تضمن مقال حسين أحمد أمين في عباس محمود العقاد "الحياة" في 14 أيلول/ سبتمبر 2003 ما يستوجب ان أسأل الكاتب: جاء في مقالكم تسخيف للعقاد في باب النقد أو الموضوعي. وليس العقاد ممن يصدر فيهم حكم الاعدام من طريق الدردشات الصحافية. يقول الكاتب: "يحيرني منه العقاد موقفه من الاسلام. فهو في مجالسه الخاصة وندواته الاسبوعية التي حرصت على حضور بعضها كان يبدو صريح الإلحاد، صريح الاستخفاف بالعقائد ومع ذلك فما اكثر ما كتبه في نصرة الاسلام". فليلحظ القارئ ان الاستاذ يحاول ان يوحي لنا بأن العقاد كان مصاباً بمرض يسمونه في علم النفس ازدواج الشخصية. فهو كافر ملحد في النهار، ومؤمن مدافع عن الاسلام في الليل". أولاً: استغفر لك الله لأنك رميت رجلاً بأشنع تهمة وهي الكفر. فهل انكر العقاد صراحة وجود الله؟ وإذا كان حدث، فلماذا لم تذكر هذه العبارات التي تقول انها صريحة الكفر حتى نرى رأيك؟ أليس من الجائز ان العقاد كان يسخر من الخرافات والخزعبلات التي تشيع في كل عصر، وتتسلل الى جوهر الدين الصحيح، وتجد قبولاً عند العامة فتأتي أنت وتقول: انها كفر! ولاحظنا انك، بذكاء، تحاول الا يستدرك عليك احد بقولك: فما اكثر ما كتبه في نصرة الاسلام. ويقول سيادته ان اشتداد ساعد جماعة الاخوان المسلمين وانتشار تأثيرها في الثلاثينات ادى الى تحول ملحوظ من جانب عدد كبير في مصر الى الكتابة في الاسلام تطلعاً الى مزيد من الشعبية والرواج لكتبهم. وهذا كلام يدحضه انتاج العقاد في التاريخ والفكر الاسلامي. وأترك العقاد يتحدث. ففي خاتمة كتابه الرائع "عقائد المفكرين في القرن العشرين" قال: "اول هذه التهم والظنون وآخرها ان الكاتبين في مسائل العقائد انما يطرقون هذا الموضوع طلباً للربح وابتغاء الرواج عند الدهماء. يكفي ان ارد على هذا اللغط المسف بكلمتين اولاهما انني اعاقد الناشرين على طبع كتبي فلا فرق فيها بين كتاب في الأدب وكتاب في المعتقدات ولا امتياز لعبقرية المسيح مثلاً على دراسة ابن الرومي او في ابن رشد او في بيكون. والكلمة الثانية انني لو كتبت للربح ما طرقت هذه الموضوعات التي تكلفني الجهد والنفقة، فان نظرة واحدة الى كتاب عبقرية المسيح او الى هذه الرسالة تدل العارفين على مراجعها وتكلفنا ثمناً ثقيلاً ونطالعها فتكلفنا جهداً مضنياً. لقد كان ايسر من هذا جداً ان نضع القلم على الورق بغير مطالعة ولا مراجعة فنخط به قصة من قصص الشهوات التي تروج وتحسب عند الاغرار من فتوح الابداع والتجديد، كان ذلك اجدى علينا لو اردنا الربح والراحة وكان ذلك غنماً لنا عند هذا الواغش البشري الذي لا يتورع عن خسة الافتراء بغير بينة ولا حياء... ما من احد يفهم ما يقول يزعم ان صاحب كتاب الله او الفلسفة القرآنية أو عبقرية المسيح أو هذه الرسالة يبتغي الدهماء بحرف واحد مما يكتب وليس شيء منه بالذي تصبر عليه طاقة الدهماء". صدقت والله يا استاذ! واحب هنا ان اقف عند النقطة التي اشار اليها الاستاذ سمير فريد في الحوار الذي دار بينه وبين الدكتور لويس عوض، حين كان ينشر "مذكراته" في مجلة "التضامن" اللندنية، عام 1988، فاعتبر ان رواد التنوير خانوا قضيتهم بوضع تلك الكتب. والحقيقة ان الدكتور لويس عوض، في رأيه هذا، كان متأثراً برأي استاذه المفكر الراحل الاستاذ سلامة موسى. وكان موسي يعتبر العقاد، على وجه الخصوص، سلفياً رجعياً. ورد العقاد على هذه الاتهامات بمقال ناري بعنوان "السلفية والمستقبلية"، وهو منشور في كتابه "يسألونك" 1947. وهذا الكتاب يعتبر وثيقة فكرية نادرة للعقاد. وكتابات لويس عوض عن العقاد يشوبها التذبذب والتناقض. فلقد احب العقاد بقلبه وكرهه بلسانه. ودليلنا على ذلك ما كتبه في العقاد في مقالاته المنشورة بكتابه "دراسات أدبية". فأثنى عليه ثناء عاطراً، ونم عن فهم دقيق عميق رائع للعقاد المفكر الليبرالي، ولكنه عاد وانحى عليه باللائمة في مذكراته "أوراق العمر" .... ويقول الاستاذ ان العقاد كان عميلاً للانجليز لأنه كتب "هتلر في الميزان"، والحق ان العقاد حارب الانظمة السياسية والأيديولوجيات جميعاً في عصره. حارب النازية والشيوعية والفاشية والصهيونية، نظراً لما يشوبها جميعاً من عنصرية وطغيان واستبداد. وتنبأ بسقوط هذه الانظمة واندحارها. وسقطت بالفعل. فما الغريب اذن ان يحارب هتلر رأس النازية؟ وبدلاً من ان يشير سيادته لبصيرة العقاد النافذة، وسقوط النازية في أوج مجدها، يتهم العقاد بالعمالة! وتكفل الاستاذ سمير فريد، في مقاله، بكشف التناقض الذي وقع فيه الاستاذ حيث قال ان العقاد الف كتاب "الحكم المطلق في القرن العشرين" في 1928. وهذا الكتاب كان سابقاً على تولي هتلر السلطة بخمس سنين. .... العجيب في الامر ان الاستاذ حسين احمد امين يلقي بأحجاره في واحد من صروح الفكر العربي والاسلامي الشامخة، في زمن صار من علائمه تمجيد الاراذل والرعاع وكيل المديح للامساخ البشرية. وتذكرت ما كتبه المفكر الدكتور زكي نجيب محمود رحمه الله في احدى مقالاته بعنوان: "يا قالع الشجرة" مشيراً بها للذين يقلعون شجرة الرموز الفكرية والثقافية في تاريخ مصر. ما الفائدة التي تعود على هذا المجتمع من تسفيه مفكرينا وتشويه صورتهم امام الاجيال الجديدة؟ لا يا سيدي! ليست هذه رسالة المثقف، ولا دوره ... ولم يبق غير كلماتك المؤلمة المأسوية. مصر - مصطفى الملطاوي