ليس في نيتي أن ألتمس الأعذار، ولكنه عندما قيل لي: إنه كتاب تذكاري عن الشاعر أدونيس، والمطلوب منك أن تكتب شهادة، وألاّ تطيل، وافقت فوراً. وقلت لنفسي: نعم سأكتُب شيئاً لامعاً ومبتكراً. غير أنني اكتشفتُ أن كل ما يشغلُ ذهني الآن هو تلك المسافة بين أدونيس وبيني، والتي أصبحت ضيّقة ومحدودة جداً. الى حدّ أنها تتسبّب كثيراً في حالة الخوف من الرؤية. ولذلك آثرتُ أن أوهم نفسي أنني انصرفت تماماً عن الأمر، وذات ظهيرة حارّة، بينما كنت أتأمل غلاف رواية "الحياة هي في مكان آخر" للروائي التشيكي ميلان كونديرا، ولأنني أشعر غالباً بالضيق وخيبة الأمل عندما أفرغ من قراءة رواية، أصررتُ أن أراجع الفهرست وأقرأه بصوت مرتفع: الجزء الأول أو الشاعر يرى النور، الجزء الرابع أو الشاعر يركضُ، الجزء الخامس أو الشاعر يغارُ، الجزء السادس أو الأربعيني. وبعد الأجزاء الستة، لعلها أيام التكوين، يأتي الجزء السابع باعتباره يوم الرحمة، وفي هذا اليوم أصبح من الضروري أن أجلس مع جاروميل، اسمه يعني بالتشيكية: الرجل الذي يحب الربيع. أو الرجل الذي يحبه الربيع، قلت لنفسي: هل جاروميل بعث جديد لأدونيس، هل هو متاهة أم خلاص، أحسست فجأة أنه ظهر الآن بتدبير من الآلهة، وأنه ظهر لينقذني. ليس الأمر مجازياً، فهكذا أتعامل مع مخلوقات الروايات والشعر. علاقاتي مع الأمير ميشكين وبازاروف وميرسو وكمال عبدالجواد ومهيار الدمشقي علاقات حميمة وممتدة، وعلاقتي مع جاروميل، لم يكن بوسعنا معاً أن نتركها تتراجع، خصوصاً أنني قابلته للمرة الأولى- كنت قد سمعت عنه وأحببته من قبل - وهو يستعد للذهاب الى ندوة شعرية. كان باصٌ صغير مغلق الأبواب متوقفاً أمام مبنى الأمن، وكان الشعراء ينتظرون السائق وبينهم شرطيان هما منظما السهرة النقاشية، وطبعاً بينهم جاروميل. وصل السائق وصعد الشعراء وعددهم أحد عشر، صعدوا الباص قبل أن يصعد جاروميل. استوقفته وسألته: أين أدونيس؟ ارتبك ونظر بعيداً في اتجاه الحديقة و الجدول والفيلاّ والمبنى بأسره وتجاه قاعات الدروس والصالة الكبيرة التي كانت السهرة ستبدأ فيها بعد بضع لحظات. كلها كانت مرئية ويمكن الذهابُ إليها سيراً على الأقدام. اعتذر جاروميل للسائق والمنظمين وأفهمهم أنه سيلحق بهم. كانت شكوكه قد هدأت بعض الشيء، ولكي يكون مستعداً لجميع الاحتمالات وضع يده اليسرى في جيب بنطاله، واليمنى تعلقت بذراعي ومشينا هكذا. سألته مجدداً: أين أدونيس؟ هل تعرفه؟ لماذا أنتما متشابهان جداً؟ تنفّس بعمق وصمت، قلت لنفسي: إنه يريد أن يسمعني، سأفعل. هل تعرف يا جاروميل أنني ذات مرة كنت أمشي أنا وأدونيس في أحد شوارع القاهرة، بالتحديد شارع قصر النيل، كان يتفادى قطرات الماء التي تتساقط من أجهزة التكييف، والشمس كانت ساطعة وعمودية. حاول أيضاً أن يتفاداها. قال لي: يا أخي أريد أن نمشي في الظل، فأجبته: أنت يمكنك أن تمشي في الظل، لأنك تعبت من المشي مبكّراً تحت الأنوار. أما أنا فأحتاج الى الكثير من الشمس. ضحك أدونيس وسحبني برفق في الاتجاه الذي يريد.، ولما وصلنا في ما بعد الى الفندق وأثناء وجودنا في المصعد، سألني: هل تعرف الكراهية؟ قلت: نعم لأنني أعرف الحب. قال: أنا أيضاً أعرف الحب ولكنني لا أعرف الكراهية. سأل ثانية: وهل يمكن أن تكره شخصاً سبق لك أن أحببته؟ قلت: نعم، ثم استدركت: ولكنني لن أكرهك، هل تعرف لماذا؟ لأنني لا أنتظر منك شيئاً. أحبك من دون أن أنتظر منك شيئاً. كنت أتذكر آنذاك جملته الشعرية: كل أعدائي كانوا أصدقائي. صمتنا، فأدركت حجم الغرور الذي اعتمد على الحقيقة في كلامي. وأدركت أيضاً أن الحقيقة متواضعة. في زيارته الأخيرة للقاهرة، سهرنا معاً أدونيس وأنا والأصدقاء. وكان في اليوم التالي سيلقي محاضرة حول الشعر بدعوة من الجامعة الأميركية. تحاشى أدونيس أن يذكر تلميحاً أو تصريحاً أو شيئاً عن ندوة الغد، تحاشى الدعاية وفضّل الكبرياء. نظرت الى جاروميل فوجدته ينظر في عينيّ كأنه يحثّني على الاستمرار. ولكننا اكتشفنا ان خطواتنا قادتنا الى مدخل الصالة التي سمعناها تدوّي منذ لحظات بالتصفيق الصاخب. وكانت امرأة شابة بالغة الجمال تقف في انتظارنا، والشعراء جلسوا على المنصة حسب الترتيب الأبجدي. أشار عليّ جاروميل فجلست وسط الجمهور، أما هو فقد اتخذ مكانه المحدد. وعندما تكلم كان راضياً عن أقواله. ولكنه حين توقف عن الكلام ابتسم أحد الشعراء ساخراً وقال: هل تعتقد حقاً أن الشاعر الذي تتحدث عنه يمكن أن يكون الشاعر الملائم لزماننا؟ كان ذلك حدثاً سيئاً. لم يكن جاروميل يعلمُ كيف سيرد على هذه الأسئلة. ولكنه عندما نظر الى عيني وفمي تأكد أنه رأى شاهد انتصاره، فابتسم. تدخّل المنظم وقال: ماذا أيها الرفيق جاروميل؟ أجابه جاروميل: إنني أدعو هذا الرجل الجالس في الصف الثالث ليتحدث عن الشاعر الملائم لزماننا. كانت المناقشة تدور منذ عشرين دقيقة، وكان الشعراء يحاولون عبثاً التدخل في المناقشة، والجمهور يتحمّس لموضوع يريد أن يعرفه كلّياً. ساد الصمت أخيراً. ليس صحيحاً أن صوت المغني الذي يصل من القاعة المجاورة كان أعلى من الصمت، صاح المنظم: سنستمع الى الرجل الذي أشار إليه جاروميل بعد أن نستمع الى الشعراء الضيوف. استرضيت وتذكرت كل لحظات البهجة وكل الكشوفات التي غمرتني منذ عرفت أدونيس. تذكرت كيف كانت عناصر الإثارة الباطنة، الإثارة العذبة المستترة تلازمه في كل كتاباته الشعرية والنثرية، كيف كانت العناصر تبتدئ من مهارته الفنية، ومن إصراره وشراسته ويأسه، ومنه هو نفسه كشخص وكشاعر. أعرف أنه ومنذ البداية كان يبدو وكأنه يطرح رؤية فلسفية. هذا لا يعني أبداً أنه كان يعبّر شعرياً عن مذهب أو اتجاه فلسفي، ولا يعني أنه يجعل الشعر أداة تعمل لمصلحة الفلسفة، ولكنه فقط يعني أنه تشرّب روح الفلسفة، روح التساؤل والبحث، بمعنى آخر روح الطفولة والدهشة. كأنه في كل مرة وقف امام العالم، وقف كما لو أنها المرة الأولى، وأنشأ كل شعره وكأنه كتاب المطابقات والأوائل، ولأنه أصبح بسبب ذلك يتمتع بروح جاذبة، أصبح أيضاً يتمتع بروح السلطة وهي ما تثير عند الكثيرين ومنهم أقدم أصدقائه خليطاً مدهشاً من الإعجاب والاستياء معاً. والأرجح ان هذه السلطة، كل هذه السلطة، مستمدة أساساً من شعره الذي يعتمد على ابتكار امشاج جديدة إيقاعية وبصرية وثقافية في ظل سعيه الدؤوب لبناء بنية خيالية، تذكرت أنه خلف ترابط عالم أدونيس ووحدته التزام راسخ ببنية خيالية. التزام حتى النهاية، الأصح التزام بلا نهاية، لأن أكثر ما يثير الحزن والأسى هو بلوغ نهاية هذه البنية. شخصيات مثل عبدالرحمن الداخل، أو مهيار أو الغزالي، أو المتنبي، تنبثق من تاريخها لتكتسب انسجاماً وتماسكاً ثابتين، على رغم أن عشرات الحقائق الصغيرة، عشرات العلاقات والأحداث قد تظل مجهولة أو نصف مجهولة. إنها معاً تشكل تكويناً موحداً، تكويناً غير ثابت، تكويناً يؤكد أن ما سوف يتم بناؤه ليس التاريخ الجامد كما نحمله فوق ظهورنا، بل التاريخ الحي خصوصاً عندما يندمج في الأسطورة. هذا ما قاله أحد الروائيين وصدقته. لعله غالب هلسا. في أشعار أدونيس الأولى، أشعار رائعة ذات قيمة يصل بعضها الى ذروة موقتة، يصل الى حدود اليأس. ولأن أدونيس اختار اسمه، اختار أيضاً أن يكون غريباً مسكوناً بروح المقتحم والمهاجم، ومثيراً لكل أشكال التجاوب الإيجابي والسلبي، المحبة والكراهية، الإقبال والنفور، الفرح والغضب، التصديق والتكذيب. وأدونيس لا تحاول أعماله أن تخفي أنها تدور حول تيمة، بمعنى فكرة ثابتة تتردد في مجمل أعماله، تيمة أساسية تصحبها تنويعات عليها من دون أن يكون ذلك تكراراً، تيمة أساسية كأنها لحن ثابت تدخل عليه مجموعة الألحان المتغيرة الأخرى من زوايا متعددة، تدخل ولا تتوقف، وتدور وتلتف وتلف مثل آلة غزل. أدونيس ذلك العرفاني الذي تحب اقتراباته ولمساته أن تمس روح الإنسان في صميمها. إذا كانت عند أودنيس تيمة أساسية فإنها من ناحية ساعدته على أن ينتقل دائماً بين أكثر من زاوية نظر، ساعدته على التغير والصيرورة، ومن ناحية أخرى سمحت له أن يمثّل وبقوة فكرة أن يتعهد الشاعر نفسه بمهمة التكريس لفنه. ثم من ناحية ثالثة أتاحت له أن يعرى ويتعرى أمام همّ أساسي يتردد إضافة الى أنه يعجن الأمور بعضها ببعض. يشتبك مع السياسة ومع الماضي ومع الحاضر ويستشرف المستقبل. فهو يخاف من وثنية الشكل قدر خوفه من مجانية المعنى، وهو أيضاً يصر على ألاّ يتخلى عن حصته الضرورية من الغنائية، وعن حصته الضرورية من الإيقاع. كلنا، كلنا نعلم أن الأب يوسف الخال تعلّم الشيء الكثير من اختيارات أو تعليقات أدونيس، كلنا نعلم أيضاً أن الشاعر بدر شاكر السياب. هو الآخر تعلم الشيء الكثير من مختارات أدونيس وأصابعه التي سهرت ونامت فوق شعره، أعني شعر السياب، وإذا كنت لا أعتقد أن أدونيس يعمل بالنقد، وإذا كنت أيضاً لا أعتقد أنه مفكّر، فلا يمكن أن أشك في أن نثره ومقالاته قوية وتثق بنفسها، ربما لإنها كتبت أساساً لتتمّ مشروع أدونيس الشعري. فإذا كان نثره قادراً على الإقناع أحياناً فليس لأن هذا هو هدف أدونيس. وإذا كان قادراً على إثارة الغضب والخوف فربما لأنه مسكون بإيمان عميق ومطلق بأن الشاعر مسؤول عن الخلاص، وغير قادر على تنفيذه أو الشروع فيه. إن نثر أدونيس يفوح بالجدية والمعرفة التي تراكمت بفعل التجارب الخاصة، وبفعل الإلحاح على تجليات الروح. إن الرواية الكبرى التي يحبها أدونيس هي رواية موبي ديك لملفيل. إنها ملحمة يمكن تلخيصها في حملة لصيد الحوت. في موبي ديك نشعر بشيء فائق للطبيعة مردّه الى العنف الصوفي وإلى الجنون الذي يقود الكابتن أهاب الى مطاردة الشمس وفوق خط الاستواء. فنّ يتوصل الى خلق الخيالي من دون أن يعتمد على ما هو خيالي. خلف هذه اللوحة لا بد أن يرى الإنسان فزعه الخاص، وحريقه الخاص. أدونيس يحب موبي ديك ويحب ترجمتها العربية إحسان عباس، إن خبرة أدونيس في ميدان الترجمة، جورج شحادة، سان جون بيرس، ايف بونفوا، راسين، تخضع للهاجس ذاته الذي يخضع له نثره، هاجس إتمام المشروع الشعري. خبرة أدونيس في ميدان الترجمة قد أتاحت له فرصة الغوص في أعماق الشعر كله، الغوص الذي مارسه من قبل في ديوان الشعر العربي والذي مارسه من بعد في ديوان الشعر الغربي. ترجمات أدونيس تتمتع بالميزة الأساسية نفسها، ميزة الإدراك الرؤيوي، ميزة كيف يرى الشاعر العالم داخله والعالم من حوله بشكل جديد، وكيف يصنعه في سياق العمل الشعري. أكاد أقول إن ادونيس بشعره ومعارفه تسلق قمم الصخور وواجه الشمس ولم يعد يرى إلا دمه يغلي تحت حريق النار الأولى، فأصبح حداثياً أكثر من الحداثيين، وأصيلاً أكثر من دعاة الأصالة. وفرش جسده على نصف قرن، وما زال رحيق جسده ينتظر الأزمنة القادمة. لكزني الذي يجلس الى جانبي، كان الشعراء انصرفوا، كذلك المنظم ومعظم الجمهور، وكان جاروميل يشعر بقوة لامتناهية، ويقف الى جوار الباب المفتوح، بينما يدخل فجأة أدونيس، في يده حقيبته المدرسية التي تحتوي على دفتر اللغة العربية وكتاب الحكومة، وخلفه يدخل الشيخ المتنبي، يلهث ثم يسأل أدونيس: إلى أين تريد أن تذهب. ابتسم ادونيس وأشار الى النافذة وكانت مفتوحة، والشمس تسطع، ومن بعيد كانت أصوات المدينة تتأرجح وتبلغه، صاح المتنبي: لقد وعدتني أن تصحبني معك. قال أدونيس: كان ذلك منذ زمن طويل، سأله المتنبي: هل تريد أن تخونني؟ قال أدونيس: نعم سأخونك. عندها نظرتُ ناحية جاروميل، فلم أجده، اكتشفت أن أدونيس، ان اسمه يمكن أن يعني بلغة ما، الرجل الذي يحب الربيع أو الذي يحبه الربيع. جلست ولم أنصرف. كنت ألعب وأقلّب الوجوه، وأجعل لمحيي الدين بن عربي وجه هيغل، ولهيغل وجه ابن عربي، ولأدونيس وجه جاروميل، ولجاروميل وجه أدونيس، كنت أحاول أن أكتشف قواعد الأوقيانوس السري. * هذا النص ترجم الى الفرنسية ونشر في الكتاب التكريمي الذي صدر عن الشاعر أدونيس ضمن منشورات معهد العالم العربي - باريس. * شاعر مصري.