بدهشة كبيرة، انتفض ميشال كمون السينمائي اللبناني الشاب على كرسيه ونحن نشاهد "الدوش"، الفيلم الذي استقاه من حادثة شخصية تعرض لها إثر وفاة شقيقه غرقاً. راح يطرح الأسئلة من دون ان ندري ما اصابه، ردد اكثر من مرة كلمة "اتسمعون؟"... ولم نفهم. أشعل سيجارة، احتار في امره. والحقيقة ان فيلمه "الدوش" تحول من فيلم بلا موسيقى الى فيلم قائم على الموسيقى، ما اثار ريبة المخرج وقلقه. فهل يعقل ان تتحول الأفلام هكذا؟ للوهلة الأولى ظنناه يمزح إلا انه ما لبث ان سحب نسخة أخرى، نسخة لا موسيقى فيها، نسخة فيلم "الدوش" الحقيقية، التي أصرّ على ان نشاهدها لأنها هي التي تعبّر عن ميشال كمون. سر الإضافة الموسيقية على الفيلم لم نكتشفه ولم نكتشف ايضاً من قام بذلك خصوصاً انها عملية مكلفة، إلا اننا في المقابل، لمسنا وبعد مشاهدتنا للنسخة الحقيقية سبب اصرار ميشال كمون على التمسك بنسخته الأساسية والسبب الذي يجعل من المرء فناناً، وفهمنا بذلك قوله: "لو أردت إضافة الموسيقى على الفيلم لكنت فعلتها". ويتابع قائلاً: "في الحقيقة أعتبر ان "الدوش" بالصمت الذي فيه يعبّر عما أريده اكثر بكثير من إدخال الموسيقى عليه، فأنا أردت منذ البداية ان أترك المشاهد يحدد مدى تفاعله مع الدور، ولم أرغب في التدخل او التأثير فيه وإلا أكون بذلك استخففت بعقول المشاهدين. اما الموسيقى التي سمعناها فهدفها توجيه المشاهد وتفسير العواطف الأمر الذي لا أحبذه ابداً في أعمالي. لذلك لم أستعمل الموسيقى إلا في "الجينيريك" وفي تصوير عناصر الحمام كشخصية مستقلة، اما ما عدا ذلك فهو خارج عما فعلته". صفحتان فقط ولعل هذا التصور لعلاقة السينمائي بجمهوره هو الذي أنجح "الدوش" حينما عرض في المهرجانات وعلى الشاشات فنال إعجاب الكثيرين واستطاع المخرج من خلاله، بفترة زمنية قصيرة، الاعتماد على فكرة غريبة وسيناريو بسيط لا يتعدى الصفحتين ان يخرج بعمل مميز تناول فيه وفاة شاب غرقاً في حمام مغلق. الأمر الذي يرمز الى وفاة شقيقه في النهار وبالتالي سخرية الحياة عندما لا يدري الإنسان كيف تنزل عليه المصائب. ينتمي ميشال كمون الى جيل السينمائيين اللبنانيين الشباب، كما يقول، الذين يريدون التعبير عن انفسهم من دون تردد او خوف، لذلك نراه يراهن منذ عشر سنوات على تراكم الأعمال بلا يأس، وهكذا صار في رصيده خمسة افلام قصيرة كانت بوابة عبوره الى حلمه بتحقيق فيلمه الطويل الأول. ويمكن اعتبار "الدوش" في نصف قائمة اعمال ميشال كمون السينمائية وقد سبقه فيلمان Cathodique و"ظلال" وتبعهما فيلمان انكليزيان ينتميان الى سلسلة حول "اساطير المدن". واليوم وبعد تنفيذه الفيلمين الأخيرين، وعلى رغم انه لم ير نفسه فيهما في البداية كون الأفكار التي تحويها لا تمثل أفكاره، إلا ان مردودهما جاء مثمراً إذ لفت السينمائي الشاب إعجاب المنتج الأمر الذي دفع هذا الأخير الى التعاون معه في فيلمه الطويل الأول والبدء في هذا المشروع. وعن ذلك يقول كمون: "في البداية واجهت مشكلة في قبول هذين الفيلمين الإنكليزيين ورحت اطرح الأسئلة على نفسي من دون توقف. فكيف سأقوم بتحقيق افلام ليست افلامي، وشكل ذلك تحدياً كبيراً لي لجعل هذه الأعمال قريبة مني ولوضع نكهتي فيها في ظل ظروف صعبة، إذ كانت مدة تصوير كل واحد منهما 16 ساعة فقط، وبوجود ممثلين لم أخترهم بنفسي. وعلى رغم كل الصعوبات التي واجهتها، احب المنتج عملي والدليل، عملنا معاً في مشروع فيلم اوروبي لا نزال اليوم في صدد التحضير له وتدور قصته حول قاتل مأجور". والبعد عن الوطن والإقامة في الخارج لم يشكلا يوماً مشكلة لميشال كمون، بل على العكس اكسباه غنى لا يتردد في التصريح عنه بالقول: "خلق سفري غنى كبيراً لي لأن البعد غنى في رأىي. إذ عندما تبتعدين ترين الأمور بصورة اوضح كما في السينما، اذ تصبح الصورة اقل وضوحاً كلما اقتربت من الشاشة، وعلى هذا أقرّ بأنني في اقامتي في باريس تعلمت ونضجت وازددت خبرة بالحياة". ومع هذا لم تغب بيروت يوماً عن بال كمون إذ في جعبته حالياً مشروع فيلم يتحدث عن واقع شباب بيروت اليوم، بيروت ما بعد الحرب، بيروت العبثية والجنون، بعد ان كان صوّرها في فيلم "ظلال" مدمّرة، مخرّبة. وعن هذا الفيلم يقول: "مغامرة حقيقية عشتها في هذا الفيلم إذ قدمت الى بيروت من باريس بسرعة لأصور فيلماً ضد النسيان وكان ذلك سنة 1994، الفترة التي تغيرت فيها كل معالم المدينة بين ليلة وضحاها، وهكذا من لا شيء جئت بكاميرا عادية وسيناريو صغير، وصوّرت الفيلم مع اصدقاء لا علاقة لهم بالسينما وغير محترفين. وقد اعتبرته وقتها سباقاً ضد الوقت في تلك المدينة إذ كنت أرغب بشدة أن أوصل رسالة معينة عن المدينة التي اكتشفتها حديثاً والتي يريدون تغيير معالمها. فأنا سافرت في التسعينات الى فرنسا وكانت بيروت وقتها مقسّمة وعندما اكتشفتها ارادوا تغييرها وإعادة إعمارها فشعرت بأن كل شيء سيختفي مع إعادة البناء، وشعرت ايضاً بأن كل ما مرّ في الحرب وكل القصص التي عشناها، كل الأرواح، ارواح الحجارة، ارواح المدينة، ارواح البشر، كلها ستمحى... فكان هذا الفيلم عن ذكرى مدينة والناس الذين اختفوا فيها وضد المشروع المتمثل في تغييرها. من هنا هرعت الى العودة علماً انني كنت اعمل على مشروع آخر، ولم اعرف كيف حجزت بسرعة بطاقة السفر وجئت وصوّرت. وهو الفيلم الوحيد الذي صورته بهذه الطريقة، لوحدي بغياب فريق عمل، علماً انني اعتبر بشكل عام ان نجاح اي فيلم من نجاح فريق العمل ككل الذي يعرف كل واحد فيه دوره جيداً. اما "الظلال" فجاء مغايراً كونه مغامرة نابعة من الداخل، ولو كنت فكرت لثوان لما قمت بذلك ابداً. ولا أنكر سحر العمل في هذا الفيلم على رغم كل الصعوبات التي اعترضتني. فالمشكلة كانت كبيرة إذ كنا نصور مشهداً ثم نأتي في اليوم التالي ولا نعرف اين صورناه لأن المبنى قد دمّر. "الظلال" كان في الأساس فيلماً سياسياً ولم يكن القصد منه ان يصبح فيلماً وثائقياً، إذ ان الهدف منه كان ان يكون فيلماً ضد النسيان، هذا العامل الأساسي الذي جعل الناس في لبنان يتخطون كل ما حدث لهم في فترة الحرب. من هنا ولكل تلك الأسباب افضل الظلال على ما عداه". ضد الثرثرة ولا يميل ميشال كمون في افلامه عادة الى الثرثرة، بل على العكس تغلب في اعماله الصورة على الكلمة، وعن هذا يقول: "في "ظلال" و"الدوش" ارتكزت الى اللغة السينمائية حيث لا يوجد كلام، إذ يكفي ان اعمل على الصورة والصوت لأُخبر اشياء كثيرة، وهذا كان الهدف في الأساس. صحيح انك تحتاجين في اوقات كثيرة الى الكلمة إلا انني بشكل عام لست ثرثاراً في افلامي، فلا تسمعين إلا الكلمة الضرورية. للكلمة في السينما مكان اكيد، إلا انه لا يمكن انكار خطورتها لأنها مباشرة. ومشكلتي هي مع الأشياء المباشرة، الأشياء التفسيرية. من هنا احاول في اللغة السينمائية التي أستخدمها ان أعبّر عما اريد قوله من دون ان افعل ذلك بطريقة مباشرة كوني أراها استخفافاً بالمشاهد وتقليلاً من ذكائه. السينما مختلفة عن الأدب الذي يرتكز الى الكلمة في الوقت الذي نرى فيه الكثير من الأفلام التي نفضل لو نقرأها على رؤيتها. السينما هي اللغة السينمائية، هي الصوت والصورة. لا شك في ان النص مهم، إلا ان الارتكاز يجب ألا يكون إليه. من هنا يزعجني الفيلم القريب من الأدب". ويختتم حديثه قائلاً: "الى اليوم، على رغم هذه الفترة من العمل السينمائي أستطيع أن أقول انني لم أبدأ الى الآن. أفكار كثيرة في رأسي لم أترجم شيئاً منها، وهاجسي هو عدم توقفي عن القيام بأفلام جديدة بشكل دائم إذ يشكل كل عمل هاجساً بالنسبة إلي ينتهي مع انتهاء الفيلم ثم لا يلبث ان يبدأ هاجس آخر مع فيلم آخر".