من المؤكد أن جوزف ستالين، حين بعث شيوعيين متحمسين ليقتلوا ليون تروتسكي في منفاه المكسيكي في العام 1940، كان عبر تلك الخطوة يعبر عن ندمه لأنه، في ذروة اضطهاده للعناصر اليمينية واليسارية في قمة السلطة السوفياتية، بين نهاية سنوات العشرين ونهاية سنوات الثلاثين، اعدم معظم خصومه واستثنى تروتسكي، تاركاً إياه يسلك سبيل المنفى. حتى الآن، لا يزال من الصعب الجواب على السؤال المتعلق بما حدا بستالين إلى ترك تروتسكي يهرب بدلاً من اعدامه أو اغتياله. لقد كان حظ تروتسكي في ذلك أفضل من حظوظ بوخارين وزينوفياف وكافيف، والمئات غيرهم من القادة الشيوعيين الذين شاركوا لينين قيادة الثورة البولشفية ثم راح ستالين يحصدهم حصداً، في محاكمات لعلها، بعد محاكمات نورتبورغ، تعتبر الأشهر في القرن العشرين. إذاً، حظ تروتسكي كان أن سلك طريق المنفى، وذلك في عز اللحظة التي تمكن فيها خصمه "أبو الشعب الصغير" من إثبات خيانته ومعاداته للثورة. وطريق المنفى بدأت بالنسبة إلى مؤسس الجيش الأحمر، والمنتصر في معركة قصر الشتاء، يوم الثالث عشر من شباط فبراير 1929، حين توجه إلى تركيا، التي كانت محطته الأولى على طريق الترحال الطويل. وسلوك هذه الطريق، تواصل بالنسبة إلى تروتسكي أكثر من دزينتين من الاعوام. مهما يكن في الأمر، فإن تروتسكي، حين وصل اسطنبول في ذلك اليوم البارد من أيام شهر شباط فبراير، كان شبه واثق من أنه عائد قريباً إلى الاتحاد السوفياتي، لأن "عهد ستالين إلى زوال، وسوف ينتفض الحزب والشعب ضد هذا الديكتاتور الذي سرق الثورة وتراث لينين". أما بالنسبة إلى ستالين، فإن طرد تروتسكي من الاتحاد السوفياتي شكل "نهاية" - لم يكن ستالين يريدها موقتة أو يراها كذلك - "للمؤامرات التي كان تروتسكي تحبكها ضد الثورة وضد الدولة السوفياتية". فهو اذا ابتعد عن موسكو وعن الحزب "سوف ينفصل عن قاعدته" ولئن كان في امكانه ان "يواصل مؤامراته في الخارج، فإن تلك المؤامرات لن تكون فعّالة بأية حال من الأحوال. ستكون جزءاً من مؤامرات أسياده الغربيين التي اثبتت حتى الآن فشلها". وهكذا ما أن وصل ستالين إلى هذا التحليل، حتى قدم ل "المكتب السياسي" للحزب الشيوعي اقتراحاً بطرد خصمه، وبالطبع وافق المكتب على ذلك. في البداية اكتفى الحزب بطرد تروتسكي إلى الما-آتا في كازاخستان، على أمل ان يكون في إبعاده عن العاصمة وعن مركز اتخاذ القرار رادع له عن مواصلة "نشاطاته الهدامة". لكن تروتسكي واصل في العاصمة الكازاخستانية كتاباته ومناشيره، وظل قادراً على ايصال صوته إلى أنصاره الذين كانوا تمكنوا من أن يرسلوا إليه أوراقه ومحفوظاته. وهكذا، حين شعر ستالين بأن وجود خصمه في كازاخستان، أي داخل الأراضي السوفياتية سيجعله قادراً، بعد، على أن يشكل خطراً عليه، ارسل إليه في العشرين من كانون الثاني يناير 1929، رجال المخابرات "الغيبيو" يطوقون بيته، ويعطونه ساعتين فقط "ليتعين عليه خلالهما أن يوضب أموره للانتقال إلى مكان آخر". وبالفعل بعد ساعتين جهز الرجل نفسه، وبدأ في السيارة رحلة منفى جديدة قادته هذه المرة إلى اوديسا على البحر الأسود. وهناك ركب مع أسرته السفينة التجارية "ايليتش" التي أوصلته إلى اسطنبول، حيث أودع ثلاثة أسابيع داخل مبنى القنصلية السوفياتية، في حين راحت السلطات السوفياتية والتركية تبحث له عن بلد يستقبله. ولكن ما من بلد رضي بذلك، في وقت كان ستالين فيه يخيف، وكانت البلدان الأجنبية غير راغبة في استقبال متمرد وثوري محترف مثل تروتسكي له في كل بلد أنصار، وأحزاب قادرون على إثارة الشغب والتسبب في مشاكل محلية، أو مع السلطات السوفياتية. أخيراً في الثالث عشر من شباط فبراير، وبعد أن فشل الأتراك في العثور على بلد يستقبل تروتسكي، قرروا أن يمنحوه حق اللجوء السياسي، شرط أن يعيش في جزيرة "برنكيبو" الصغيرة الواقعة في أواسط بحر مرمرة. رضي تروتسكي بواقعه الجديد، وراح يمضي وقته في صيد السمك كما في كتابة النصوص والمذكرات والمناشير. بعد ذلك سيواصل تروتسكي ترحاله، وسيواصل الاتصال بالعواصم الغربية بحثاً عن ملجأ له، لكن هذه حكاية أخرى. أما ستالين، فإنه بعد ان تخلص من تروتسكي على هذا النحو التفت هذه المرة صوب "المعارض المشاكس" الآخر بوخارين الذي ستكون نهايته مختلفة، بالطبع، عن نهاية تروتسكي. وإن كان القتل ترصد الاثنين في نهاية الأمر، على يد رفيقهما السابق، كما ترصّد المئات غيرهما الصورة: تروتسكي في طريقه إلى المنفى.