لم يشكل إخفاق القمة الأوروبية في التوصل إلى اتفاق حول الدستور المقبل للاتحاد الأوروبي الموسع مفاجأة لأحد، إذ إن الخلافات بين الأوروبيين "القدامى" و"الجدد" ليست من النوع الذي يمكن تجاوزه بسهولة ويسر، والأرجح هو أن يلقي هذا الفشل بظلاله على عملية توسيع الاتحاد، كون بعض الأعضاء لم يصدّق بعد معاهدة انضمام البلدان العشرة التي من المقرر أن يحسم انضمامها إلى الاتحاد في أيار مايو المقبل. ويبدو أن الحلول الوسط المقترحة لحل الخلافات قد تقتضي تأجيل موعد تنفيذ الدستور من سنة 2009 إلى 2014، وتحديد موعد لمراجعة بند التصويت الذي شكل عقب أخيل في الخلافات، خصوصاً بين إسبانيا وبولندا من جهة، وفرنساوألمانيا ودول البنلوكس. صحيح أن هذا الاخفاق قد يدفع بعض الدول الأوروبية كفرنساوألمانيا إلى تشكيل "نواة" صلبة من الدول الرئيسة الساعية إلى تسريع الاندماج في الاتحاد الأوروبي، إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة أن الأوروبيين خطوا خطوة مهمة عنوانها الاتفاق على تشكيل خلية أوروبية للتخطيط العسكري مستقلة عن حلف شمال الأطلسي "الناتو" يؤمل أن تشكل اللبنة الأساسية في بناء العمود الفقري الذي سيمنح القارة العجوز الثقل الذي تتطلع إليه، وهو أن تكون مجهزة بصرح متين من سياسة خارجية قائمة على استقلالية في التحرك الدفاعي ليست متوافرة لأوروبا الموحدة التي بدت، خلال الفترة الماضية، مفككة وعاجزة عن كبح جماح الاندفاع الأميركي نحو الحرب على العراق بعدما تمكنت إدارة جورج بوش، بمساعدة حكومة توني بلير، من اختراق الساحة الأوروبية، ودفع ثماني دول أوروبية إلى الوقوف إلى جانبها على حساب "الأوروبيين القدامى" الذين وجدوا أنفسهم أمام تحد تاريخي يهدد المصالح الأوروبية في الصميم، ويحولها إلى مجرد "جوائز ترضية" يتصدق بها سادة الاحتكار الأميركيون. وأهمية هذه الخطوة لا تنبع فقط من حاجة أوروبا الماسة إلى الدفاع عن نفسها وعن مصالحها في العالم، وإنما كذلك من حقيقة أن الأوروبيين تعرضوا للإذلال على أيدي الولاياتالمتحدة، وليست تجربة الحرب على العراق وتداعياتها التي ما زالت ماثلة ومستمرة، خصوصاً استبعاد فرنساوألمانيا وروسيا من عقود إعادة الإعمار أخيراً، هي الأولى مع الأميركيين إذ سبقتها تجربة تداعيات أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 والحرب على أفغانستان، وذلك حين استجاب الأوروبيون للطلبات الأميركية، بما فيها تدعيم تبادل المعلومات على المستوى الثنائي وعلى مستوى حلف الناتو، وتأمين المنشآت المدنية والعسكرية الأميركية على جميع أراضي دول الاتحاد الأوروبي، وإرسال وحدات تحل محل وحدات الحلف التي اشتركت في حرب أفغانستان، وفتح المجال الجوي لجميع دول الحلف أمام الطائرات العسكرية الأميركية، ونشر 17 طائرة أواكس في مهمات تجسس، وسبع فرقاطات في شرق البحر المتوسط. وكان الاستثناء الوحيد في هذا الانصياع للطلبات الأميركية رفض البرلمان الأوروبي مطلب الرئيس الخاص بتخفيف القيود التشريعية والقانونية على إمكان التنصت على الاتصالات الشخصية السلكية واللاسلكية لما يشكله ذلك من تجاوز للديموقراطية وانتهاك لخصوصية الحياة الشخصية للمواطن الأوروبي. كل ذلك، مضافاً إليه سابقة التفرد الأميركي في أحداث البوسنة والهرسك وفي كوسوفو، عمّق الاعتقاد في الصفوف الأوروبية بضرورة جسر الهوة التي تفصل بين القارة العجوز والولاياتالمتحدة في المجال العسكري، خصوصاً بعدما أصبح مستقبل حلف شمال الأطلسي موضع جدل واسع تحت تأثير المستجدات التي طفت على السطح إثر انتهاء ما يسمى الحرب الباردة، وسعي واشنطن إلى تكريسه كإحدى أدوات الإمبراطورية الأميركية التي تزمع بسط سيادتها على العالم. ولعل التطور المهم، في هذا السياق، هو سقوط التحفظ البريطاني عن تشكيل خلية أوروبية للتخطيط العسكري والقيام بعمليات عسكرية مستقلة عن حلف الناتو، بعد "إقناع" رئيس بلير الرئيس بوش بمحدودية تأثير القدرات الأوروبية في دور حلف شمال الأطلسي الذي ينوء بين إصرار واشنطن على إلحاقه بالاستراتيجية الأميركية، وبين التخلي التام عنه والتصرف بشكل انفرادي وفقاً للمصالح الإمبراطورية. ومع ذلك، فثمة قلق يفرض نفسه لدى استعراض المساعي الأوروبية الهادفة إلى الاستجابة لهذه الضرورة الملحة تشكيل قوة أوروبية مستقلة عن حلف الناتو التي تمكن من تحصين الوحدة الاقتصادية والمالية الأوروبية، وإعادة التوازن إلى العلاقات الدولية التي تصدعت منذ أحداث 11 أيلول، إذ إنها بدأت في وقت مبكر ولكن من دون أن تجد فرصة جدية للحياة. ففي عام 1948 وقّعت كل من فرنسا والمملكة المتحدة ودولتا البنلوكس على ما سمي "معاهدة الاتحاد الغربي الأوروبي" التي سرعان ما اختفت إثر اندلاع الحرب الباردة وتولي حلف شمال الأطلسي شؤون الدفاع عن أوروبا تحت قيادة عليا أميركية. وفي 27 حزيران يونيو 1952، وبمقتضى معاهدة باريس التي شملت ست دول أوروبية، ولدت "الجماعة الأوروبية للدفاع" التي رفضت الجمعية الوطنية الفرنسية التصديق عليها. وتوسعت عضوية هذه القوة بعدما انضمت إليها إيطالياوألمانيا التي انضمت أيضاً إلى منظمة حلف الأطلسي. لكن نشاط هذه القوة بقي مجمداً لمصلحة الناتو. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال "الخطر الشيوعي"، عاد التفكير، مرة أخرى، في تشكيل وحدات عسكرية أوروبية خارج إطار حلف الناتو تحت اسم Eurocorps، وضمت قوات من فرنساوألمانيا، ثم بلجيكا وإسبانيا ولوكسمبورغ، وتلاها إنشاء "قوة التدخل السريع" Euroforce ثم قوة جوية - بحرية Euronav ضمت كلاً من إسبانيا وإيطاليا والبرتغال، وأخيراً أقيمت وحدة أوروبية للتخطيط عام 1994. إلا أن كل هذه التشكيلات لم تستطع تلبية الحد الأدنى من متطلبات الدفاع الأوروبية، بسبب الممانعة الأميركية لهذه المساعي، واحتدام المواجهة داخل الاتحاد الأوروبي بين تيار يدعو إلى قيام "أوروبا قوية" مستقلة عن الولاياتالمتحدة، تقوده فرنسا، وآخر كان يركّز اهتمامه على تحقيق سوق أوروبية موسعة قدر الإمكان. ولئن بدا أن ثمة غلبة للتيار الثاني الذي ينادي بأولوية المضي في دعم السوق الموحدة والتركيز على التوسع في ليبرالية التبادل السلعي، إلا أن اندلاع الصراعات ذات الطابع العرقي والانفصالي، خصوصاً في منطقة البلقان بعد تفكك يوغوسلافيا الشيوعية، استوجب السعي إلى معالجة القصور والضعف الذي تعاني منه أوروبا في الجانب العسكري، وعدم إلقاء مسؤولية معالجة الصراعات داخل البيت الأوروبي على الحليف الأميركي الذي يجيّر النتائج لمصلحته. وبناء على ذلك، تم الاتفاق خلال قمة "المجلس الأوروبي" الذي يضم رؤساء الدول والحكومات الأوروبية التي انعقدت في كولن في ألمانيا في 3 و4 حزيران 1999 على تجهيز نواة لقوة عسكرية أوروبية تابعة للاتحاد الأوروبي، وعندما همّت الدول المتحمسة بنقل القرار إلى حيز التطبيق اصطدمت بعقبتين أساسيتين: الأولى هي التناقض في السياسات الخارجية لدول المجموعة الأوروبية والتي تغذيها واشنطن، والثانية، التناقض بين دور هذه القوة الأوروبية المشتركة وحلف شمال الأطلسي. وفي حين دفعت فرنسا دول المجموعة إلى تسريع التشكيل بمعزل عن الولاياتالمتحدة وحلف الناتو، تحفظت بريطانيا التي تعكس باستمرار وجهة النظر الأميركية في كافة المشاريع التوحيدية الأوروبية. وعلى رغم التزام المجموعة التي يبلغ حجم قواتها العسكرية مليوني رجل، بفرز 100 ألف رجل للقوة المشتركة، وتزويد هذه القوة 400 طائرة و100 سفينة حربية، إلا أن ذلك لم يكن كافياً، إذ يتطلب المشروع وضع 60 ألف رجل في أرض المعركة لمدة سنة كاملة، كما يتطلب استنفار هذه القوة قبل شهرين على الأكثر من ساعة الصفر. ولكي تكون الاستجابة لهذه المتطلبات ممكنة فإن حجم القوات يجب ألا يقل عن 200 ألف رجل. وفضلاً عن ذلك فإن ثمة عقبات إضافية اعترضت التنفيذ منها، عدم توافر أدوات النقل السريع جواً وبراً، وعدم توافر نظام دفاع جوي متحرك ونظام استطلاع مبكر. على أن العقبة الكأداء الأساسية كانت في الممانعة المتعددة الأوجه للولايات المتحدة التي رأت في هذه الخطوة محاولة أوروبية فرنسية أساساً لتجاوز العملاق الأميركي، وتكريس استقلالية أوروبا عبر تمكنها من استخدام القوة المشتركة لتنفيذ سياسة خارجية خاصة. ولعبت بريطانيا التي تخصها واشنطن من دون غيرها من دول المجموعة الأوروبية بالمعلومات الاستخبارية السرية، وتشاركها بنظام الصواريخ البالستية البعيدة المدى ونظام أسلحة الدمار الشامل النووية، دوراً مهماً في إحباط المشروع على رغم مشاركتها فيه، وذلك من خلال العمل على إبعاد فرنسا عن مركز القيادة في القوة المشتركة، وعدم الجدية في التعاطي مع القضايا الأساسية المطلوبة. وبموازاة ذلك، تطورت الممانعة الأميركية إلى الاعتراض الكامل على المشروع مع مجيء إدارة بوش التي تصور المسعى الأوروبي على أنه محاولة فرنسية متكررة للالتفاف على الولاياتالمتحدة ودورها ومصالحها الاستراتيجية. ما يهم الآن هو البحث عن إجابات مرضية لجملة التساؤلات التي تفرض نفسها: هل يمثل التأييد البريطاني لتشكيل خلية أوروبية للتخطيط العسكري وقوات مستقلة عن حلف الناتو تطوراً في موقف لندن من قضايا السياسة الخارجية والأمنية الأوروبية، أم إنه مناورة جديدة لإحباط المسعى الأوروبي وإفراغه من مضمونه؟ وهل الصمت الأميركي على الاتفاق الأوروبي الجديد يعني أن واشنطن لن تتدخل لإحباط هذه الخطوة، أم أنها تنتظر الفرصة المناسبة للتدخل ووضع العصي في دواليب خلية التخطيط العسكري الأوروبية قبل أن ترى النور؟ وأخيراً، هل سيتمكن الخليط الأوروبي شبه الفسيفسائي من تجاوز خلافاته التي يعمقها تدخل واشنطن ومن توفير مستلزمات هذه الاستقلالية العسكرية والإقلاع بها نحو التحقق المنشود؟ * كاتب فلسطيني.