع وأشهراً في بعض الأحيان، عن الساعات التي سهرتها أمام ورقة بيضاء لا تعرف ماذا تكتب عليها لأنها أمضت النهار مواعيد مهنية وعملاً منزلياً وركضاً وراء الأولاد... فاضطرت لأن تكون "سوبر سيدة عصرية" تعمل نهاراً دواماً كاملاً، أمّاً وزوجة وربّة منزل... وليلاً صحافية عندما يغفو كل أهل البيت. وهي، كما كل سيدة عاملة، ينظر إليها من خلال قشرتها الخارجية الظاهرة. فتعتبر مهنتها نزوة تريد تنفيذها أو مضيعة للوقت لأنها لن تجني بواسطتها المال... ولن تشكل أبداً منافسة حقيقية لمن يعمل معها. وهي، إن أرادت التقدم مهنياً، فلأنها من حملة لواء تحرر المرأة الفارغ من معناه كما من خطره الحقيقي. وإن أرادت جني المال، فلصرفه على الإهتمام بشكلها الخارجي وملابسها ومجوهراتها. وإن أرادت مناقشة الشؤون المهنية والسياسية، فلإثبات "وجودها". وإن اهتمت بشكلها الخارجي وأناقتها، فلأنها تريد استغلالهما ل"غاية في نفس يعقوب"... وإن لم تفعل، فلأنها خالية من الأنوثة والنعومة والرقّة. وإن كتبت عن الموضوع، فلأنها "تريد فشّ خلقها"... و"حرام" اتركوها تفعل.