يجمع شارع "الاستقلال" التاريخي في اسطنبول الأطياف التركية الشبابية كافة من دون أي استثناء: من الإسلاميين الى اليساريين المتطرفين، الى أبناء المدن المتذمرين من اجتياح الشرقيين لشوارعهم، واخيراً الشيوعيين التقليديين والثوريين. ويصادف المار أيضاً مجموعات من شباب الهيب هوب ومثليي الجنس. واللافت في هذا الشارع الذي يبدأ من برج "غالاتا" التاريخي وينتهي في ساحة تقسيم، هو وجود اليساريين ونشاطهم الدؤوب في التعبير عن آرائهم وحتى غضبهم أحياناً. ولكن هذه الصورة المتنوعة والجميلة تلاشت مباشرة بعد الهجوم الارهابي الذي استهدف القنصلية البريطانية وحوّل الشارع الى مسرح للخوف والدم والدموع والزجاج المتناثر هنا وهناك. يُمكن للمارة في الشارع ان يلاحظوا في منتصفه المكتب الطالبي للحزب الشيوعي التركي وهو على رغم جمال هندسته المعمارية من الخارج، يُذكّر مدخله وسلالمه المهترئة بمباني بيروت المدمرة إبان الحرب الأهلية. ويشعر الداخلُ الى المبنى من خلال نظرات أصحاب المحال القريبة وعمالها بأنه مراقب بل وحتى غير مرغوب فيه في هذا المكان. ويعيش الحال نفسه لدى مقابلة الطلاب الشيوعيين. فهم مشككون من اللحظة الأولى بنيات الوافد الجديد. فالغريب "بورجوازي" حتى يُثبت العكس، تماماً كما في الانظمة القضائية الشيوعية. يسأل محمد محمت بالتركية: هل انت من عربستان؟ فعربستان هي موطن جميع العرب بالنسبة الى شريحة كبيرة من الشعب التركي. ثم يعود ويسأل: "ابيض ومن عربستان"، فيما ينساق آخرون الى نمط تحليلي أعمق: "بورجوازي من عربستان". لا يتحدث احد الانكليزية وبعد صولات وجولات التقيت شاباً يتحدث الفرنسية. فهو معجب بالثورة الفرنسية وبكتابات روجيه غارودي. وبنبرة ايديولوجية ومعبرة عن ايمان عميق يبدأ حسين 20 عاماً بشرح صراع الطبقات داخل المجتمع التركي: "هناك البورجوازيون والفاشيون وانصار الشريعة اما نحن فنؤمن بأن حل مشكلات تركيا يكمن في تطبيق الاشتراكية". معظم الطلاب في المكتب جاءوا من خارج اسطنبول وخصوصاً من المناطق الشرقية المحافظة والفقيرة في آن. فالفقر يرتسم على وجوههم وشواربهم المقلمة على النمط الستاليني. يكن هؤلاء الشباب للزعيم السوفياتي جوزيف ستالين معزة خاصة. صورته معلقة الى جانب رسمين ل"المنظّر" فلاديمير لينين و"الاب" كارل ماركس. لا تقف شيوعية المكتب عند هذا الحد فالهاتف والفاكس "شيوعيان" ايضاً باهترائهما الظاهر للعيان. كما يضفي الطلاء الاصفر على جدران المكتب الطالبي وابواب المكتب الخشب القديمة على المكان طابعاً شيوعياً تقليدياً. يدافع سردار 21 عاماً عن زعيمه ستالين قائلاً إنه "اضطر الى قتل الفلاحين الاثرياء كولاك في سبيل تطبيق ماركسية صحيحة، ولكن قتله للرفاق الشيوعيين موضع نقاش وسجال". وبعد نحو ساعتين، يظهر في الشارع "الثورويون الديموقراطيون" وهم يحملون رزمات من مجلاتهم السيئة الطبع يبيعونها للمارة مطلقين صرخاتهم المنددة بالحكومة والنظام. تقول سما 38 عاماً "الثوروية" إنها تعرضت ورفيقتها للسجن في تركيا بسبب افكارها الثوروية. وتبدأ الشرح عن مجلتها "الثوروية" التي تحوي صور معتقلين توفوا في السجون التركية، وتؤكد بنبرة حزينة وخشنة اجترحتها لنفسها من قسوة السجون، ان اعضاء الحزب الشيوعي التركي المرخص من جانب الحكومة "يجيدون التحدث فقط ولا يطبقون اياً من افكارهم. انهم متواطئون مع النظام". اما الطلاب والمارة العاديون فيختلفون في شأن تحول الشارع الى مرتع للنشاطات اليسارية. البعض يرى وجوب منعها، فيما لا يبدي آخرون اي انزعاج منها. لا ترى اصلهان 18 عاماً أي طائل من وراء توزيع المجلات والجرائد الماركسية في شارع الاستقلال: "انهم سخيفون ويجب منعهم من توزيع منشوراتهم السخيفة". ولكن اصلهان تشير الى ان مصدر إزعاجها لا يأتي من هؤلاء ولكن من الوافدين من الشرق: "انهم يجتاحون هذا الشارع وهذه المدينة والمشكلة تكمن في انهم جهلة ولا يجدون في اكثر الأحيان عملاً، الأمر الذي يدفع بهم الى عالم الجريمة". ويشتكي كيريم 18 عاماً الطالب في جامعة اسطنبول من الشيء نفسه بل ويمعن في وصف الشرقيين ب"الأغبياء": "لا يفهمون شيئاً ويغيّرون صورة اسطنبول عموماً وشارع الاستقلال خصوصاً الى الأسوأ". أما عن الشيوعيين ونشاطاتهم فيقول: "ان الشيوعيين حالمون واذا كانوا لا يزعجون احداً فلا بأس بهم". ولكن كيريم يستطرد قائلاً: "إن المشكلة التي نعاني منها في اسطنبولوتركيا هي أميركا. فالاميركيون يستغلوننا ويغشوننا. نحن اليوم نرزح تحت رحمتهم". ويضيف كيريم بحرقة: "كلما يحدث شيء ما في المنطقة يستدعوننا وكأننا خدم لديهم". اما إلموت 26 عاماً الالمانية، فترى ان شارع الاستقلال مختلف "فهو يشمل تركيا الحديثة والمختلفة تماماً عن تركيا الداخل أي الشرقية". ولكن إلموت التي تقيم حالياً في تركيا تؤكد بقوة وحدّة ظاهرة في معالم وجهها، ان هذا الشارع على رغم تنوّعه لا يذكرها بتاتاً بشوارع أوروبا. لماذا؟ "لأن الشباب الاتراك يتحرشون بالمارة وهم مزعجون وغير مهذبين". وتتابع باشمئزاز: "انه حتماً ليس كأوروبا". وفي المقابل، يعتبر مدحت 42 عاماً القادم من شرق البلاد ان حديث هؤلاء غير صحيح. ويستطرد بنقمة: "نعم نحن نأتي الى اسطنبول لأن الحكومة لا تبني لنا المصانع ولا تؤهل مناطقنا. وعلينا ان نأتي الى هنا لكي نعيش. أنا أعمل في شارع الاستقلال منذ اعوام عدة ولي كل الحق في البقاء والاقامة هنا". ويستهجن الحديث قائلاً: "لماذا لا يجرؤون على الحديث معي ويكتفون بالتذمر لاجانب. انهم جبناء". وعن النشاط الشيوعي واليساري في الشارع يعتبر مدحت الذي يضع صورة للزعيم التركي كمال اتاتورك في محله، ان "لا بأس بهم اذا كانوا لا يزعجون الناس. لا مشكلة لدينا معهم". تسهب كيت 17 عاماً الفتاة الروسية، في الحديث عن أمراء بلادها الذين قدموا الى هذا الشارع في القرن التاسع عشر وبدأوا بتعليم السكان الباليه ورقص الصالونات، ولكن عندما تأتي على ذكر حاله اليوم، فإنها لا ترى فيه اكثر من مكان للتسوق، نظراً الى وجود العديد من المحال التجارية. وأكثر ما يزعج كيت التي تعيش في اسطنبول، الهندسة المعمارية لشارع الاستقلال ف"المباني لا تشبه بعضها بعضاً، ترى فيها الجديد والمهترئ. انها ببساطة بشعة". والشارع برأيها يسير في طريقه نحو الأسوأ وانه حتماً لم يعد أوروبياً، كما كان قبل قرن من الزمن. ويذكر المؤرخون ان المقاهي والمسارح والمطاعم الاوروبية في القرن التاسع عشر منحت الشارع الذي كان اسمه العثماني "كادي كبير"، مسحةً حضارية، في وقت كانت ترزح فيه غالبية مناطق الشرق في حال غارقة في التخلف. ولم يعد الشارع اليوم الى عهده السابق لناحية التعدد الثقافي، لكن نظرة سريعة الى المراكز المهمة التي يضمها، تكفي لاعطاء فكرة عن اهميته. فهو يؤوي قنصليات الاتحاد الروسي والسويد وفرنسا والمملكة المتحدة وهولندا وايطاليا واسبانيا، كما يضم اهم المراكز والمحال التجارية المحلية والاجنبية. انه شارع استقلال باطيافه والوانه الجميلة بتنوعها. ولكن يوم الخميس في 20 من الشهر الجاري وقع الانفجار الرهيب، وبدأ الناس في الشارع يركضون ويصرخون هائمين في الازقة المجاورة. في تلك اللحظة، وحّد الخوف الجميع. لم يعد الشارع كما كان. الدموع والدماء سحقت كل شيء. العابر في تلك اللحظة لن يشاهد الا بقعاً من الدم على الارض وزجاجاً متناثراً بكثرة امام المحال التي كانت بالامس مكتظة بالزبائن. كانت "الحياة" ربطت موعداً مع طلاب يساريين في اليوم نفسه، ولكن المكتب اُقفل باغلال ثقيلة. وبعد مضي يومين على الانفجار، خرج عشرات الطلاب الى الشارع وهم يحملون الصحف والمجلات والمناشير السود. يصرخ اونور 23 عاماً عالياً مع رفاقه وهو يوزع المناشير: "الشريعة والامبريالية تؤديان الى الارهاب". قد لا يعود شارع استقلال الى ما كان عليه قبل الانفجار، ولكن صور الشارع المنكوب تعطي زائره مغزىً جديداً. ان الارهاب صنارة التعايش.