كان لدى جورج بوش وتوني بلير سبب وجيه للقفز الى الكاميرات ليل الجمعة ليقولا لجمهورهما: ها قد انتصرنا مرة اخرى، وهذه المرة من دون حرب، لكن الحرب تبدو مجدية، فما لم يسلّمه صدام حسين عنوة سلّمه معمر القذافي اضطراراً. وبعد اقل من اسبوع على اعتقال صدام، ها هو القذافي يرمي ورقة تمسك بها سنين طويلة. في الحالين لم تكن هناك اسلحة دمار شامل. في العراق كانت توجد ولم تعد، في ليبيا لم توجد الا افتراضاً او في اعتزام امتلاكها والسعي اليه. وفي الحالين كان اساس اللعبة واسمها هو الاحتيال والابتزاز للسيطرة على ثروة بلدين عربيين نفطيين. والآلية هي ذاتها: مزاعم عن اسلحة يقابلها تشبث هذا النظام وذاك ببقائه. الاول، في العراق، لم يمنح فرصة التفاوض والمساومة وبدا اسقاطه امراً ملحاً وعاجلاً لان المطلوب لم يكن رأسه فحسب وانما العراق نفسه. اما الثاني، في ليبيا، فقد طرح مبكراً منهجية لتفكيك المأزق الذي نسج له، ولم يُستجب له الا بعدما راح يعرض الثمن بليون دولار تلو بليون. في المقابل فرضت عليه "لائحة الشروط" بدءاً بتسوية قضية لوكربي، ثم، بإزالة الاسلحة المحظورة، وبعدها بإصلاحات اقتصادية وسياسية. اعتاد مسؤولون اميركيون ان يقولوا، كلما سئلوا عن مسار التفاوض مع ليبيا، ان النظام "يعرف ما المطلوب منه"، وبالتالي فإن الكرة في ملعبه. ومنذ التوصل الى حل لقضية تعويضات ضحايا تفجير الطائرة الاميركية فوق لوكربي، كان واضحاً ان تلك الكرة تحركت من الجانب الليبي في الاتجاه الذي يلبي الشروط. ومن اتفاق التعويضات، الى رفع العقوبات الدولية نهائياً، الى اتفاق التخلي عن تطوير اسلحة غير تقليدية، تبدو طرابلس مندفعة الى الحصول على قرار برفع العقوبات الاميركية وفتح صفحة جديدة للعلاقات مع واشنطن. وهكذا انتقلت الكرة الى الجانب الاميركي، فهل يسارع الى رفع تلك العقوبات، ام ان المجال لا يزال متاحاً لمزيد من الابتزاز استدراجاً لمزيد من البلايين؟ وهل ان التخلي عن الاسلحة كاف لكي يطلب بوش من الكونغرس رفع العقوبات ام ان الكونغرس "صاحب مبادئ" ! لا يغيّر موقفه الا اذا تلقى ما يكفي من المعلومات عن انطلاق الدمقرطة في ليبيا وعن حسن احترام حقوق الانسان فيها؟ كانت الولاياتالمتحدة استقطبت اعداداً كبيرة من المعارضين الليبيين، معظمهم من العسكريين، بل نظّمت "سي آي اي" معسكرات تدريب وتنظيم لهم، لكنها ما ان بدأت تتعامل مع النظام حتى تخلت عنهم على رغم انهم لا يزالون مقيمين فيها. وخلافاً لما فعل الاميركيون مع المعارضين العراقيين، اذ أصغوا اليهم وأبرزوهم ونفخوهم سلّموهم الى البلد، فإنهم عمدوا الى تهميش المعارضين الليبيين وتيئيسهم، خصوصاً بعدما تبين لهم ان ما يبتغونه ليبياً يستطيعون الحصول عليه مباشرة. فهم استخدموا هذه المعارضة لفترة قصيرة، وعندما تلقوا اشارات طرابلس لم يجدوا داعياً للتعويل عليها. منذ ما قبل لوكربي وتسوياتها التي لم تنته فصولاً بعد لأن هناك اصواتاً تطالب بتحقيق جديد لانعاش منهج الابتزاز، ومنذ ما قبل الاسلحة المزعومة التي يجري الآن عرض ملفاتها القديمة البالية وكأن اسرائيل لا تملك حجراً تدافع به عن نفسها... مذاك كان المنسي الاكبر ولا يزال هو الشعب الليبي الذي يرى بلاده وقد عرضت ثرواتها وكرامتها ومستقبلها في اقذر سوق نخاسة دولية، من دون ان يسمع له صوت. بالامس، بعد المسرحية البوشية البليرية، فاجأنا صديق ليبي بعبارة عسلية المرارة: "انا في غاية السعادة، شعبنا موعود بالعودة الى الحظيرة الدولية، ألا يسمونها حظيرة؟". من غير المستبعد ان يدفع بالابتزاز الى اقصاه طالما ان الاستحقاق المقبل هو رفع العقوبات الاميركية. ولتحقيق ذلك لا بد ان يكون الثمن غالياً جداً. لذا فمن غير المستبعد ايضاً ان نسمع قريباً فرماناً اميركياً مفاده: في ليبيا كما في العراق، لا عقود ولا صفقات الا لدول ما يسمى "التحالف". ليست "البراغماتية" الليبية الراهنة هي التي ستضع العصي في دواليب "ايديولوجيا الهيمنة" الاميركية. يبقى ان كل هذه الجهود الليبية لن تمنع "السياق العراقي" من ان يأخذ مجراه، صحيح ان الاميركيين لم يضعوا الديموقراطية في اولوياتهم الا ان تغيير النظام لا يزال على اجندتهم. هذا ما كان في خلفية صورة بوش وهو يزف الى جمهوره نبأ التخلي الليبي عن التسلح.