بعد سقوط بغداد في التاسع من نيسان ابريل الماضي، أبلغت قيادة التحالف الرئيس جورج بوش انها فشلت في العثور على صدام حسين وأفراد عائلته. وعقد بوش مؤتمراً صحافياً أثنى فيه على أداء الجيش الأميركي، وقال ان غاية الحرب تنحصر في ازالة نظام الطاغية وليس في اعتقال صدام حسين أو قتله. وكرر ما قاله سابقاً عن حرب أفغانستان، وكيف ان اختفاء الملا محمد عمر وأسامة بن لادن لم يؤثر على عملية تثبيت نظام معارض لنظام "طالبان". منذ شهر تقريباً تبدل موقف الإدارة الأميركية من مسألة اختفاء صدام حسين، خصوصاً أن مقتل ولديه قصي وعدي لم يربك المقاومة العراقية، كما توقع وزير الدفاع دونالد رامسفيلد. ولقد أثبتت الأحداث ان موت نجليه لم يخفف من نشاط المقاومة التي ازداد عنفها واشتدت ضرباتها. وهكذا شهدت أجواء الفوضى ولادة أكثر من عشرين تنظيماً أبرزها "جيش الحق" في حي الأعظمية غرب بغداد، و"الرايات البيضاء" و"جيش محمد". وكان من الصعب جداً على الاستخبارات الأميركية تحقيق اختراق في صفوف البعثيين والقوميين والجهاديين والاسلاميين الذين اختلفوا عقائدياً، ولكنهم اتفقوا على خوض الحرب معاً ضد قوات التحالف. ومن المؤكد أن تعاطف أبناء العشائر الذين وفروا السلاح والحماية لأكثر من سبعة آلاف مقاتل، ساعد على إنجاح العمليات التي نفذتها المقاومة داخل المثلث السني والجنوب الشيعي. واعترفت القيادة الأميركية إثر سقوط مروحية "تشانيو" بأن مستوى القتال قد تطور، وبأن مروحياتها تتعرض باستمرار لصواريخ من النوع المضاد للطائرات. ورأى قائد القوات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط الجنرال جون ابي زيد، انه من الضروري تغيير أسلوب المواجهة لأن المقاومة العراقية وضعت خطة استنزاف طويلة الأمد يصعب اجهاضها بالطرق الكلاسيكية. لذلك قرر "البنتاغون" التصدي لهذه الظاهرة المتنامية عن طريق اتخاذ قرار حاسم يقضي بضرورة العثور على صدام حسين، حياً أو ميتاً. وركزت شعبة الاستخبارات الخاصة بشؤون العراق على اجراء مسح لمنطقة تكريت وضواحيها على اعتبار ان صدام لا يمكنه اللجوء الى منطقة معادية لا يشعر فيها بالأمان والاطمئنان. كما أنه يحاذر الانتقال الى منطقة مشتعلة كوسط المثلث السني بسبب الخوف من وشايات الجواسيس المزروعين في كل المواقع. خلال هذه المرحلة واجهت قيادة التحالف إرباكاً إعلامياً محرجاً نتج عن تنافس المحطات الفضائية العربية على بث رسائل صوتية منسوبة الى صدام حسين. وتناوبت قنوات "ال بي سي" الفضائية و"الجزيرة" و"العربية" على بث تسجيلات صوتية بدأت في مطلع تموز يوليو واستمرت حتى منتصف تشرين الثاني نوفمبر. واعترض الجنرال ابي زيد على تصرف الحاكم الأميركي في العراق بول بريمر بسبب منع قناة "العربية" من البث لمدة محددة لأن تسجيلاتها المنسوبة الى صدام، تؤجج مشاعر العداء والكراهية لقوات الاحتلال والمؤسسات الأجنبية. ووصف ابي زيد الرئيس العراقي المخلوع بأنه قائد عاجز لا يستحق ان تنسب إليه مسؤولية تحريض المقاومة. وأعلن في تامبا ولاية فلوريدا ان هذه الرسائل المموهة تطلق خصيصاً لتضليل السلطة والتشويش على حملات البحث والتفتيش. وبرر الجنرال أبي زيد شكوكه بالقول ان صدام يحاذر في ارتكاب أي خطأ قد يقود الى اكتشاف المكان الذي لجأ اليه. لذلك نصح القيادة بضرورة التركيز على مطاردة عزة ابراهيم الدوري باعتباره وريث قصي في احتضان فدائيي صدام، اضافة الى عناصر الحرس الجمهوري. وبناء على هذا النصح، توقع بول بريمر أن يقود اعتقال النائب الأول للرئيس العراقي المخلوع، الى اكتشاف خلايا التنظيم المركزي الذي يشرف على عمليات المقاومة. ويدعي قائد القوات الخاصة التابعة ل"الاتحاد الوطني الكردستاني"، ان البحث عن الدوري أدى الى العثور على مخبأ صدام حسين. وهو بهذا الزعم يحاول منح الأكراد دور القوة المنتقمة من رئيس قتل حركة التمرد بقنابل النابالم وأسلحة الإبادة الجماعية. وكما أخضعت عملية اختفاء صدام حسين للتأويل والمبالغات... هكذا أخضعت عملية اعتقاله لنظريات المؤامرة ولافتراضات بعيدة كل البعد عن حقائق الرواية الرسمية التي أعلنها بول بريمر والجنرال ريكاردو سانشيز. فالرواية الأولى تقول ان وشاية صدرت عن أحد أفراد العائلة المقربين هي التي قادت الى اعتقال صدام قبالة قصره السابق المبني قرب نهر دجلة. في حين تزعم رواية أخرى انه اعتقل منذ أربعة أشهر حيث أودع في مقصورة بارجة حربية، وانه خُدر أثناء نقله الى "جحر العنكبوت". ويقول مروجو هذه الواقعة ان توقيت اعلان الاعتقال اختير بعناية لرفع شعبية جورج بوش ومساعدته على نسف حظوظ منافسيه في الحزبين، خصوصاً حظ هيلاري كلينتون التي وصلت قبله الى المنطقة لمشاركة القوات الأميركية بعيد الشكر. الرواية الثالثة تتحدث عن الخطأ الذي ارتكبه صدام من خلال مكالماته الهاتفية مع زوجته الثانية سميرة الشاهبندر. وتزعم صحيفة "ذي صنداي تايمز" على لسان سميرة، ان زوجها يحادثها اسبوعياً عبر الهاتف الخليوي. واستنتج البعض ان وسائل التنصت الأميركية المتطورة استطاعت رصد موقعه، علماً بأن صدام حسين لا يستخدم الهاتف الثابت والخليوي منذ حرب 1991، ليقينه بأن الأميركيين يتجسسون عليه بواسطة الأقمار الاصطناعية. والدليل أن الفرقة التي اعتقلته لم تعثر بين أشيائه على هاتف خليوي. في مطلق الأحوال، يبقى ان الادارة الأميركية أرادت استغلال عملية اعتقال صدام الى أقصى حد ممكن. ولقد هيأت لها الأجواء الإعلامية بطريقة تقرّب صورة الحدث الى ذهنية المواطن الأميركي. لذلك أطلقت عليها اسماً مستوحى من فيلم "الفجر الأحمر" الذي أنتج سنة 1984 وقام بدور البطولة فيه الممثلان باتريك سوايزي وجنيفر غراي. وتتحدث قصة الفيلم عن غزو سوفياتي كوبي لمنطقة أميركية تخرج منها مقاومة شرسة تتصدى للمحتلين الحمر. وبما أن وقائع الفيلم تعبّر بشكل رمزي عن ولادة المقاومة العفوية تجاه الاعتداء الخارجي، فإن قائد الفرقة التي اختيرت لمهاجمة صدام حسين الكولونيل جيمس هيكي، استخدم عنوان "الفجر الأحمر" للتدليل على التماثل بين ما يقوم به جنوده وما قام به أبطال الفيلم. ثم صاغ كلمة رمزية مشفرة مستوحاة من اسم حيوان شره نهم يلتهم كل شيء، ويقطن في المناطق الشمالية من الولاياتالمتحدة، وذلك بهدف التمييز بين "ولفارين" الأولى أي المزرعة الأولى و"ولفارين" الثانية. والطريف ان فكرة تخدير صدام حسين راجت في الشارع العربي كتبرير لتخاذله واستسلامه المهين. كذلك راجت فكرة أخرى بعد اصرار الأميركيين على اعتقاله حياً، كأن تستخدمه واشنطن "كبعبع" سنّي تهدد بارجاعه الى السلطة في حال قررت الغالبية الشيعية اقامة جمهورية اسلامية شبيهة بجمهورية ايران. وربما كان الخطأ الذي حدث بسبب قتل نجليه عدي وقصي هو الدافع الى اعتماد أسلوب الاعتقال لا القتل. وحجة الإدارة الأميركية في ذلك ان القتل سيحوله الى اسطورة خرافية أو ملحمة بطولية. وكل ما يبتغيه جورج بوش من عملية الانتقام ينحصر في إظهار الشخصية الخفية لصدام. أي شخصية الحاكم الخائف الاناني الذي يتخلص من خصومه لكي يحافظ على سلامته ونفوذه، ولو كان ذلك على حساب كرامته وعنفوانه. ومن جهة أخرى، يطمح بوش من وراء الاعتقال، الى إرغام صدام على الاعتراف بوجود أسلحة الدمار الشامل، ولو عن طريق الترهيب والتعذيب، تماماً كما كان هو يفعل مع خصومه. ويتهم بعض المعلقين البريطانيين الرئيس الأميركي باستخدام أسلوب الانتقام الشخصي من حاكم أمر باغتيال والده أثناء زيارته للكويت بعد التحرير. كما أمر أصحاب فنادق بغداد بوضع اسم "جورج بوش" على مماسح الأحذية أمام الأبواب الخارجية. ولقد لمح الكاردينال ريناتو مارتينو، رئيس دائرة العدل في الفاتيكان، الى أسلوب معاملة صدام حسين، فوصفه بأنه يشبه أسلوب معاملة أهل تكساس للبقر. وانتقد الجيش الأميركي لعرضه فيلماً يظهر الرئيس العراقي المخلوع، وهو يستسلم بإرادته المدمرة للطبيب الأميركي. وقال ان رؤيته بهذا الشكل تختصر مأساة الرجل، كما تؤكد خطأ النظرية القائلة بأن اعتقال صدام سيضمد كل الجراحات التي احدثتها حرب عارضها البابا يوحنا بولس الثاني. يستدل من غزارة الأفلام المعدة سلفاً، ان محطات التلفزيون في الولاياتالمتحدة وأوروبا، قد أُبلغت مسبقاً بموضوع اعتقال صدام. والدليل ان اكثر من مئة محطة عالمية بثت أفلاماً قديمة تظهر قسوة النظام السابق نحو رعاياه. ومن بين الأفلام التي عرضت في فرنسا قصة محاكمة جندي متهم بانتقاد الرئيس. وكان عقابه ثلاثين جلدة بسلسلة حديد، ثم قطع أذنه ولسانه على مرأى من مدنيين هتفوا "مرغمين" باسم الرئيس. وقارن أحد المراسلين بين الرئيس السابق الذي زعم انه صلاح الدين الجديد... وبين صورته الأخرى، كمتسكع فوق الأرصفة، وكمطارد يختبئ في جحر فأر. ويبدو من تكرار الحديث عن "صلاح الدين" الجديد، ان الولاياتالمتحدة تسعى الى محو صورة البطل التاريخي من أذهان الشعوب العربية. وبمثل هذا الاسلوب تعاملت مع جمال عبدالناصر بعد هزيمة 1967 مذكرة بأنه فشل في تقمص شخصية القائد التكريتي الذي قهر الغرب. والعبرة من كل هذا، كما تتوخى الدول الغربية - وفي طليعتها الولاياتالمتحدة - ان تقنع المشاهد العربي بأن صلاح الدين لن يبعث من جديد، وان تقليده أصبح "موضة" يرتديها كل طامح الى المجد والشهرة والسلطة. بقي السؤال المحير: لماذا رفض صدام حسين استخدام سلاحه، ان كان دفاعاً عن شرفه وكرامته، أم دفاعاً عن صورة المقاومة التي زرعها في أذهان المقاتلين؟ الجواب عند ديكتاتور آخر من اسبانيا. حدث اثناء مرض فرانكو بعد شيخوخة طويلة، ان سمع جلبة خارج المستشفى. ولما سأل الطبيب عن سبب الضجيج، أبلغه ان الشعب الاسباني جاء لوداعه. ونظر اليه فرانكو محتاراً، ثم سأله: ولكن، إلى أين سيسافر الشعب الاسباني؟ وعندما سئل صدام حسين من قبل اعضاء مجلس الحكم عما فعله بالشعب العراقي، أجاب بهدوء واستغراب: ولكن من يتحدث باسم الشعب العراقي غيري؟! * كاتب وصحافي لبناني.