ثمة الحاح من اليسار الطفولي الجديد المركب من اسلامويين وقومويين ارهقونا على مدى ما يزيد على نصف قرن بخلافاتهم والمجازر التي ارتكبوها بعضهم في حق بعض، وكنا على مدى هذا الزمن الصعب نعاني من نقدنا او شجبنا للولايات المتحدة في احتلالها لفيتنام مثلاً وتأييدنا للشعب الفيتنامي، لنصبح في نظر الاسلامويين شيوعيين كفرة، ونعاني من نقدنا ورفضنا للاتحاد السوفياتي في احتلاله أفغانستان، ونصبح في نظر القومويين المستفيقين من كابوس الفراغ الفكري على ادوات التحليل الماركسي، عملاء للاستخبارات الاميركية. ولطالما عانينا من الطرفين جراء انحيازنا الى التيارات المعتدلة في المقاومة الفلسطينية، الاميركية والرجعية في نظر الطرف اليساري والقومي، والشيوعية في نظر الطرف الاسلامي. هناك الحاح من هذين الاتجاهين المكون كل منهما من مجموعات متنافرة والحامل لأهداف متناقضة... الحاح على اعتبار كل تعاطف وتفهم لموقف الغالبية الساحقة من الشعب العراقي، في مواجهة الاحتلال الاميركي، مواجهة عاقلة متأنية، بدأت مستشعرة مقدار الحرية الضروري بسقوط نظام الظلم والظلام، على فرضية الممانعة لترتقي بعد اشهر الى المعاندة ثم الى المعارضة وتبقى مفتوحة على المقاومة الشاملة التي تستكمل بعدها المدني لتمتلك تدريجاً مسوّغات وصولها الى الشمولية، المدنية والعسكرية، في اللحظة المناسبة والمؤاتية، من دون ان يكون المستوى العسكري للمقاومة، والمحتمل دائماً، اطروحة ايديولوجية من شأنها ان تطيح بكل احتمالات بناء الوطن العراقي والدولة العراقية على مقتضى الوحدة والديموقراطية والتعدد والاصالة والمعاصرة... هناك الحاح كما ذكرنا على اعتبار هذا السلوك سلوكاً انحيازياً الى جانب المحتل وضد المصلحة الوطنية العراقية والمصلحة القومية عموماً والاسلامية كذلك. أليس محقاً، او هو متهاون بالحرية والاستقلال ومُفتئِت على المقاومين والمحرِّرين والمحرَّرين، من يصرح بأنه كان ينتظر ان المقاومة ستكون، او عليها ان تكون، جزءاً مقوماً او رافعة لمشروع نهوض عام؟ وهو يجد ان اهم ثمراتها تحولت الى وقود في سلاح طرف من اطراف الطبقة الحاكمة في صراعها ضد الاطراف الاخرى ومن اجل الاستمرار في السلطة من دون ان يكون هذا الاستمرار قائماً على خطة او وعد بالنهوض والنمو!!! مقاومة في العراق ضد الاحتلال الاميركي؟ سلمنا، ولكن هل هي مقاومة وطنية؟ انتهت المقاومة في لبنان الى ان تكون مقاومة شيعية حصراً ثم مقاومة بعض الشيعة حصراً كذلك؟ هنا لا بد من التساؤل عن الاسباب الخفية التي ادت الى ذلك. من دون التوقف السطحي عند التساؤل لماذا لم يحول "حزب الله" المقاومة الى نطاق اوسع يتعداه من دون ان يلغي ثقله او يقلل منه، او التساؤل: لماذا كفت الاحزاب واستنكفت الطوائف اللبنانية عن المشاركة الفاعلة؟ هل يمكن ان تكون المقاومة العراقية وطنية بشمول هذا الوصف، اذا بقيت محصورة في حدود عشرين في المئة من فئة سياسية واجتماعية ودينية وسياسية عراقية لا يتعدى عديدها نسبة الخمسة في المئة؟ حتى اذا دققنا في الحساب والقراءة، نجد ان الغالبية الساحقة من هذه النسبة هي التي مارست القمع والقتل في حق الشعب العراقي تحت ظل النظام البائد، ما دفع الشعب العراقي الى أن يقع في الخطيئة التي يجب تفهمها، اعني فرحة بالتحرير الملتبس بالاحتلال او الاحتلال الملتبس بالتحرير. استطاعت المقاومة العراقية، الحصرية من دون مبرر ولو مبالغة، كما هي حال المبرر لحصرية المقاومة في لبنان بلحاظ ان الاحتلال كان للجنوب موطن الشيعة، ما امكن معه تفهم ان تكون المقاومة شيعية، مع الاخذ في الاعتبار اموراً اخرى مصرحاً بها وبسيطة، في مقابل امور اخرى مسكوت عنها وعميقة... اذاً استطاعت هذه المقاومة العراقية ان تقتل اكثر من ثلاثمئة من افراد الجيوش المحتلة، الاميركيين على العموم، ولكن العراقيين الذين قتلوا بسلاح هذه المقاومة لا يقل عددهم ان لم يزد كثيراً على عدد القتلى الاميركيين والاجانب عموماً. والفارق الاهم ان الضحايا العراقيين هم في حدود التسعين في المئة ابرياء تماماً ومن دون جدال، وفيهم عدد كبير من الاطفال والنساء وضحايا الصدفة!!! في حين ان العشرة في المئة الباقين ليسوا مرتكبين وانما هم متهمون من وجهة نظر الذين قتلوهم لأسباب تتصل بالاختلاف في وجهات النظر وبالانتماء السياسي او الطائفي. وأكثر الذين قتلوا ابرياء من المقاومين، هم الذين كانوا يرتكبون قتل الابرياء قبل الاحتلال. واذا سلمنا جدلاً بأن لبعض الفلسطينيين ان لا يفرقوا بين عسكري يهودي ومدني، باعتبار ان الكيان الاسرائىلي هو كيان عسكري اصلاً وفعلاً، فماذا نفتي في شأن المدنيين العراقيين؟ اخشى ما يخشاه البعض ان يكون التساهل في حق اي مدني آخر هو البداية والاساس في تسويغ اعتبار قتل الابرياء العراقيين وتخريب دورة الانتاج والحياة العراقية مقاومة وطنية! تأسيساً على هذه القراءة، يرى البعض ان من حقه ان يتساءل، وهو متحمس جداً لتحرير العراق من الاحتلال، عما اذا كانت هذه الذهنية العراقية المقاومة من شأنها ان تحمل مشروعاً وطنياً وحدوياً للعراق بعد خروج المحتل؟ استطراداً يهم الكثير من شرفاء هذه الامة الذين تعاطفوا مع الشعب الفيتنامي والكوري والجزائري وفرحوا بالتحرير كأنهم مواطنون فيتناميون وكوريون شماليون وكمبوديون وجزائريون، يهمهم ويهمنا ان يؤكدوا ان استقلال اي بلد لا يكون حالاً ناجزة في اي محطة من محطاته، وانما هو مشروع في حال انجاز دائم، وأي تقدم نوعي على طريقه، لا يسوّغ التقصير في تحقيق المحطة التالية، ان التقصير والقصور في تحقيق المحطات اللاحقة هو الغاء وحذف وتشويه للمنجز السابق. ومن هنا فإننا لا نكون في عداد الخونة والمتراجعين عن قناعتنا، عندما نعلن ابتئاسنا وغمنا مما آلت اليه حال الجزائر بعد التحرير، حيث امكن بعض البسطاء وأهل المعاناة مما اعقب الاستقلال، ان يعلنوا بتردد وحذر وحيرة وحياء وغصة، تفضيلهم مساوئ الاستعمار الفرنسي على مساوئ دول الاستقلال. ويلاحظون ان تبعية دول الاستقلال للمستعمر الفرنسي في كل شيء، استمرت وتوثقت وزيد عليها تبعيات اخرى لمراكز امبريالية متعددة، ما وفّر للمستعمر الفرنسي خصوصاً، كل ما كان يحققه من مكاسب من خلال الاستعمار المباشر مزيداً اليها مكاسب اخرى. ولكن هذه المرة من دون كلفة سياسية او اقتصادية وتبعات أمنية ومصاعب داخلية مع الشعب الفرنسي الذي كان في صفوفه معارضون للاستعمار والفرنسة، ما عدا الحزب الشيوعي الفرنسي، كما هو معلوم. ولم يخسر من الاستقلال الجزائري الا الجزائريون وذوو الاقدام السود، وتضاعفت اعداد الجزائريين الفارين من غول الفقر في الجزائر الى احياء البؤس في اطراف المدن الفرنسية، وزاد الامر بأن اندفع عشرات بل مئات الآلاف من فقراء الاستقلال الجزائري ومنكوبي التسيير الذاتي، نحو اقطار اوروبية اخرى خارج الفرنكوفونية، ما اضطر هذه الاقطار الى تشكيل خفر سواحل متخصصين باعتقال المهاجرين وردهم الى بلادهم او الى المجهول! أما كمبوديا فإنها وبعد التحرير وفي ظل بول بوت عادت لتنتظر الأمير فوردون سيهانوك منقذاً لها من المجازر والانقسام الداخلي والجوع، واما كوريا الجنوبية فاننا نعترض على الكثير مما فيها من نفوذ اميركي ومن تفاوت طبقي، على قاعدة الاستمرار في ارتفاع معدلات الانتاج والنمو من دون عدالة طبعاً، في مقابل كوريا الشمالية التي تمتلك السلاح النووي ولكنها مضطرة الى ارسال عشرات الألوف من عمالها الى الاتحاد الروسي ليعملوا سخرة - من دون اي اجر - ولمدة عشرات السنين المقبلة وفاء للديون التي ترتبت عليها خلال تعاونها مع الاتحاد السوفياتي البائد. قد تكون فيتنام هي الاقل فرصة لتحديات الاستقلال ما بعد التحرير، ولكنها ما زالت مصنفة في القسم الاسفل من لائحة الدول النامية، اي المتخلفة ولكنها تلطف تخلفها بحيوية معروفة عن الشعب الفيتنامي من دون ان تنهض هذه الحيوية بأعباء التقدم والاستقرار المعيشي النسبي. وها نحن في لبنان لا نكاد نتذوق جرعة من الفرح بالتحرير الا وانفتح لنا سجل التحرير وخزانه العظيم عن جرعة اخرى، ولكننا كلما فرحنا بالتحرير وارتفعت في قلوبنا قامات الشهداء وقيادتهم الكريمة، وخرجنا الى فضاء الوطن والمواطنين، اعترتنا الحسرة والغصة، لأن حال التردي في السياسة والاجتماع والاقتصاد، تسارعت وتيرة نموها بعد التحرير، حيث بات البعض منا، على سوء نية او حسنها، يتجرأ على التساؤل عما اذا كان التحرير رشوة لنا لنرضى به بديلاً عن الاستقرار والوحدة والتقدم والنمو والحيوية والصلاح والاصلاح!!! ولعلنا، بعد التحرير الثاني المحتمل والصعب جداً جداً سنقف مرة اخرى امام حال من الالتباس بين الاحتلال والتحرير، غاية الامر ان الاحتلال المقبل على حسب مقاييس المقاومة الحالية، سيكون احتلالاً وطنياً، تماماً كالاحتلال الوطني الذي استمرت ثلث قرن في العراق وأفقره في كل شيء من النفط الى الشعر، ومن النوم الى الحلم، وتماماً كذلك كالاحتلال الوطني العراقي للكويت، الذي كان مفصلاً في تاريخ التراجع العربي على الطريق الاميركي، وأسس لحال من التبعية الشاملة، التي تفوق في مظاهرها وتأثيراتها وأعماقها، ما حدث بعد اغتصاب فلسطين... هل هذا الكلام، هل هذه المخاوف، هل هذه المحاذير المتوقعة، دليل على ان من يتحفظ على المقاومة في العراق هو في الصف الاميركي ومن دعاة الاحتلال والاستعمار وهو كافر في المحصلة تجب ابادته؟ لعلنا مدعوون، نحن وفي ما يخصنا، والاميركيون في ما يخصهم، الى التدقيق والفرز الدقيق والمسؤول بين الارهاب والمقاومة، وما لم تحدد مفاهيمنا بدقة ومسؤولية، فإن سلوكنا سيبقى مرصوداً بالأخطاء القاتلة، بل سوف تبقى كل جهودنا الفوضوية على طريق التحرير والتحرر، تصب في طاحونة الاعداء، اي في مزيد من التبعية والانقسام والفتن والتخلف والفقر والجهل والتردي. لماذا يقف او يوقف الشعب العراقي، غالبيته الساحقة من دون فرق الا في حدود ضئيلة جداً، بين القوميات والاديان والمذاهب والاحزاب والمناطق، لماذا يوقفون امام التهمة باللاوطنية من جهة وأمام حال من التجاهل والتجهيل من جانب اسلامويين انتبهوا لتوهم الى عروبتهم بعد ان تنصلوا منها طويلاً وهزئوا بها، ومن جانب قومويين خلطوا الجاهلية بالاسلام، والتخلف بالحضارة، والعلم بالجهل، والعصبية القاتلة بالنهضة، والعروبة الرحبة بالعنصرية المقيتة، والاستقلال بالتبعية الفعلية المعاد انتاجها على خطاب وطني وقومي غامض ومراوغ مسطح واستفاقوا لتوهم على اسلاموية ترحيلية، ترحل الحاضر الى الماضي فتقفل باب الذاكرة على المستقبل، وتعود لترحل الماضي الى الحاضر والمستقبل، فتقتل الماضي في المستقبل وتقتل المستقبل في الماضي، تقتل الآخر في ذاتها وتقتل ذاتها في الآخر، تقتل ذاتها اذ تقتل وتقتل الآخر اذ تقتل ذاتها ويعم الموت والحزن والغم والخطاب المجلجل الذي لا يزيح ذبابة عن جثة قتيل ولا استبداداً او مصادرة للحرية عن قلب طفل او ذرة تراب. وماذا عند الاوروبيين من الرسميين طبعاً المحتمسين لنا، ومن فرنسا الى ألمانيا، مشكورين، ولا نشك في عواطف احد؟ ماذا يعدون لنا، لشراكة مستقبلاً وعلى اساس من التكافؤ والمساواة؟ ام انهم يستخدموننا لتحسين شروط شراكتهم مع واشنطن او تعريض هامشهم في الدفتر الامبراطوري الاميركي، حتى اذا ما ارتبك الاداء الاميركي بسبب الحماقات المتراكمة مالوا الينا قليلاً، فاذا ما اشتد الساعد وارتفعت نسبة الغرور الاميركي ساوموا علينا وقدموا التنازلات على حسابنا!!! ولماذا تراخوا في مسألة "خريطة الطريق" التي شاركوا في اختراعها ورسمها ورعايتها ثم تحولت الى مشروع من دون رعاية او برعاية اميركية منفردة ومفرغة عملياً لشارون؟ وهل اشترى الاوروبيون بها شيئاً لدولهم ومستقبلهم من مستقبلنا؟ هل نسينا رفاقنا الروس القدامى؟ اذاً نستدرك من دون ظلم لأحد، واليقظة لا تضر. عوداً على بدء نرانا مضطرين الى قراءة متأنية لمسرح عمليات المقاومة لنتبين دلالاتها. وهنا يحسن على المتابعين الموضوعيين لتطورات الوضع العراقي ألا يتجاهلوا تاريخ العراق في حضن النظام القاسي. فالفلوجة خصوصاً ومحافظة الانبار عموماً هي الاكثر تداولاً اعلامياً باعتبارها ابرز قواعد القتال ضد الجيش الاميركي، حسناً ولكن هل يجوز ان نقرأ الاخبار مجتزأة؟ الا يحسن ان نقرأ اخبار الصراعات الداخلية في الفلوجة وحولها، اخبار التفجيرات وعشرات القتلى في مقرات الشرطة وقريباً من المدارس وغير ذلك مما يكاد يكون يومياً على رغم الاغفال والتجاهل، وأين يقع خبر الهجوم بالقنابل والمتفجرات على كبير من مشايخ عشائر الدليهم ماجو الدليمي وسقوط عدد من الاطفال قتلى مع عشرات الجرحى في المنزل وجواره؟ الواقع، اتكالاً على المعرفة بالحاضر، ان عشائر الانبار ومنها الفلوجة وعاصمتها الرمادي قد قسمت في العدد البائد الى منتفعين ومحرومين من نعم النظام الذي كان يخطط لذلك لأن سلطته تقوم على التجزئة وتأجيج العداوات. وبعد فترة من انتهاء الحرب العراقية الايرانية كان لبعض عشائر الدليم مطالب على السلطة، فرفضت وحدث شيء يشبه الانتفاضة في هذه العشائر فضربت مضاربها بالمدافع وبالطائرات وقتل المئات، وترجحت كفة عشائرية على كفة، ترجحت الافخاذ التي انخراط شبابها في انظمة الامن وأجهزته وشاركوا في عمليات القتل التي شملت العراق كله، خاصة بعد انتفاضة عام 1991، فازداد الانقسام المكبوت بالقوة عمقاً وحده الى ان انفجر بعد الاحتلال الاميركي، مقاومة في صف المستفيدين الخائفين من المحاسبة، ومعارضة لهذه المقاومة من جانب المهمشين وذرية المقتولين وكانت الاندفاعة نحو الانخراط في الشرطة تعويضاً عن الماضي، والدخول في مجلس الحكم ومتفرعاته. ما يعني في النهاية ان المقاومة في مواقعها وان كان على نسبة انقسامية وصراعية اقل في سامراء وتكريت والموصل وكركوك وبعض احياء بغداد 8 من 28 حياً... ما يعني ان المقاومة منحصرة في جزء ضيق جغرافياً وبشرياً من شطر ضيق في العراق وطناً وشعباً. * كتبت هذه المقالة قبل اعتقال صدام اي الحدث الذي يمكن ان تكون تأثيراته جوهرية على العمل العسكري سلباً او ايجاباً ويمكن ان لا تكون.