عرفتُ أحمد الشهاوي منذ عام 1983، في ندوة في جامعة المنصورة، وألقى يومها قصيدة عشق هي أولى قصائد المجموعة الشعرية التي صدرت أخيراً في القاهرة، عن "الدار المصرية اللبنانية" بعنوان: "مياه في الأصابع"، مشتملة على "مختارات" من دواوين الشاعر التي أصدرها عبر عقدين. وأخرج الشهاوي، حتى الآن، عشرة كتب منها: الأحاديث السفر الأول، كتاب العشق، الأحاديث السفر الثاني، أحوال العاشق، الأحاديث مختارات، وكتاب الموت، قل هي، الوصايا في عشق النساء، مياه في الأصابع". وأحمد الشهاوي واحد من شعراء الثمانينات في مصر بحسب تصنيفات أصحاب الأدراج الخشبية، ذلك الجيل الذي تعرض - في رأيي - الى ظلم بيِّن، حين زعم شعراء ونقاد أن جيل الثمانينات الشعري العربي وبخاصة في مصر لم يقدم شيئاً، وأنه اعتاش على تجربة شعراء السبعينات ترسماً واجتراراً وتقليداً. وأغلب ظني أن هذا الزعم غير الصحيح ينطوي على غرض في نفس يعقوب، هو اقصاء جيل الثمانينات لمصلحة جيلي السبعينات والتسعينات، وقبل ذلك لمصلحة إقصاء رواد حركة الشعر الحر. إن بعض القائلين بهذا الزعم المغلوط هم من أصحاب النظرية التي ترى أن الشعر العربي الحديث شهد ثلاث ثورات جذرية هي: المدرسة الرومنطيقية في الاربعينات، وجيل السبعينات، وجيل التسعينات. وتفصيل وجوه الخطأ في هذا الزعم المزعوم لا مجال له هنا. وأكتفى بالتأكيد أنه ينظر الى شعراء الثمانينات نظرة مجحفة. فعندي ان شعراء الثمانينات لم يكونوا عالة على شعراء السبعينات وإن تأثر بعض اولئك ببعض هؤلاء، وبخاصة في بدايات طريقهم الشعري، وهو أمر طبيعي يحدث في كل مرحلة، لكن الحقيقة الأبرز هي ان جيل الثمانينات أخرج لنا مجموعة محدودة، مثل كل جيل ذات بصمات خاصة وسمات متميزة. وأستطيع أن أشير - كأمثلة - الى اسماء: فاطمة قنديل وابراهيم داود وسمير درويش وعلاء خالد ومهاب نصر وياسر الزيات ومحمود الحلواني وخالد عبدالمنعم وحسن خضر وأحمد الشهاوي. الشهاوي، إذاً، واحد ممن يثبتون لي صحة اعتقادي بأن شعر الثمانينات في مصر كان عبر مجموعة من مبدعيه يجسد اضافة واضحة إلى شعر السابقين بلا اجترار او احتذاء. بل إنني أزيد فأقول إن بعض شعراء هذا الجيل الثمانيني المظلوم أثر في بعض شعراء الجيل التسعيني التالي له: سواء من جهة الذهاب الى قصيدة النثر، او من جهة المتح من خزان الطفولة المغلق، أو من جهة الالتفات الى الصغائر اليومية المنسية والابتعاد من "الكلام الكبير". ويصح لي، هنا، أن اقرر أنني كنتُ - طوال قراءاتي المتفرقة لشعر الشهاوي - كونتُ رأياً يرى أن هذا الشعر يمضي على وتيرة واحدة، أفقية رتيبة، تخلو من التصاعد والتنوع. لكن قراءتي لمختارات "مياه في الاصابع" التي تعرض مساراً كاملاً، بينت لي أن ذلك الرأي الذي كونته القراءات المتباعدة ليس سليماً. فالمسار الذي تحتويه هذه المختارات - عبر عقدين - يوضح أن القصائد التي تمثل عقد الثمانينات تجسد مرحلة، وأن القصائد التي تمثل عقد التسعينات تجسد مرحلة مختلفة، تتسم قصائد المرحلة الاولى بالرومنطيقية ومستلزماتها من عاطفية زائدة ورغبة في التوحد بالطبيعة والكائنات والذات. وتتسم كذلك، بحضور الوزن حضوراً قوياً ملحوظاً، وبتسرب رائحة بعض الاصوات الشعرية الرائدة الى تضاعف النص. أما المرحلة الثانية فيتجلى فيها ابتعاد الشاعر من الرومنطيقية الزاعقة السابقة، باتجاه نبرة من الحكمة الذهنية المُشَعَّرة ويتجلى فيها التخلي عن الالتزام المدرسي بالوزن الخليلي التفعيلي الرسمي، باتجاه تعديد الوزن تارةً، وإحداث خلل به تارة ثانية، ومزاوجته بالنثر تارة ثالثة. ويتجلى فيها خلوص صوت الشاعر من أحبال صوت الآخرين، ليصفو له صوته المخصوص. والحق أن "صفاء" الصوت من شوائب السابقين علامة جوهرية من علامات الشعر الجميل، بحيث نختلف على كثير في مثل هذا الشعر او نتفق، لكننا لن نختلف على أن خلوص صوت الشاعر لنفسه هو موجب اولي لتثمين شعره عالياً. في هذه المرحلة الثانية من شعر الشهاوي برزت ثلاثيته المعروفة: العشق، الصوفية، الموت. وعناوين كتبه وحدها تعلن حضور هذه الثلاثية حضوراً ضاغطاً: أربعة من هذه العناوين تردُ فيها مفردةُ العشق، وستة من هذه العناوين تردُ فيها مفرداتٌ من مستلزمات الصوفية والتراث العربي المميز بأبعاده الروحانية. أما الموت فهو مثبوت في معظم شعر المرحلة حتى وإن اختص به عنوان واحد. ولا ريب في أن هذه الثلاثية العشق، الصوفية، الموت يربطها جذرٌ واحد جامع هو: الغناء او التفاني او الانمحاء. فالعشق فناء في الآخر المحبوب، والصوفية فناء في الذات الإلهية، والموت فناء في الابدية والمطلق. ولعل هذه الثلاثية تشكل مصداقاً - بتحويرات طفيفة - للعلاقة المثلثة المتداخلة التي وجدها بعض النقاد والمحللين بين: الجسد او الانوثة أو الحس والشعر أو الفن أو الكتابة واللاهوت أو التدين أو الترميز حيث في الشعر خيطٌ من الكهانة وخيط من الوصال الجسدي، وحيث في التدين خيطٌ من المجاز وخيطٌ من التجربة الحسية، وحيث في الشهوة خيطٌ من الكتابة وخيط من التوحد. اما الطائر المرفرف فوق كل أطراف هذه الثلاثية فهو الموت: العشقُ موتٌ من حيث هو ذوبان المحبّ في المحبوب أو تذويب المحبوب في المحبّ، والشعر موتٌ من حيث هو تصفية للروح في كلمات. في وجود هذه الثلاثية العشق والصوفية والموت يجوز أن نتوقع حضور "تيمة" الكتابة عن الكتابة، او الشعر عن الشعر، وهو ما حدث في المرحلة الثانية من شعر الشهاوي بكثافة وإن وجد في المرحلة الاولى خفيفاً. تعني هذه "التيمة" ان الشعر صار هو الحياة والتعبير عن الحياة، في آن، إذ تغدو معاركةُ التجربة الشعرية بديلاً أو رمزاً لمعاركةِ تجربة الحياة أو التعيش، ليصبح الانتصار أو الانهزام في تلك انتصاراً أو انهزاماً في هذه، بينما يلفُ كلَ ذلك لبسٌ عميقٌ بين الحياة وشِعرها. في حديثٍ سابق أخذتُ على أحمد الشهاوي استغراقه في استلهام النص الصوفي والتراثي، مشيراً الى أمرين: الأول: هو ضرورة الحذر من التطابق مع النص الصوفي. فالشاعر المعاصر لا يمكنه ان يكون صوفياً، ولكنه يستطيع أن يستفيد فنياً ولغوياً وجمالياً مما يزخر به النص الصوفي والتراثي القديم، على أن تكون هذه الاستفادة خيطاً من نسيج الشاعر المعاصر وتجربته المعاصرة. الثاني: هو ضرورة الانتباه الى أن الإسراف المفرط في مضاهاة النص التراثي - أو تعديله أو مناقضته - هو مغامرةٌ حرجةٌ قد تنقلب الى نحر الشاعر، حين تخفق في التدليل إلى اجتراء الشاعر على "القديم"، بل تذهب على عكس ما يهفو الشاعر الى التدليل إلى "إجلال" الشاعر للنص القديم باتخاذه مثالاً او نموذجاً علوياً كاملاً، ينبغي احتذاؤه بالصعود إليه، أو ينبغي تهشيمه بطرحه أرضاً. وكلتا الحالين - على تعارضهما - تشيان بمعنى واحد، هو اعتبار "القديم" مقياساً ونبراساً. وكم تمنيتُ - ولا أزال - ان يكتفي احمد الشهاوي بما حققه من خطوات طيبة ملحوظة في هذا الطريق، وأن يتجه الى درب جديد لم يُطرق، ليحفر فيه حفراً دؤوباً، ويقطع فيه شوطاً مضىئاً، كذلك الذي قطعه في الطريق الراهن. وأنا أعلم أن الشهاوي لا تعجبه مني هذه الأمنية، وعادة ما يرد عليّ كلما ذكرتها له "ومن ذا الذي يجرؤ على أن يقول للشاعر: افعل كذا، ولا تفعل كذا؟"، وأجيبه: "لا أحد يجرؤ بالطبع"، ولكنني أعبّر عن قناعتي - كقارئ - بأن الشاعر الفطن، حين يكتمل له طريق جميل، يتوجب عليه ان يغادره الى طريق آخر مختلفٍ وجميل، وأظن أن صدور القصائد المختارة في كتاب واحد هو "مياه في الاصابع" ينطوي على إلماحةٍ رمزية الى أن الشاعر يقدِّم "كشفَ حساب" لمرحلة مضت، مرهصاً بالدخول في غياهب جميلة جديدة. أليس الشعرُ- كالحياة والحب - "مياهاً في الأصابع"، تتسرّب، وتتسرّب، لنكون في حاجة الى مياه جديدة كالحياة والحب والشعر؟ ألم يقل الشهاوي: "راقبي الأرضَ وهي تمشي ففيها سيرتي وكلامي عن حنين الأرض لي فيها شموسي وشرابي من مياه أناملي".