المشكل الرئيسي الذي يتوقف على حله الانطلاق لحل مشاكل العراق الأخرى هو الاحتلال. والمشكل الرئيسي الذي حال حتى الآن دون انجاز رحيل الاحتلال حل المشكل الأول هو عدم تحقيق اجماع وطني عراقي على عراق ما بعد الاحتلال، وإلى درجة أقل، على كيفية انهاء الاحتلال، أو صيغة التعامل مع اختلاف الاجتهادات في مواجهته. فمند سقوط النظام السابق واحتلال العراق، سعت الإدارة الأميركية، ولو بتخبط واحفاقات، إلى بسط هيمنتها العسكرية والسياسية دعك من نهب الثروة، بهدف إدامة تلك الهيمنة من خلال إعادة ترتيب ميزان القوى الداخلي. وذلك ليغدو العراق تابعاً تماماً، مؤمركاً مصهيناً، مع ابقاء قواعد عسكرية لضمانة التبعية الداخلية، ولأهداف استراتيجية اقليمية ودولية كذلك. الأمر الذي تعارض مع المصالح العليا للشعب العراقي وأمنه وتطلعاته وهويته العربية من دون إلغاء الكردية والإسلامية من دون إلغاء حقوق اتباع الديانات الأخرى، أو فرض طائفية سياسية. وتعارض أيضاً مع غالبية الأحزاب والقوى والنخب السياسية والثقافية المحترمة، ناهيك عن عدائيته للمنطقة العربية - الإسلامية من حول، بل لغالبية دول العالم. فالاحتلال ومشروعه حُكم عليهما منذ الأسبوع الأول، ويشبه اجماع عراقي، ولو موضوعياً، وبأشكال تعبير مختلفة، بالرفض. وكذلك كان الموقف اقليمياً وعالمياً عموماً. هذا يفسر لماذا دخلت إدارة بوش ورطتها في العراق، وانكشف تخطبها، وتتابع فشلها. ويفسّر لماذا لم ينجح "مجلس الحكم" حين لم يخض مفاوضات جادة، معلنة، لانهاء الاحتلال. ولم يحتج علناً على جرائم الاحتلال ضد الناس، ولم يجعل همه الأول الموازي تحقيق اجماع وطني حول عراق ما بعد رحيل قوات الاحتلال، بما يؤمن الوحدة والطمأنينة. فغرق بعض أطرافه في هم التسلل إلى المواقع الرئيسية في الوزارات والإدارات، لا سيما أجهزة الأمن ومشروع نواة الجيش، وبهذا حُجم دوره. ولم ينقد سمعته التي كانت بحاجة إلى تبرئتها من تهمة الخضوع لبول بريمر، أو العجز عن التحرك خارج موافقته. أما الموقف من دخول القوات التركية أو الصراع على المواقع في الوزارات والأجهزة، أو ما يشاع عن خلافات جانبية سرية مع بريمر، فلا يغير من الأمر شيئاً. بل جاءته المكافأة من الأميركيين أنفسهم الذين اتهموه بالعجز والتقصير. وأرادوا تحويله إلى أداة تنفذ لمشروع بريمر الجديد. الأمر الذي كشف الخلل الاستراتيجي الخطير في عدم اعطاء الأولوية لرحيل القوات، بموازاة أولوية عقد اجماع وطني عهلى عراق ما بعد التحرير والاستقلال. وبالطبع بما يمتد أوسع من المشاركين في المجلس، أي السعي على مستوى الشعب العراقي وقواه الأساسية الكبرى الأخرى. وقيل ان هذا ما سعى إليه السيد محمد باقر الحكيم شخصياً قبل استشهاده. لهذا، غدا أكثر الحاحاً أن يتنبه المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والحزب الإسلامي والأحزاب الكردية إلى الخلل في "استراتيجية" العمل من خلال مجلس الحكم وترك النضال السلمي الشارعي ضد الاحتلال، ومن ثم العودة إلى حوار عراقي - عراقي للاتفاق على صيغة اجماع وطني على عراق ما بعد الاحتلال، وذلك ليطمئن الجميع على مستقبلهم، وتُسد كل الثغرات التي تطيل أمد الاحتلال، أو تعرض العراق إلى فتنة طائفية وقومية، أو تسمح لمشروع التقسيم الذي أعلن أخيراً من بعض الأطراف النافذة في أميركا بأن ينزل إلى التطبيق. القوى الشعبية خارج مجلس الحكم، وفي مقدمها المرجعية الشيهية وهيئة العلماء والمسلمين وتيار السيد مقتدى الصدر وعدد مهم من الأحزاب والشخصيات الإسلامية والوطنية والقومية والديموقراطية واليسارية، شكلت مناخاً واسعاً ضد الاحتلال، وعملت بجدارة على مشروع بريمر. ولكن هذه، بدورها، لم تدخل في بلورة مشروع للاجماع الوطني، لا سيما بسبب إشغال بعض أطرافها الناشطة شارعياً في صراعات جانبية من قبل بعض أطراف مجلس الحكم ممن لا يرون إلا طريقاً واحداً في مواجهة الاحتلال. وكذلك تفعل بعض الاطراف المقاومة المسلمة من ضيقي الافق ممن يلجأون الى الاغتيالات والاعتداء على الهيئات الدولية والسفارات. وهنا نجد ايضاً من لا يرون الا طريقاً واحداً للمقاومة، وحصره في جانبها المسلح. فالتيار الشعبي المقاوم سلمياً بحاجة الى ان يبادر بمد جسور التفاهم في ما بين كل الاطراف العراقية بمن فيها اطراف في المقاومة المسلحة وفي مجلس الحكم،من اجل الاتفاق على ترحيل الاميركيين كلياً من العراق، كل وفقاً لطريقته واجتهاده. واذا عزّ مثل هذا التفاهم فيتفق على تجنب التنازع وتحريم الاقتتال الداخلي، كما فعل الفلسطينيون في مرحلة ما بعد اتفاق اوسلو وما زالوا يفعلون. وقد اثبت نجاحه على رغم مروره بلحظات حرجة جداً. فالخطر الذي يتهدد الساحة العراقية بعد الاحتلال ومشروعه لا يأتي من تعدد الاجتهادات وشدة الاختلاف حولها، وانما من الاغتيالات والاقتتال الداخلي. فالاختلاف في الاجتهادات او الاستراتيجيات في مواجهة الاحتلال شيء والذهاب الى الاقصى في الاتهامات والعدائية سواء كان ضد المقاومة بشكلها ام ضد كل من يشارك في مجلس الحكم شيء آخر. فالعراق لا ينقذ بالعودة الى الاقصاء او بالعقلية التي كانت سائدة في النظام السابق ولكن معكوسة. ولعل بيان "هيئة العلماء" الذي حذر من تشكيل ميليشيات محلية وما قد تؤدي اليه من اقتتال داخلي، يشكل جرس انذار يتطلب الاسراع في تصحيح الوضع، لا سيما بعدما اصبحت ثمرة طرد الاحتلال وافشال مشروعه دانية القطاف. وهذا، بالطبع، ليس عجباً اذا عرفت مثله شعوب عدة وهي تقترب من الانتصار. ويبدو ان القوة التي يمكن ان تلعب دور "العامل المساعد" لتفعيل مركب او معادلة، الاجماع الوطني هي المرجعية الشيعية وهيئة علماء السنة. فهاتان القوتان المعنويتان هما الاقدر على تشكيل نواة لوفاق وطني بما في ذلك مع الاكراد والتركمان وسائر المكونات الاخرى للشعب العراقي. فهاتان المرجعيتان اذا ما تفاهمتا، وهما الاقرب للتفاهم من السياسيين، وحددتا الاتجاه العام، فباستطاعتهما انقاذ الوضع الداخلي من ضيق أفق الطائفية السياسية والاستعداء القومي والنزعات اللاعروبية واللااسلامية. فالعراق بحاجة الى تقريب القلوب والعقول والنجاة من خطر النزاعات العدائية الداخلية. وبهذا يُسهل التقريب بين القوى السياسية حول عراق ما بعد الاحتلال، بما يطمئن الجميع على مستقبلهم ويجعل من التعددية والانتخابات مصدر وحدة واقتراب من العدالة في ظل الحرية والنهوض وليس مبعث تفجير للتناقضات. على ان الانقاذ الداخلي يحتاج الى دعم عربي ايراني، وان أمكن تركي، لتعزيزه وابعاد خطر تحويل العراق الى قاعدة للأمركة والصهيونية او الى بؤرة فتنة وانقسامات بلا ضابط وهداية.