كثيرة هي عناصر الاتفاق بين روسياوالصين من ناحية وفرنساوألمانيا من ناحية أخرى تجاه الأزمة العراقية وسبل معالجتها. ومن أهم ما يجمع الدول الأربع في هذا المجال سعيها الى لجم الاندفاعة الأميركية صوب حسم عسكري لهذه الأزمة ومحاولاتها إيجاد حل سلمي لها. مع ذلك يصعب القول بوجود تطابق فى الموقف بين هذه الدول. روسياوالصين تعالجان الخلاف مع أميركا بمرونة أكثر أو تشدد أقل مقارنة بفرنساوألمانيا اللتين تجاوزتا المساجلات الكلامية الى اتخاذ مواقف عملية تنطوي على بعض التحدي للولايات المتحدة. فقد قدمتا اقتراحات من أجل قطع الطريق على خيار الحرب في شكل نهائي. كما استخدمت الدولتان، ومعهما بلجيكا، حق النقض لرفض طلب تركيا الحصول على حماية من حلف شمال الأطلسي الناتو إذا نشبت الحرب ضد العراق. وكان واضحاً أن هذا موقف موجه ضد واشنطن وليس أنقره. ولم تذهب روسياوالصين الى هذا المدى في معارضة الحرب الأميركية. فهذه معارضة تقتصر على تسجيل موقف ويحرص صاحباها على التذكير، بين حين وآخر، بأنهما لا يقفان موقف العداء لسياسة الولاياتالمتحدة. وقال الرئيس بوتين ذلك حرفياً خلال المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده مع شرودر في برلين يوم 9 شباط فبراير الجاري، وكأنه يميز موقفه عن السياسة الألمانية. فما الذي يدفع روسيا الى هذا الموقف الحذر في لحظة تبدو حاسمة بالنسبة الى مستقبل النظام العالمي لجهة تحديد مدى قدرة واشنطن على تكريس طابع أحادي له وما إذا كانت القوى الدولية الكبرى الأخرى تستطيع الدفع باتجاه نظام متعدد الأقطاب؟ لقد صار واضحاً أن أزمة العراق هي الساحة الرئيسة التي تدور عليها لعبة الأمم التي وصلت الى منعطف طريقين، بخصوص هيكل النظام العالمي الذي يتشكل منذ انهيار القطبية الثنائية وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق قبل أكثر من عقد من الزمن. ربما نجد الإجابة في الفرق بين طريقتين في السعي الى الحيلولة دون بزوغ نظام أحادي القطبية تهيمن عليه الولاياتالمتحدة. فالطريقة التى تتبعها موسكو تندرج ضمن منطق عام يتجنب الدخول في صدام مع واشنطن قد يدفعها الى التفرد بإدارة العالم من دون حد أدنى من التراضي العام، بما في ذلك امكان انسحابها من الأممالمتحدة وبالتالي تعريضها لخطر الانهيار. ووفق هذا المنطق ليس في مصلحة معارضي الهيمنة الأميركية أن تصبح الأزمة العراقية هي الجولة الأخيرة التي يتحدد خلالها ويبزغ منها هيكل النظام العالمي الجديد، سواء كان أحادياً أو متعدداً. فهذا المنطق ينطوي على الرهان على أن هناك جولات أخرى - لعل أقربها في كوريا الشمالية - لا تمتلك فيها واشنطن القدرة نفسها على التصعيد وصولاً الى الحرب. ولذلك يبدو أن موسكو لا تشعر بقلق عارم من امكان خروج واشنطن من الحرب ضد العراق أكثر قوة وأشد هيمنة على المجتمع الدولي. فهي تدرك أن السلوك الذي اتبعه النظام العراقي لفترة طويلة، فضلاً عن وضع الأزمة تحت الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، يمنح أميركا فرصة لا تتوافر لها في أي أزمة إقليمية أو دولية أخرى. وترتيباً على ذلك، فإن نجاح واشنطن في استخدام الأزمة العراقية أداة لفرض هيمنتها لن يكون نهاية المطاف، إذا نجحت القوى الدولية الأخرى في مواصلة "لعبة الأمم" هذه ليكون حسمها في الأخير بواسطة النقاط. ومؤدى هذا المنطق هو ضرورة تجنب أن يكون فوز واشنطن في الجولة العراقية من اللعبة بالضربة القاضية. ويبدو أن مستقبل الأممالمتحدة هو المعيار الأساسي، في هذا المجال. فإذا أمكن الحفاظ على المنظمة الدولية، سيكون هناك ما يتيح مواصلة اللعبة في ساحات أخرى وربما تعويض الفجوة التي ستزداد بين واشنطن ومنافسيها بموجب نجاح الأميركيين في فرض سياستهم تجاه الأزمة العراقية. فلا تريد روسيا، إذاً وفق هذا المنطق، أن يصل الخلاف مع واشنطن الى ذروة تكون الأممالمتحدة ضحيتها إذا انسحبت أميركا منها أو ضربت عرض الحائط بمجلس الأمن. ويبدو أن الصين تقترب من هذا المنطق وفق حساباتها الخاصة التي تتلخص في أنها تحتاج الى ما بين 15 و 20 عاما لإكمال بناء قوتها الاقتصادية والعسكرية، ولا تريد الدخول في مواجهات تعطلها أو تؤثر سلباً على امكانات تحقيق هذا الهدف. وفي مصلحة الصين، كما روسيا، أن تحافظ على الأممالمتحدة خلال هذه الفترة على الأقل. ويستند هذا المنطق على وجود اتجاه قوي في الولاياتالمتحدة، وله امتداده داخل الإدارة، يرفض الارتهان للمنظمة الدولية إذا صارت عائقاً حاسماً أمام المصالح الأميركية. وينظر هذا الاتجاه الى الأممالمتحدة باعتبارها جزءاً من النظام العالمي السابق ثنائي القطبية، ويرى أن انتهاء هذا النظام يفرض إما تغيير قواعد اللعبة في داخلها أو وضع نهاية لها وإقامة منظمة دولية أخرى تعبر عن الواقع العالمي الراهن. والحال أن ثمة تناقضاً بالفعل بين هذا الواقع الذي يشهد فجوة قوة واسعة بين الولاياتالمتحدة وبقية الدول الكبرى، وبين قواعد العلاقات الدولية التي صيغت في عصر القطبية الثنائية. فعلى سبيل المثال، تتساوى أميركا مع أربع دول أخرى في مجلس الأمن في التمتع بحق "الفيتو" على رغم أن هذه المساواة لا تجد سنداً لها في ميزان القوى على الأرض. وهذا التناقض هو المصدر الأول للتوتر القائم بين أميركا ومعارضي سياستها تجاه أزمة العراق. فتسعى واشنطن، عبر هذه الأزمة، الى إحداث تغيير فعلي في قواعد اللعبة داخل مجلس الأمن من شأنه أن يجعل المساواة بين الأعضاء الدائمين فيه شكلاً أكثر منه مضموناً. فهي تدير الأزمة ولسان حالها يقول للأعضاء الأربعة الآخرين: نحن ملتزمون بالرجوع الى المجلس والتشاور معكم واحترام حقكم في الاختلاف معنا في مقابل احترام حقنا في تحديد الاتجاه في نهاية المناقشات. إنها صيغة مفادها حقوقكم محفوظة شكلاً ما دمتم لا تحولون دون حقنا في تحديد جدول الأعمال العالمي. ويبدو أن المنطق الذي لا يري ضميراً في هذه الصيغة تأسيساً على صعوبة سريانها طوال الوقت وعدم امكان تطبيقها في الأزمات كلها، لا يروق لفرنساوألمانيا اللتين ربما تنظران اليه من وجهة أخرى تعبر عن نهج مختلف. فقبول هذه الصيغة يعني تكريس أحادية النظام العالمي في الواقع، بغض النظر عن المساواة الشكلية بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. وإذا تم الإذعان لها في الأزمة العراقية، ستكون هذه سابقة تحدد النمط السائد في التفاعلات الدولية بعد ذلك. وحينئذ تصل لعبة الأمم الى النهاية التي تريدها الولاياتالمتحدة لها. ولكن هل تستطيع فرنساوألمانيا منع الولاياتالمتحدة من فرض القواعد التي تنسجم مع واقع فجوة القوة التي تفصلها عنهما والرد على تصعيدها بأكثر منه وصولاً الى ما تخشاه روسيا وهو انهيار الأممالمتحدة؟ الأرجح أن ما يميز باريسوبرلين، هنا، هو رهانهما على مقومات الحضارة الغربية من جانب وتراث القانون الدولي من جانب آخر. فهناك قواسم كبيرة تجمع أميركا وأوروبا. فإذا تراجع السياسي في هذه القواسم لتغير الظروف وانتهاء الحرب الباردة الدولية، سيبقى الثقافي - الفكري ومن بينه ثقافة التعدد والتنوع والحل الوسط للخلافات. وثمة، كذلك، قوة معنوية اكتسبها القانون الدولي في العصر الحديث، الأمر الذي يجعل صعباً على أي دولة تتطلع لقيادة العالم أن تقدم على انتهاكات جسيمة لهذا القانون. ولكن هذا هو نفسه ما يستند اليه المنطق الروسي، الذي يراهن أيضاً على أن الحفاظ على الأممالمتحدة يعني احتفاظ موسكو وبكين وباريس بنفوذهم في مجلس الأمن، وأن تكريس المساواة مع واشنطن في الاقتراع ليس مجرد شكل لأن لهذا الشكل قوة معنوية لا يستهان بها. وعلى هذا النحو تبدو الدول الكبرى المعارضة لهيمنة الولاياتالمتحدة على النظام العالمي في موقف صعب بعد أن صار عليها الاختيار بين خيارين أحلاهما مر: فإما أن تحني رأسها في الأزمة الراهنة بأمل أن ترفعها مجدداً في أزمات أخرى من دون أن يكون لديها ما يضمن ذلك، أو أن ترفع الرأس الآن بأمل أن تتراجع الولاياتالمتحدة أمامها وهي تعرف أن واشنطن قد تضرب عرض الحائط بالأممالمتحدة وقواعد اللعبة المتبعة فيها. وهذه، كما هو واضح، مخاطرة تاريخية قد لا تستطيع الدول المنافسة لواشنطن أن تواصل اللعب بعدها لفترة يصعب تقديرها الآن. وعلى رغم صعوبة الاختيار، يبدو المنطق الروسي أكثر عقلاً بمعيار محدد، وهو أنه أقل مخاطرة في لحظة يواجه الخاسر فيها خطر الخروج من اللعبة. ولأن هذا المنطق ينطوي على السعي الى إطالة أمد اللعبة، فهو يحمل أملاً في إمكان بناء خطوط دفاع أقوى مع الوقت في مواجهة تمدد الهيمنة الأميركية على النظام العالمي عبر السعي الى انجازات اقتصادية وتكنولوجية يمكن أن تقود الى تغيير في ميزان القوى الدولي. كما يشتمل هذا المنطق على عنصر تميز لا بأس به، وهو أن القوة الأميركية لن يوقفها التصدي لها في شكل مباشر، ولكن يمكن احتواؤها بدرجات مختلفة من أزمة الى أخرى بشرط أن تبقى واشنطن في حاجة الى اضفاء مشروعية على استخدامها عبر الأممالمتحدة. فما دامت المشروعية لازمة، سيظل في امكان القوى الدولية الأخرى احتواء القوة الأميركية والحد من جموحها، وحينئذ يبقى النظام العالمي مزيجاً من الأحادية والتعددية. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تبدي فرنساوألمانيا ميلاً الى الخيار الآخر... خيار مواجهة السياسة الأميركية؟ الأمر يتعلق، بطبيعة الحال، باختلاف الحسابات وزاوية النظر. ولكن قد توحي المؤشرات الدالة على أن برلين هي المحرك الأول لخيار المواجهة بإجابة مفادها أن باريس ربما لا تنتبه الى وجود مصلحة خاصة جداً لألمانيا لأنها أقل الدول الكبرى المعنية بأزمة العراق خسارة إذا حدث السيناريو الأسوأ في ظل خيار المواجهة، وهو التصعيد الأميركي الذي يقود الى انهيار الأممالمتحدة. فألمانيا ليست عضواً دائماً في مجلس الأمن، وبالتالي فهي لا تكتسب نفوذاً دولياً من جراء وجود الأممالمتحدة، بخلاف فرنساوروسياوالصين. ولعل هذا يفسر بدرجة ما اندفاع ألمانيا في معارضتها للسياسة الأميركية، الى الحد الذي يبدو كما لو كان الزمن قد عاد ببعض وزراء حكومتها الى أيام رفضهم حرب فيتنام وهم بعد شبان صغار في صفوف اليسار الجديد. فإذا كانت روسيا حذرة حرصاً على الأممالمتحدة التي تمنحها نفوذاً لن يمكنها تعويضه إذا انهارت، وألمانيا مندفعة لأن المنظمة الدولية لا تعني شيئاً بالنسبة اليها الآن ولا مصلحة لها في الحفاظ عليها، يظل سيناريو لعبة الأمم في الأيام القادمة مرهوناً بموقف فرنسا. * كاتب مصري. نائب مدير مركز "الاهرام" للدراسات السياسية.