يتهم وحيد عبدالمجيد الاسلاميين المعتدلين بعدم الشعور بالقلق من صورة الحركات المتطرفة، التي تزداد انتشاراً بسبب قادة "القاعدة" واتباعهم في العالمين العربي والاسلامي "الحياة" 7/2/2003. وما اشبه الليلة بالبارحة، ففي حوارات متصلة منذ أكثر من 25 سنة مع سياسيين ومفكرين وقادة أمنيين للتباحث حول انفجار العنف في مصر منذ العام 1987 في موجته الاولى ثم العام 1992 في موجته الثانية، كان هذا الاتهام جاهزاً ومعلقاً فوق رؤوسنا، ومع الحديث نكتشف ان المطلوب هو مواجهة غير متكافئة مع عناصر العنف التي تمارس الارهاب، فنقوم نحن بدور الدولة او الامن ويقف الجميع متفرجين. هناك قلق متزايد من النزعة الى العنف في اوساط الاسلاميين خصوصاً الشباب، وهناك ندوات عقدت منذ بداية الاحداث ندوة في نقابة الاطباء العام 1989 صدرت في كتاب للبحث في الظاهرة وكيفية مواجهتها. وليس صحيحاً ان الحركات المتطرفة تزداد انتشاراً في كل يوم، فهذا يحتاج الى ادلة وبحث وتقص، ولا تكفي فيه التقارير الكاذبة التي تبثها وكالة الاستخبارات الأميركية ونظيرتها البريطانية، لأن هذه التسريبات تأتي في سياق حرب الهيمنة الأميركية. ولا ادري لماذا غاب عن الكاتب رصد هذه الكتابات التي تلبي حاجته الى رؤية معرفية وليس مجرد موقف سياسي، وإذا كان في حاجة هو او غيره الى المزيد فلنفسح مجالاً لتوضيح حقائق تاريخية وأخرى معرفية. تاريخياً عندما بدأت "حركة الشباب المسلم" في الجامعات المصرية في اواخر الستينات وطوال السبعينات كان الجميع ينصهر في بوتقة واحدة في البداية تحت اسم "الجمعية الدينية" ثم اسم "الجماعة الاسلامية" ولقيادة الشباب الذين انضموا في ما بعد إلى "الاخوان المسلمين" وكان التوجيه الفكري في غالبيته لمفكري "الاخوان" ودعاتهم وللتراث الاخواني الذي كان ممنوعاً في الستينات، وعند منتصف السبعينات حسمنا نحن وقادة الاسكندرية الجامعة امرنا بالانضمام الى الاخوان حيث كان السؤال الملح، هل نحن اصحاب منهج وفكر جديد أم اننا امتداد لما سبق؟ وهل مصلحة الاسلام تقتضي انشاء حركات جديدة ام اصلاح حركات قائمة ودعمها وتنميتها؟ وهل تلبي طموحات الزعامة التي عُقدت لنا ام نرضى بأن نكون جنوداً في مسيرة مستمرة نعطيها دم الشباب وروحهم وعقلهم وتعطينا البعد التاريخي والامتداد الزمني والافقي والخبرات المتراكمة؟ تحفظاتنا لم تكن حول المنهج والفكرة، بل حول السلوك والشخصيات، وحسمنا امرنا وكان قرار الانضمام. وبدأنا حركة نشيطة دؤوبة لاقناع الجميع، ونجحنا بنسبة 90 في المئة تقريباً، وتخلف عن الركب فصيلان: الاول اصحاب المدرسة السلفية او كما كنا نسميها وقتذاك مدرسة الرأي الواحد، ومعظمهم من الاسكندرية وقليل من جامعتي عين شمس والازهر. والثاني هو مجموعة اسيوط التي كانت تنزع الى العنف ونستميلها الى العمل السلمي الهادئ. وحدث الفراق في بداية الثمانينات على رغم كل المحاولات، وبدأ هؤلاء الشباب تنظيم انفسهم ثم انضموا الى المجموعة الصغيرة التي كانت خارج الجامعات وكانت لها محاولات للتنظيم المسلح منذ بداية السبعينات وأواخر الستينات، وهي مجموعات قليلة العدد حاولت القيام بعمليات عنف منذ منتصف السبعينات في حركة الفنية العسكرية ثم جماعة المسلمين المعروفة اعلامياً بالتكفير والهجرة ثم تنظيمات الجهاد عامي 1977 و1979، وكانت احداث 1981 الدامية في اسيوط واغتيال السادات في العرض العسكري وكنا نحن في السجون والمعتقلات بأوامر السادات منذ 3 ايلول سبتمبر 1981 وكان هؤلاء احراراً طلقاء يدبرون ويخططون ويجمعون الاسلحة والمتفجرات، وهناك الآن اتهامات متبادلة بين وزراء الداخلية حول مدى التقصير الامني في تلك الفترة، وليته اقتصر على ذلك بل امتد في ما بعد ووصل الى بروز سياسة امنية واضحة تقوم على استفزاز الشباب مع ترك الحبل على الغارب كانت هناك اختراقات امنية واضحة وصلت الى وجود شريط فيديو لعملية شراء السلاح الذي اغتيل به السادات وتقوم ايضاً على دفع الشباب للخروج الى ساحات التدريب والتمرين في افغانستان، وما زلت اذكر انه بعد سنة كاملة في المعتقل او في التحفظ وعند استقبالي في مقر أمن الدولة في الجيزة كان سؤال العميد المسؤول عن النشاط الديني: هل ستغادر مصر؟ وإلى أين؟ وكان جوابي القاطع: لست من هؤلاء. سأبقى في بلدي وأمارس نشاطي وأقوم بواجبي نحو وطني وديني ودعوتي، وقد كان. تستوقف الانتباه موجات العنف وتوقيتها: وقد تزامنت مع كل صعود للصحوة الاسلامية مما يستنزف الجهود في الرد على الشبهات التي تثيرها جماعات العنف والتكفير وإقناع الشعوب بوجود قطيعة كاملة بين الحركة والصحوة الاسلامية وبين هذه الفصائل المتشددة. من الناحية المعرفية لا يستند العنف الا الى فكرتين اساسيتين وهما تميزان بين نوعين من العنف الذي يستند الى مرجعية اسلامية. الاولى: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتندرج تحته محاولة الحصول على مغانم سياسية، وهو ما مارسته "الجماعة الاسلامية" في مصر ثم اقلعت عنه في مراجعة شجاعة منذ عام 1997 استناداً الى قاعدة شرعية وعملاً بمبدأ المصالح. الثانية: التكفير الذي يصيب الحكومات والنظم ثم الافراد والمجتمعات، وهذا يقتضي استحلال الدم والمال، ويشوه معاني اسلامية سامية، وهنا تختلط الامور بين اتجاهات اسلامية متباينة مثل السلفيين والتكفيريين الذين لا يمارسون العنف، ثم جماعات العنف بمختلف انواعها. هناك عنف سياسي له لون اسلامي وهذا لا يستند الى منهجية اسلامية معرفية بل هو رد فعل سياسي على الاضطهاد يمارسه السياسيون من مختلف الاتجاهات. لمجرد التذكير فقط اوضح ان الاخوان المسلمين وهم من اقدم الحركات الاسلامية كانت قطيعتهم مع الجذور المعرفية للعنف واضحة وقديمة ومتجددة. فقد قال حسن البنا مؤسس الجماعة منذ الثلاثينات رداً على اتجاهات التكفير: "لا نكفر مسلماً اقر بالشهادتين، وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض - برأي أو معصية - الا إذا اقر بكلمة الكفر أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة او كذّب صريح القرآن، او فسره على وجه لا تحتمله اساليب اللغة العربية بحال أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً الا الكفر. الاصل العشرون من اصول الفهم، وهو الركن الاول لبيعة الاخ المسلم - رسالة التعاليم. وعندما مارس شباب مصر الفتاة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بتحطيم الحانات التي تقدم الخمر اعترض على هذا الاسلوب في خطابه في المؤتمر الخامس عام 1938، وحمّل الحكومة المسؤولية حول بقاء هذه المنكرات، مشيراً الى عدم الموافقة على هذه الطريقة، وفاصل البنا في الخطاب نفسه هؤلاء المتعجلين المتحمسين الذين يريدون القفز على حقائق الواقع قائلاً لهم: "وخير له ان ينصرف عن هذه الدعوة الى غيرها من الدعوات". وعندما مورس في السجن الحربي التعذيب البشع للاخوان عام 1954 ثم قتل من قتل في سجون جمال عبدالناصر عام 1957 وجاءت ممارسات قاسية على الاخوان عام 1965 وأعدم سيد قطب ورفاقه 1966، وبدأت نزعات التكفير تنتشر داخل السجون بين الشباب الذين لم يتعرفوا على الدعوة جيداً، فقد انضموا اليها من 1962-1965 ولم يلتقوا احداً من رجالاتها الذين كانوا في السجون منذ 1954 وحتى 1975، كان قرار المرشد الثاني المرحوم المستشار حسن اسماعيل الهضيبي تشكيل لجنة من كبار الاخوان لجمع كل ما يثار من احاديث وآراء وتمحيصها وإعداد بحوث فقهية حولها للرد عليها وإظهار موقف الشرع منها، فكان الكتاب الذي تم نشره "دعاة لا قضاة" وعنوانه يلخص الموقف كله، وكانت المفاصلة على هذا المنهج، فمن التزم خط الجماعة واختياراتها الفقهية القديمة يستمر في المسيرة، ومن اراد له منهجاً آخر واختياراً آخر فهو وشأنه وليختر له طريقاً مختلفاً. وصدق حسن البنا عندما قال: "اما الثورة فلا يفكر الاخوان فيها ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، وان كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أولو الامر في اصلاح عاجل وعلاج سريع لهذه المشكلات فسيؤدي ذلك حتماً الى ثورة ليست من عمل الاخوان المسلمين ولا من دعوتهم ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الاحوال". رسالة المؤتمر الخامس - 1938. وإذا انتقلنا الى الضفة الاخرى سنجد أن ابرز ما قدمه الدكتور أيمن الظواهري كان مجموعة الابحاث التي قدم لها ونشرها باسمه في عنوان "الحصاد المر، الاخوان المسلمون في 60 عاماً"، وهو كتاب ضخم يمثل قطيعة معرفية وعلمية وسياسية مع الاخوان لأنه اختار الطريق الآخر، وليس ما تم نشره بعد ذلك من بحوث أخيراً لا يطمئن اليها احد من المراقبين، وكان ذلك الكتاب المرجع لكل من نهج نهج العنف والانقلاب. وبذلك يتضح عدم صحة ما يتوهمه البعض كما يقول الدكتور وحيد عبدالمجيد أنهم يتصورن انفسهم امتداداً للحركة الاسلامية الاخرى. ولا بد من التوضيح ان سوء فهم البعض او انحراف تفكير البعض او ممارسات البعض لممارسات خاطئة لا يعني ان نتخلى عن مصطلحاتنا الاسلامية كالجهاد مثلاً، فهناك اصطلاحات شرعية منضبطة بضوابط العلم الشرعي وهي حجة على الجميع ولا يمكن عكس الامور بحيث تصبح ممارسات البعض من الشباب الخارجة عن ضوابط الشرع حجة على الاسلام ابداً، ولا يصح اطلاقاً ان ننجرف مع الضغوط الأميركية والصهيونية التي تريد تفريغ هذه المصطلحات الشرعية من مضامينها. سيبقى الجهاد والاسلام والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسيظل الاسلام قادراً على الدفاع عن نفسه، وسيظل المسلمون مأمورين بالجهاد في سبيل الله والدفاع عن اسلامهم وأوطانهم وأعراضهم وأموالهم وثرواتهم وفق ضوابط الشرع الحنيف. لا يجد وحيد عبدالمجيد سنداً الا دراسة قدمها احد المراجعين لانفسهم وهو المقري ونُشرت على شبكة الانترنت، وهو يدين فيها فتوى قتل المدنيين في الجزائر. وينسى الكاتب او يتناسى عشرات الفتاوى التي صدرت عن علماء معروفين ومجالس فقهية اوروبية وأميركية وعشرات البيانات التي صدرت عن الاخوان والنهضة وحماس والتجمع اليمني للاصلاح وجبهة العمل الاسلامي في مصر وتونس والجزائر واليمن والاردن وغيرها. وأعجب من السببين اللذين ساقهما الكاتب للاتهام الذي رمى به الحركة الاسلامية عن غير بينة ولا برهان. فالاول: هو عدم وجود مفكرين ومنظرين على مستوى عال، ويحيلنا الى دراسة الاخ محمد مصطفى المقري، وهذا تم الرد عليه من قبل من ترحيبنا بكل رجوع الى الحق وكل مراجعة امينة للنفس. والثاني: وهو اعجب من الاول، ويمثل اتهاماً خطيراً ان هناك من يرى في ممارسات القاعدة نفعاً. ويقول: "وشيوع هذا الاعتقاد اخطر ما يهدد الحركات الاسلامية المعتدلة". ومدى علمي إن كان هناك اعجاب بالقاعدة وممارساتها فهو بين العامة من الناس، اما ابناء الحركة الاسلامية المعتدلة فلا يرون في ما يجري من ممارسات إلا خروجاً على مقتضى الشرع الحنيف يلحق اشد الضرر بالاسلام والمسلمين جميعاً. نائب سابق في البرلمان المصري عن الاخوان المسلمين.