بعد ان سقطت بغداد، يعيد الكل في المنطقة سواء العرب او اسرائيل او ايران او تركيا ترتيب اوراقه، فقد انتهت الحرب عمليا، وبدأت مرحلة ما بعد صدام وفيها يعمل الجميع على استيعاب الدروس من حرب الخليج الثالثة. واول هذه الدروس هو تجنب تفجير اي خلاف مع الادارة الامريكية الحالية دون ان يعني ذلك الاقرار والتبعية لسياساتها. ولكن التهدئة لا تشير الى تحول جوهري في المواقف لان هذا التحول يحتاج الى وقت طويل لتشكيله وبناء الاسس التي سيستند اليها ايا كان شكله ومضمونه. فقط لا احد في الاجل القصير يسعى الى مجابهة مع الولاياتالمتحدة، وكان فاروق الشرع وزير الخارجية السوري قد عبر بإيجاز عن هذه الوضعية عندما قال ردا على نذر المواجهة التي لاحت في الايام الماضية بين امريكا وبلاده (لا نريد مواجهة لكننا لن نقبل بفرق التفتيش والحرب لن تغلق فمنا). وحتى الدول الكبرى التي شكلت جبهة دولية ضد السياسة الامريكية بخصوص حرب العراق، تريد طي صفحة الماضي على عجل وبدء صفحة جديدة مع واشنطن لاقامة علاقات دولية يسودها التعاون والسلام والاحترام المتبادل والعمل الجماعي، وقابلت الادارة الامريكية الموقف بتليين رد فعلها حيث لا يبدو انها تريد الآن ان تصب المزيد من الزيت على النار المشتعلة وقررت ان تبعث بوزير خارجيتها كولن باول الى المنطقة فيما يعد اشارة الى تنشيط الحوار الدبلوماسي بغض النظر عن التباين في الرؤى والمواقف بين الادارة الامريكية ودول المنطقة العربية. وحتى المتشددين العرب من الذين نفخوا في اذان الرأي العام العربي لدفع بلادهم الى المواجهة مع واشنطن عادوا الى طرح موقف بديل هو التركيز على المستقبل ونسيان ما حدث. ووسط هذه الاجواء عادت الدبلوماسية العربية تتحرك من جديد من خلال الاتصالات الثنائية لعدد من القادة العرب مع بعضهم البعض ومع بقية اطراف المجتمع الدولي المؤثرة ومع الولاياتالمتحدة ذاتها، وعقدت بعض الاجتماعات العربية كان اهمها اجتماع الرياض الذي ضم الدول المجاورة للعراق ومصر والبحرين وفيه كان الاهتمام منصب على تجاوز تأثيرات الحرب سريعا بالعمل على توفير الامكانات التي تساعد الشعب العراقي على ان يحكم نفسه بنفسه، والتأكيد على ضرورة زوال الاحتلال في اسرع وقت ممكن. وعلى الصعيد الداخلي العراقي لمسنا تحركات من القوى العراقية من المعارضة وغيرها تصب في اتجاه الحديث عن وحدة الشعب العراقي وقدرته على تضميد جراحه و النظر للمستقبل. وقد تابع الرأي العام العربي خطبة الجمعة الاولى بعد الغزو في بغداد من مسجد الامام ابي حنيفة النعمان وألقاها الدكتور الكبيسي، وفيها دعا الى وحدة العراقيين سنة وشيعة وقواه السياسية بكل اطيافها، رافضا دوام الاحتلال والنظام القديم معا، وحملت الخطبة دعوة لاستنهاض الهمة في نفوس العراقيين وحفزهم على تجاوز الماضي سريعا والنظر اساسا الى المستقبل بروح التعاون لتصحيح صورة العراق داخليا وعالميا. ان كل ذلك يصب في اتجاه واحد هو رغبة الجميع في تحقيق الهدوء والاستقرار وليس الاستمرار في التصعيد وافتعال المواجهات لان توفير اجواء الاستقرار يعني اتاحة الفرصة للكل لان يفكر بشكل هادئ ويستخلص الدروس الحقيقية ويستوعبها لتكون خطواته المستقبلية واضحة وراسخة لا تتعرض للتغير او التبديل. الا ان التهدئة والتوقف عن الحملات الكلامية التي تؤجج المشاعر ومن ثم تفجر الخلافات لا يعني مطلقا ان الازمة قد طوت اوراقها، ولا يكفي وحده للتقدم خطوة ايجابية الى الامام للاستفادة من الدروس سواء من جانب العرب او الولاياتالمتحدة ذاتها او بقية اركان المجتمع الدولي. فمن ناحية لابد من الاخذ في الاعتبار ان المستقبل السياسي للعراق الجديد لم يتحدد بعد حيث ان الساحة العراقية حبلى بتطورات ومفاجآت سياسية كثيرة، ومن ناحية ثانية فإن الحرب لم تغير الرؤى الاستراتيجية للدول الكبرى، تلك التي وقفت ضد الولاياتالمتحدة ولا لواشنطن نفسها، بل ان الحرب زادت شهية الادارة الامريكية للمضي قدما في استراتيجيتها دون تعديل خاصة انها وجدت انها حققت مكسبا كبيرا دون خسارة ملموسة على الاقل. ومن ناحية ثالثة - وهذا ما يهم المنطقة اكثر من غيرها - ان العرب لا يملكون اجندة محددة للتعامل مع الواقع الجديد. ولذلك علينا ان نتوقع قدرا من عدم الاستقرار يصيب المجتمع العراقي والسلطة فيه لفترة لن تقل عن عام ونصف من الآن، وعلينا ان نتوقع معركة دبلوماسية جديدة على المستوى الدولي قد تكون اقل ضجيجا من السابقة ابان مناقشة الازمة العراقية في مجلس الامن، ولكنها ستظل على حالها من حيث طبيعتها، فسوف تواصل الولاياتالمتحدة سياسة القوة تجاه الآخرين، فيما ستنتقل الدول المعارضة لها من سياسة المجابهة المباشرة الى سياسة (قضم الاصابع) ولو بشكل غير مباشر، بما يعني صعوبة توفير الاجماع الدولي على اي خطوات مستقبلية سواء بالنسبة للعراق او بالنسبة للمنطقة العربية ككل. واما العرب فهم بين خيارين اما الاستمرار على موقف الذهول مما جرى والاكتفاء بالفرجة ايضا، او التفاعل مع الاحداث وان يكون لهم موطئ قدم فيما يجري بالنسبة لها على الصعيدين العراقي والدولي. وفي حالة ما اذا انتقل الموقف العربي الى خيار العمل والتفاعل (وهناك شواهد تجري الآن بصدده) فإن الملاحظ عليه فقدانه للرؤية الجماعية المحددة العناصر، اي غياب الاجندة الواضحة. ان امامنا خريطة للأزمة يتحدد ملامحها برغم التغيير الذي حدث في النظام السياسي العراقي، ولا يصلح معها عوامل التهدئة الظاهرية حتى لو وفرت هذه العوامل مناخا لالتقاط الانفاس، بل يتعين ان يتم فض الاشتباك بين عناصرها اولا بأول، والا فإن الامور ستظل تراوح مكانها برغم حكم التغيير الضخم الذي وقع مع سقوط بغداد. ودون الدخول في تفاصيل الخريطة العراقية ذاتها والتي اصبحت شبه مقروئه يوميا من خلال متابعات الفضائيات العربية لها، فإن العراقيين امام عدة حقائق تتصادم مع بعضها البعض. فهناك واقع الاحتلال الذي يتعين الخلاص منه في اقرب وقت واستمراره تحت اي صورة من الصور سيؤدي بلا شك الى اجهاض كل ما فعلته الحرب ذاتها من تغيير. وهناك رغبة في اقامة نظام سياسي جديد يتسم بالفيدرالية والديمقراطية وكلاهما يتطلب ابعاد الدين عن السياسة او فصل الدين عن الدولة، ولكن برغم موافقة القوى العراقية المختلفة على مبدأ الفيدرالية والديمقراطية الا ان العامل الديني حاضر في النقاش ويريد اصحابه ان يجعلوه احدى القضايا الرئيسية في تشخيص عراق ما بعد صدام، والجمع بين القضيتين ليس بالامر اليسير ولا ينسجم مع الخطاب الامريكي نفسه. وهناك رغبة في ايجاد نظام حكم يتسم بالشفافية والمثالية في الطهاره، وفي نفس الوقت يضم كل العناصر القديمة شرط الا يكون قد صدرت منها جرائم في حق العراقيين، والوصول الى صيغة بهذا الشأن لا تقل صعوبة عن القضية الاولى. واما على الصعيد الدولي فهناك شواهد كثيرة على استمرار التنافر الدولي الذي صاحب الازمة منذ البداية. ومن الصحيح انه حدث تليين في المواقف العراقية، الا انه بهدف التقاط الانفاس كما قلنا في بداية المثال، ولكن جوهر الخلاف في الاستراتيجيات مازال قائما. فقد نجحت الادارة الامريكية في ان تضع الاطراف جميعا في ان تختار بين اربعة سيناريوهات هي التبعية او التهميش او العقاب، او التعاون. وبفعل سياسة القوة التي يتبعها لبناء امبراطورية امريكية تقود العالم (قطبية واحدة) فإن خيار التعاون اصبح ضيقا، فيما وجدت بقية اطراف المجتمع الدولي نفسها موزعة بين الخيارات الثلاث الاخرى اي التبعية والتهميش والعقاب. وكان هدف الدول التي عارضت الولاياتالمتحدة هو ايجاد تعددية قطبية باعتبارها المخرج من هذا المأزق (اي مأزق التحرك بين الخيارات الثلاثة السيئة السابقة)، ولكن كما يقول ازراج عمر (على شبكة عرب اونلاين) فإن الصراع على القطبية يتحرك ببطء وذلك لان اوروبا لا تستطيع ان تشكل قطبا عالميا حيث انها برغم ضم دول جديدة من شرق اوروبا (اصبح عدد الاتحاد الاوروبي 52 دولة) تحتاج للمزيد من الوقت لتشكل قوة اقتصادية وحضارية وثقافية واحدة من كل هذا الخليط، كما ان استمرار وجودها داخل حلف الاطلنطي الذي تقوده الولاياتالمتحدة عسكريا من الناحية العملية بحكم التباين في قوتها العسكرية مع اوروبا، يجعل اوروبا خاضعة سياسيا بعض الشيء للولايات المتحدة، والاتحاد الاوروبي بدون روسيا يبقى اتحادا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا اكثر منه قطبا عالميا. واما الصين التي تملك قوة عسكرية كبرى وتعدادا بشريا خرافيا وفضاء جغرافيا كافيا فإنها لم تتحول الى نموذج عالمي للتنمية ولا تزال تستكمل توحيد سيادتها الكاملة اذ لا تزال تايوان خارج اطارها الوطني، وهونج كونج التي استعادتها من بريطانيا تمثل دولة صغرى حجما ومهمة اقتصاديا ومختلفة من حيث التكوين الثقافي الرأسمالي عن المركز اي الدولة الصينية المركزية. ويمضي ازراج عمر متناولا بقية التكتلات، فيقول ان امريكا اللاتينية والكتلة العربية وافريقيا هي جميعا لا تشكل تكويناتها المختلفة مشروع قطبيات اقتصادية او عسكرية او تكنولوجية او كل ذلك مجتمعا. ويرتب ازراج على كل هذا ان مجلس الامن الدولي كحقيقة للتوازن القطبي قد تبخر، وتحولت منظمة الاممالمتحدة الى جهاز اداري يشرف على الاغاثات في العالم الثالث الفقير او "ما يشبه الممرضه ومعا المساعدون تحت اشراف الدكتور الامريكي". ويذهب الى ما هو ابعد من ذلك حيث يقرر ان نتائج الحرب ستعزز القطبية الواحدة لانها ستؤخر تشكل قطبيات اخرى لانها ستروج لنظام اقليمي شرق اوسطي يتم من خلاله عرقلة قيام قطبية عربية او افريقية. لم يعد مجلس الامن بالفعل قادرا على ان يلعب دور التوازن الدولي في ظل هيمنة القطب الواحد، ولكنه لا يزال صالحا لان تلعب من خلاله القوى المناوئة لامريكا سياسة قضم الاصابع على الاقل. وكذلك ليس من المستبعد ان يتعرض المجلس لازمة ثانية مشابهة لما حدث قبل الحرب. وكان جاك سترو وزير الخارجية البريطانية قد حذر مجددا من ان الاممالمتحدة قد تهمش للمرة الثانية فيما يتعلق بالعراق الا اذا ما تعاون اعضاء مجلس الامن في شأن المستقبل في مرحلة ما بعد الحرب، وقال سترو ان بريطانياوالولاياتالمتحدة يمكن ان تقوما بترتيبات بديلة الا في حالة توفر اجماع. وكان هذا تحذيرا موجه الى كل من فرنسا والمانيا وروسيا بعدم تكرار الضغوط على كل من لندنوواشنطن عند مناقشة المجلس للملف العراقي مجددا سواء فيما يتعلق بانهاء برنامج النفط مقابل الغذاء او باعادة الاعمار. ومن جانبه فإن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير تحدث بلغة مختلفة ولكن على طريقة توزيع الادوار وتجنب سياسة قضم الاصابع المتوقع ان تمارسها هذه الدول تجاه الحليفتين امريكاوبريطانيا، حيث شدد في الفترة الاخيرة على اهمية استعادة علاقات الثقة بين اوروبا وامريكا وعن دور رئيسي للمنظمة الدولية. وعلى الجانب الآخر من الاطلنطي تحدث بوش ورامسفيلد وباول بلغات مختلفة ايضا وان كانت كلها تباشر ضوءا احمر للفرقاء، فبينما اهتم بوش بالحديث عن دور للامم المتحدة، كان رامسفيلد وباول اكثر صراحة منه في حصر هذا الدور في المسائل الانسانية فقط ورفض اي دور في الاعمار. واما على الجانب العربي فإن الصورة لا تبعث كثيرا على التفاؤل حيث لا تتعدى طرح مواقف مبدئية بالتأكيد على اهمية اصلاح جامعة الدول العربية وتغيير قاعدة التصويت ووضع اسس جديدة للعمل العربي المشترك والقيام بإصلاحات داخلية دون طرح اجابة للتساؤلات الرئيسية التي افرزتها التطورات الاخيرة.. هل تبقى فكرة العروبة ام لا عاملا محددا لاوجه التنسيق السياسي في كل المستجدات، وهل يتم الاستعاضة عنها بفكرة المصلحة الجماعية ام تتم تنحية القضايا السياسية تماما من العمل العربي المشترك ويصبح التركيز منصبا على العمل الاقتصادي؟.. والاهم من هذا وذاك انه اذا كانت خيارات التبعية والتهميش والعقاب مرفوضة عربيا، فما هي اجندة العرب للتعامل مع الولاياتالمتحدة في مرحلة ما بعد صدام من منطلق التعاون؟.. الاستجابات الفردية وحدها لا تكفي، بل يتعين ايجاد رؤية عربية واحدة نتمنى الا يطول انتظارها. عمان العمانية