قد لا تكون صدفة أن يوقع الرئيس جورج بوش على قانون محاسبة سورية في الأيام الأخيرة لسنة منحت سورية أول فائض في ميزانها التجاري المتواضع مع أميركا. لكن سنة 2003 خالفت كل التوقعات عندما حققت العلاقات التجارية الأميركية - العربية، وعلى رغم سلسلة طويلة مرهقة من الأحداث الاستثنائية ومخلفات هجمات 11 أيلول سبتمبر عام 2001، مكاسب كبيرة ينتظر أن تتعزز في الفترة المقبلة عبر اتفاقات التبادل الحر التي باتت تشكل عنصراً واعداً في تجارة الجانبين. دخل عام 2003 مثقلاً بمخاوف الاضطراب الذي أحدثته تداعيات هجمات أيلول في العلاقات التجارية للدول العربية مع أميركا خصوصاً انخفاض حركة التبادل التجاري بينهما بحدة في الشهور التسعة الأولى من عام 2002 وتقييد اجراءات منح تأشيرات الدخول لرجال الأعمال العرب وتصعيد نبرة المقالات العدائية التي غالبا ما تعيق المشاريع التجارية، والاستثمارية عموماً، علاوة على استمرار أزمة الاقتصاد والتجارة في العالم. ارقام قياسية وساهمت طبول الحرب بداية السنة في تحويل مخاوف عام 2002 الى توقعات متشائمة سيما أن غلبة النفط على الصادرات العربية وشهرته يجعلانها شديدة الحساسية لردود فعل المستهلكين تماماً كما هي الحال بالنسبة للسلع الأميركية المشهورة في الأسواق العربية. لكن مع اقتراب السنة من نهايتها أصبح في حكم المؤكد بأن التوقعات المتشائمة لم تكن مُبررة اذ أن المبادلات التجارية بين أميركا والدول العربية لم تنتعش بقوة وحسب بل حققت سلسلة من الأرقام القياسية المفاجئة. وأظهرت أحدث بيانات وزارة التجارة ومكتب الاحصاء في واشنطن أن القيمة الاجمالية للسلع والبضائع التي تبادلتها أميركا و15 دولة عربية ما بينها سنة 2003 واعتماداً على المتوسط الشهري للشهور العشرة الأولى من السنة، مهيأة لتجاوز مستوى 50 بليون دولار للمرة الأولى في تاريخها الطويل محطمة بذلك رقماً قياسيا كانت حققته عندما تجاوزت مستوى 46 بليون دولار بقليل عام ألفين. وبدأ الانتعاش فعلياً في الفصل الأخير من عام 2002 مقلصاً خسائر الفصول الثلاثة الأولى اذ بلغت القيمة الاجمالية للمبادلات التجارية في العام المذكور 41.6 بليون دولار أي أنها سجلت تراجعاً لا يزيد مقداره على 7 في المئة بالمقارنة مع عام 2001 وبلغت القيمة النهائية لهذه الخسائر نحو 3.4 بليون دولار وتكبدت الصادرات العربية الجزء الأكبر منها عندما انخفضت قيمتها بنسبة 7 في المئة في مقابل انخفاض قيمة الصادرات الأميركية بنسبة 3 في المئة. 34.5 بليون دولار للصادرات العربية الا أن الصادرات العربية ستنفرد بالنصيب الأكبر من نتائج انتعاش سنة 2003 اذ من المتوقع أن تسجل قيمتها النهائية زيادة بنسبة 33 في المئة لتصل الى 34.5 بليون دولار بينما لا يتوقع حدوث تغير يذكر في قيمة الصادرات الأميركية. ونجمت نتائج السنة، التي ستعوض البقية الباقية من خسائر الفترة السابقة وترفع قيمة السلع والبضائع التي تبادلتها أميركا مع الدول العربية منذ أحداث أيلول الى 100 بليون دولار، عن حدوث انتعاش بدرجات متفاوتة في صادرات وواردات 8 دول عربية هي السعودية والجزائر وسورية وعمان والاردن والبحرين ولبنان وأخيراً العراق الذي سجلت وارداته حركة نشطة بعد رفع العقوبات الاقتصادية أواخر أيار مايو. المفاجأة السورية وحققت سورية مفاجأة حين ضاعفت قيمة صادراتها الى 251 مليون دولار في الشهور العشرة الأولى من السنة ومع انخفاض وارداتها بنسبة 26 في المئة انتهى ميزانها التجاري الى تسجيل فائض 76 مليون دولار من مبادلات بلغت قيمتها 426 مليون دولار ويحتمل أن تتجاوز نصف بليون دولار في نهاية السنة بالمقارنة مع متوسط سنوي لا يزيد كثيراً على 300 مليون دولار في الأعوام العشرة الأخيرة. ورفعت المساهمة السورية القيمة الاجمالية للفوائض التجارية التي تحققت لست دول عربية في 10 شهور الى 19.5 بليون دولار وبلغت قيمة المبادلات التجارية لهذه المجموعة التي ضمت كبار منتجي النفط والغاز السعودية والجزائر والعراق والكويت وعُمان 32 بليون دولار. وفي مقابل الفوائض سجلت 8 دول عربية عجوزات تجارية بقيمة 4 بلايين دولار من ضمنها زهاء بليوني دولار في الميزان التجاري للامارات و 1.25 بليون دولار في ميزان مصر. وكان يمكن للأرقام القياسية أن تكون مجرد مكاسب لعام بعينه لولا أنها ترافقت مع اعلان الرئيس بوش مبادرته المشهورة في شأن اقامة منطقة تبادل حر في الشرق الأوسط. كذلك كان يمكن لهذه المبادرة، التي أطلقت رسمياً بعد أيام قليلة من اعلان انتهاء العمليات العسكرية في العراق في بداية أيار، أن تكون جزءاً من جهد دعائي لولا أنها شكلت امتدادا لمسعى أميركي يأمل في فتح أكبر عدد من الأسواق الواعدة لمعالجة عجز تجاري أصبح يشكل خطراً كبيراً على الاقتصاد الأميركي برمته. وتضمنت مبادرة منطقة التبادل الحر في بندها الأول التزام واشنطن تقديم "مساندة فعالة" للدول العربية الراغبة في الانضمام الى منظمة التجارة الدولية وان كانت عرضت على الدول "الراغبة" التفاوض لعقد "اتفاقات أطر تجارة واستثمار" و"معاهدات استثمار ثنائية" مقدمة للتوصل الى سلسلة اتفاقات تبادل حر ثنائية تشكل بمجموعها منطقة التجارة الحرة التي اقترحت ادارة الرئيس بوش اخراجها الى النور في غضون عقد من الزمن. لكن المبادرة لم تقدم جديداً باستثناء شموليتها اذ تعتبر استكمالاً لتوجه بدأ في ولاية جورج بوش الأب بالتوقيع على اتفاقي استثمار ثنائيين مع المغرب عام 1991 ومصر عام 1992 ثم تسارع ابان ولاية بيل كلينتون متمخضا عن سلسلة من الاتفاقات المماثلة مع كل من تونس 1993 والأردن 1997 والبحرين 2001 ثم تعزز بتوقيع سلسلة من اتفاقات التجارة والاستثمار مع المغرب ومصر والجزائر وتونس والسعودية في الفترة من 1995 الى نهاية تموز يوليو 2003. وأحدثت ادارة كلينتون نقلة نوعية في العلاقات التجارية الأميركية - العربية عندما عقدت مع الأردن في تشرين الأول اكتوبر عام ألفين اتفاقاً للتبادل الحر كان الرابع الذي تنجزه هذه الادارة مع دول العالم والأول من نوعه مع دولة عربية. وانطلقت هذه النقلة من اتفاقات التجارة والاستثمار التمهيدية التي ستُشكل قاعدة لاتفاق تبادل حر مع المغرب أصبح التوقيع عليه وشيكاً وكذلك اتفاقاً آخر مع البحرين ينتظر أن تبدأ مفاوضاته في مطلع السنة الجديدة. ولا يبدو من الممكن التقليل من أهمية اتفاقات التبادل الحر اذ أن الاتفاق الأميركي - الأردني الذي دخل حيز التطبيق نهاية عام 2001 قفز بقيمة الصادرات الأردنية الى السوق الأميركية الى أكثر من نصف بليون دولار في الشهور العشرة الأولى من 2003 بالمقارنة مع 188 مليون دولار في الفترة نفسها من سنة 2001 محققاً للأردن فائضاً بقيمة 153 مليون دولار وأنهى سلسلة طويلة جداً من العجوزات التجارية الكبيرة نسبياً. لكن منافع اتفاقات التبادل الحر ومن ضمنها تلك الموقعة والمقترحة مع الدول العربية تُقابلها درجة عالية من الحماس لدى الممثل التجاري للولايات المتحدة روبرت زوليك الذي كتب في مقال نشر أخيراً ان "هذه الاتفاقات لا تساهم في توفير فرص العمل للمواطنين الأميركيين وحسب بل تنصف الشركات الأميركية اذ أن أطرافا أخرى، لا سيما الاتحاد الأوروبي، عقدت مجموعة من الاتفاقات في التسعينات بينما وقفت أميركا على جانب الطريق". وتشكل المنافسة الأوروبية عاملاً مهما يدفع أميركا للحفاظ على مركزها في الأسواق العربية سيما أن حصتها المهددة من التجارة الخارجية لهذه الأسواق لا تزيد كثيراً على 10 في المئة الا أن العجز الضخم الذي تعانيه أميركا في تجارتها الخارجية يوفر عاملاً اضافيا للتوسع في عقد اتفاقات التبادل الحر التي تساهم في تنشيط الصادرات وحفز النمو الاقتصادي في البلدين المتعاقدين وغالباً ما تحول الفوائض التجارية الى تدفقات استثمارية تساعد في تغطية العجوزات. وشدد زوليك في مقاله الذي نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" على حماس أميركا لاتفاقات التبادل الحر بل لمح الى أن هذا النوع من الاتفاقات الثنائية لن يحظى باهتمام أكبر بعد فشل مؤتمر كانكون المكسيك في اطلاق جولة الدوحة من مفاوضات تحرير التجارة الدولية وحسب بل قد يتم تسريع وتيرة مفاوضاتها عبر تفعيل آليات التفويض التجاري الذي حصلت عليه ادارة الرئيس بوش من الكونغرس أوائل عام 2002. وتشير تجربة الأردن الى أن اتفاقات التبادل الحر مقبلة على التحول الى عنصر واعد في تجارة الدول العربية مع أميركا اذ أظهرت بيانات وزارة التجارة أن الاتفاق الأميركي الأردني أضاف الى القيمة الاجمالية للمبادلات الأميركية العربية وفي أقل من عامين 481 مليون دولار من ضمنها 361 مليون دولار من سلع القطاع الخاص الأردني ومنتجاته ويبدو من المؤكد أن مكاسب مماثلة، ان لم يكن أكبر قليلا، في طريقها الى التحقق عبر اتفاقي المغرب والبحرين.