انتهت الانتخابات الاسرائيلية المبكرة، التي أريد من ورائها احداث تغيير في خريطة التوازنات السياسية في الكنيست واستطراداً في تركيبة الحكومة المقبلة، للخروج من الأزمة السياسية التي باتت مستدامة في الدولة العبرية منذ سنوات، والتي تتبدى في عدم قدرة البرلمان على اكمال ولايته الدستورية وعجز الحكومات عن الاستمرار حيث لا تلبث ان تنهار أمام أول امتحان تواجهه. والأسئلة التي تطرح في ضوء الانتخابات الجديدة تدور حول ماهية النتائج التي تمخضت عنها، وهل أحدثت تبدلاً جوهرياً في خريطة التوازنات الاسرائيلية، وكيف سيكون شكل الحكومة الجديدة في ضوء الخيارات الصعبة التي تواجه ارييل شارون، وهل ستكون قادرة على اخراج اسرائيل من الأزمة التي تتخبط فيها؟ ساد انطباع إثر اعلان تقدم تكتل "ليكود" على منافسيه في الأحزاب الأخرى بأن اليمين الاسرائيلي حقق فوزاً كاسحاً وحصل على تفويض مطلق لم يسبق له مثيل في تاريخ الانتخابات، وان "اليسار" تعرض لهزيمة هي الأكبر بالنسبة اليه. ولكن من خلال قراءة موضوعية للنتائج يظهر أن هذا الانطباع ليس دقيقاً لأنه يوحي وكأن اسرائيل استعادت تماسكها وحسمت خياراتها وبالتالي حققت الانتخابات الهدف المراد منها وهو الخروج من الأزمة وحال التذرر والانقسام والفوضى السائدة منذ سنوات. فتكتل "ليكود" حصل على 38 مقعداً تشكل النسبة الأكبر بالقياس الى ما حصلت عليه الكتل الأخرى في اليمين واليسار على حد سواء، وهي نسبة متقدمة قياساً الى ما كان عليه وضعه في الكنيست ولما توقعته استطلاعات الرأي التي كانت تعطيه بين 30 و33 مقعداً. ولم تأت زيادة عدد مقاعد "ليكود" من انحياز قواعد حزب "العمل" وما يسمى بمعسكر اليسار الإسرائيلي الى جانبه، أو من تقلص مقاعد حزب "العمل" وتكتل "ميريتس"، وانما جاءت من تقلص مقاعد أحزاب اليمين الديني واليمين المتشدد حركة "شاس" وحزب المهاجرين الروس و"المفدال". أما المقاعد التي خسرها "العمل" و"ميريتس" فذهبت في اتجاه حزب شينوي الوسط الذي حاز على 15 مقعداً ليصبح الكتلة الثالثة بعد حزب العمل الذي حصل على 19 مقعداً بدلاً من 25 في الانتخابات الماضية. أما الأحزاب العربية، فحصلت على ثمانية مقاعد وهي نسبة تقل عن السابق بمقعدين. وتبرز النتائج ان نسبة المقاعد التي حصل عليها معسكر اليمين لم تسجل سوى زيادة ضئيلة اذ حصل على ما مجموعه 69 مقعداً موزعة على النحو الآتي: 38 ل"ليكود" و11 ل"شاس" وسبعة ل"الاتحاد القومي" وستة ل"المفدال" وخمسة ل"يهودت هتوراه" واثنان ل"اسرائيل بعليا". فيما توزعت المقاعد ال51 الأخرى على النحو الآتي: 19 ل"العمل" و15 ل"شينوي" وستة ل"ميريتس" وثلاثة ل"شعب واحد" وثمانية للأحزاب العربية. ومثل هذه النسب وان كانت تعطي معسكر اليمين الغلبة على ما يسمى معسكر الوسط واليسار بنسبة تسعة مقاعد، إلا أنها لا تعكس تبدلاً جوهرياً في خريطة التوازنات التي كانت قائمة قبل الانتخابات بين المعسكرين بالإجمال. فالمشكلة الأساسية لا تزال قائمة، وهي غياب الأحزاب التي تشكل أكثرية في الكنيست تمكنها من تشكيل الحكومة مع أحد الأحزاب. اذ ان أكبر كتلة اليوم هي "ليكود"ب 38 مقعداً فيما كانت الكتل الكبيرة في السابق تحصل على 42 - 47 مقعداً، وكان يكفيها تشكيل الحكومة مع حزب واحد. وفي الدلالات التي أكدتها هذه النتائج استمرار واقع الانقسام السياسي وبقاء اسرائيل في مرحلة اللااستقرار المستديمة، اذ أعادت الانتخابات انتاج الأزمة السياسية التي أدت الى تفجر حكومة الاتحاد. فشارون يواجه مشكلة صعبة في تشكيل حكومة تجمع الكتل المختلفة التي تضع شروطاً متناقضة لدخولها، فهو لا يريد حكومة يمينية ضيقة لأنها تقيد حركته السياسية وتجعله أسير مركز "ليكود" الذي يتحكم به منافسه بنيامين نتانياهو، فيما يحتاج الى حكومة يستطيع من خلالها التحرك بمرونة على الصعيد السياسي لمخاطبة الأوروبيين وتقديم اقتراحات سياسية، ولذلك يرغب في تشكيل حكومة مع حزبي "العمل" و"شينوي"، غير أنه يواجه عقبة رفض "العمل" بزعامة عميرام متسناع المشاركة في الحكومة وعزمه قيادة المعارضة لاستعادة شعبيته عبر تصيد أخطاء "ليكود". وحتى لو تمكن شارون من تشكيل حكومة كهذه فإنها، كما يجمع المراقبون، ستكون غير قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة في أي مسألة جوهرية وستكون عرضة للانهيار مع أول تحد في ظل استمرار الأزمات التي أدت الى تفجير حكومة الاتحاد الأزمة الاقتصادية وانهيار الاستقرار الأمني وفشل الخيار العسكري في القضاء على المقاومة والانتفاضة. كما ان الخلاف حول ما هي السياسة التي يجب اعتمادها في مواجهة الانتفاضة بعد انسداد أفق الخيار العسكري لا يزال قائماً وبقوة مما يسهم في تعميق الأزمة السياسية. وفي الدلالات أيضاً بقاء اسرائيل في دائرة الفوضى السياسية التي تبرز في عدم قدرة أي برلمان على إكمال ولايته الدستورية وقصر مدة الحكومات، اذ ان السمة المميزة للواقع الذي أنتجته الانتخابات الجديدة انها أدت الى جعل اسرائيل في حال اللاقرار، لذلك بدأت أصوات اسرائيلية تدعو الى تغيير النظام الانتخابي الذي أصبح ينتج أقليات. واستمرار اليمين في قيادة دفة السلطة لا يأتي هذه المرة بجديد، اذ استهلك اليمين بزعامة شارون كل خياراته وليس لديه من جديد ليقدمه ويظهر به، وهو غير قادر على تلميع صورته، فالرموز التي تتربع على عرش قيادته موغلة في التطرف ومطاردة في العالم بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وباتت غير مقبولة حتى في بريطانيا أقرب الحلفاء لأميركا فكيف بالدول الأخرى. لذلك فان عودة اليمين بعدما اختبر برنامجه واستنفد ما لديه من وسائل يجعل من أي حكومة جديدة يشكلها لا تحمل أي بديل، فهو لا يأتي هذه المرة كبديل لحزب "العمل" بل يأتي على القاعدة نفسها والمشروع الذي جربه وفشل، وهذا ما جعل الصحف الاسرائيلية تجمع في عناوينها على وصف الانتخابات بأنها بلا وعود، اذ لم يجرؤ شارون هذه المرة على اطلاق وعود كما في الانتخابات الماضية. وتنبغي الاشارة الى ان الانتخابات سجلت أدنى نسبة تصويت في تاريخها وصلت الى 68 في المئة فيما سجلت الانتخابات الماضية مشاركة بنسبة 80 في المئة، مما اعتبرته الصحافة الاسرائيلية المفاجأة الأكبر اذ دللت على وجود خيبة لدى الجمهور الاسرائيلي من الأحزاب والمؤسسة السياسية. كما تنبغي الاشارة الى الميل الكبير في المؤسسة العسكرية الى حزب "العمل" حسبما أبرزت نتائج التصويت بين جنود الجيش مما يفسر ازدياد المعارضة في صفوف الجيش لاستمرار الخيار العسكري والمطالبة بإيجاد حل سياسي، وهو ما يعبر عن نفسه بتسجيل هروب جندي كل أربعين دقيقة. لذلك كله، يمكن القول ان أي حكومة جديدة لن تبدل من واقع الحال الذي تعيشه الدولة العبرية التي تتخبط في أزمة عميقة على كل المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية. وستكون هذه الحكومة تعبيراً عن هذه الأزمة وفي الوقت نفسه انعكاساً لواقع الانقسام المقيم مما يجعلها غير قادرة على مواجهة التحديات الكبيرة ويفاقمها كلما ازدادت ضربات المقاومة قوة واستنزافاً على كل الأصعدة. * كاتب فلسطيني.