كيف تناول الأدب العبري الحديث صورة مصر حتى السنوات الخمس الأولى بعد معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية؟ السؤال سهل. ولكن ما أصعب الإجابة عنه وأنا أبحث عن هذه الإجابة في ثنايا كتاب الأستاذ الجامعي في كلية الآداب - جامعة القاهرة زين العابدين محمود حسن "مصر في الأدب العبري". من باب أعرف عدوك، أو حاول أن تعرف صورتك لدى عدوك. ومصر موجودة في الآداب العبرية، من خلال هذا الكتاب، عبر أربعة محاور، الأول: مصر في صورتها التوراتية. ثم مصر في صورتها الفرعونية. ونصل إلى مصر باعتبارها رمزاً للمنفى. منفى الصهاينة طبعاً وهو تعبير ملتوٍ. وتصل إلى مصر الحديثه، سواء في أدب الرحلات العبري، أو صورة المصريين في الأرض المحتله. ومصر التوراتية يرد ذكرها في الملاحم الشعرية أكثر من الكتابات النثرية، وفي هذه المرحلة المبكرة نسبت الملاحم كل الصفات السلبية الى المصريين. والصفات الإيجابية الى اليهود. كما هناك تشديد على قصة خروجهم من مصر. وعند الانطلاق من الفرد إلى الجماعة نجد أن مصر هي أرض الجهل والجهالة وأهل إسرائيل هم شعب الثقافة والنور... فأي عداون على الآخر يمثل هذا الكلام؟ مصر الفرعونية ظهرت في الآداب العبرية منذ تسعينات القرن التاسع عشر وحتى قيام الحرب العالمية الأولى. كان الأدب العبري جزءاً من بعض الآداب الأوروبية. وفي هذه المرحلة قد تكون هناك حال من الإعجاب الخبيث بمصر، حتى أصبح بعض أدباء العبرية يشبه بني إسرائيل بأبي الهول. وهو تشبيه لم يكن الشاعر ليقوله إلا إذا كان المشبه به يمكن أن يرتقي إلى مرتبة شعب الله المختار. ولا يرد ذكر مصر باعتبارها رمزاً للمنفى، إلا عند تعرض اليهود للمحن والأزمات أو الكوارث. إنها محاولة لتثبيت صورة مصر عندما تركها موسى، ويتكرر هذا بعد مذابح اليهود في روسيا في أواخر القرن التاسع عشر، ويتكرر مرة أخرى خلال الثورة العربية الكبرى في فلسطين عام 1936 ومذابح النازي لهم. إن الذين يكتبون هذا الأدب هم في معظهم يهود كانوا يعيشون في مصر. ثم تركوها إلى هناك حيث فلسطينالمحتلة. لذلك ترد في كتاباتهم حروب مصر مع إسرائيل 1948، 1956، 1967، 1973، والواقع اننا نجد في هذه الكتابات اختلاط الأحلام بالكوابيس والحاضر يعود إلى الماضي. هناك حال من السيولة في النظر إلى مصر. سيولة الزمان والمكان. يقول دافيد شمعوني: "هل حقاً نهضوا من قبورهم/ المصريون القدماء/ ليصموا آذاني"./ بصرخاتهم الهمجية؟! إن مصر تعني بالنسبة اليهم: لضطهاد الماضي وإنتقام الحاضر. ها هو الشاعر الترمان يكتب: ها هي مصر التي اضطهدت بني إسرائيل في الزمن الغابر تعاني قسوة الحياة، ومرارة العيش في الزمن الحاضر. إنه يصف بعض الغلمان الذين دفعتهم الحاجة إلى أن يتشاجروا ويتقاتلوا كي يقوم كل منهم "بتنظيف حذاء الشاعر" الذي كان يجلس في المقهى في بورسعيد: "غلمان سمر مسفوعون، يرتدون خرقاً، وجوعى/ على رغم ما في أعينهم السود من مرح الطفولة/ إلا أن كلاً منهم يتنافس مع الآخر بسبب حذائي الذي يعلوه التراب/ فكل منهم يريد أن يلمعه/ وأنا أرقب مرح طفولتهم الذي لم تستطع الحياة إطفاءه/ وأستمع إلى الأغاني الحزينة من المصري العجوز الذي يمتطي سنام جمله/ فأنظر إلى السماء الزرقاء العميقة/ فأستريح!!". مصر تبدو أيضاً في كتابة أدب الرحلات العبري، خصوصاً بعد كامب ديفيد. إن مصر تعني بالنسبة اليهم الآن البحث عن الجذور التي تركوها هنا. ألا يعد هذا تحقيقاً لمقوله: من النيل إلى الفرات؟ إنهم يبحثون عن الوطن الأول الذي هم جزء منه ولا يكون هناك كلام على الوطن الثاني الذي جرى اغتصابه من أهله. وفي رواية جاكلين كاهانوف "الفصح اليهودي في مصر" وهو عيد ديني تتخلله طقوس خاصة وتكتنفه أفكار معينة ترجع إلى عصر خروج بني إسرائيل من مصر التي تصفها بأنها أرض العبيد، في حين أن فلسطين هي أرضهم الموعوده. المصريون بالنسبة اليهم هم العرب: شعرت أن العرب اكثر عدداً من سائر البشر، وأنهم بؤساء، منهم خدم أو باعة متجولون أو يتسولون أو يموتون... عيونهم غير مبصرة... وجمال نهر النيل الذي تراه البطلة لا يكمن في طبيعته وانسيابه بين أرجاء الوادي، ولكنه يكمن في أنه يذكرها بقصة موسى وصراعه مع فراعنة مصر. فهو النهر الذي عثرت فيه ابنة فرعون على الصندوق الذي كان موسى وضع فيه. إن موسى هو الخلاص القديم من مصر. وهو يوصل الكاتبة إلى المسيح المنتظر الذي سيقود عملية الخلاص الجديد من الوضع البائس للشعب المصري. أما في رواية اسحق جورن "صيف اسكندري"، فلا نقابل من المصريين سوى الخادم والبواب ومروض القرود، والباقون هم الجالسون في المقاهي من دون عمل يستمعون إلى أغاني أم كلثوم، والمصطاف يضطر لتأجير غرفة لخلع الملابس لئلا يضطر لخلع ملابسه مع العرب. وكأن الاقتراب من العرب من الممكن أن يصيبهم بالأوبئة والأمراض، إن مجرد هذا الاقتراب قد يحط من قدرهم، وشخصيات هذا العمل فضلاً عن انهم لا يمثلون المجتمع المصري إلا إنهم يحملون الرذيلة بداخلهم والخيانة وسوء القصد. ولكن كيف تبدو صورة المصري في الأرض المحتلة؟ في الكتابات الأدبية العبرية؟ ان الكاتب لا يتوقف أمام سؤال بسيط: وما الذي ذهب بالمصريين إلى فلسطينالمحتله؟ إن كانوا من اليهود المصريين، فإن القضية تبقى مفهومة، وهو لا يناقش قضية تركهم مصر بعد العدوان الثلاثي على مصر في 1956، لأنه كان استقر في وعي الحكم المصري ان هؤلاء أصبحوا طابوراً خامساً للدولة الصهيونية، إلى جانب ان التأميم طاول الكثير من ممتلكاتهم. مع أن الموقف العربي العام تحول بعد ذلك، لدرجة أننا أصبحنا ننظر إلى عودة اليهود إلى إسرائيل وكأنها بمثابة دعم لهذه الدولة ضد الفلسطينيين. كل هذا لا يناقشه الكاتب. ولكنه فقط يتوقف أمام صورتهم في هذا الأدب. ان هذه النظرة لا تتعدى نظرة يهود الغرب إلى يهود الشرق. وهي نظرة تتسم بالتعالي والغرور. لذلك فإن صورة هؤلاء المصريين سلبية دائماً وأبداً. والتركيز في هذه السلبية يتم على الدين. كما في قصة لجدعون تلفاز "ماء الورد من بور سعيد" وتلفاز أديب إسرائيلي من جيل الصابرا، ولد في قرية بتاح تكفا عام 1936، أنهى تعليمه الجامعي في جامعة القدس عام 1961، بدأ نشر نتاجه الأدبي حين بلغ السابعة عشرة من عمره، وبالتحديد في عام 1953، من أهم أعماله مجموعة من القصص عنوانها: "حي حاب" وقد نشرت عام 1966 عن أسرة مصرية عادت من أستراليا إلى إسرائيل عبر مدينة بور سعيد. والمصري في أدب هذا الكاتب "خادم خائن لا يستحق إلا أن ينحني ويركع". انظر إلى تناقض العنوان والمحتوى والصورة المقدمة للمصري. ولا ترى الأسرة العائدة من أستراليا إلى إسرائيل عبر مصر، في مصر سوى زنجي إسمه "عنتابي" وبعد الزنجي نجد أحمد، وهو في القصة عبد ذليل، ينحني دائماً إذا خاطب أي إنسان. شخصية تتردى في ركن مهمل لا تغادره إلا إذا طلب منعها ذلك وهو يقوم بتنظيف الأحذية. دائماً لا يعمل المصري في المشهد القصصي العبري إلا في تنظيف الأحذية. وكأنه لا عمل له سوى هذا. على رغم انقراض هذه المهنة في المجتمع المصري. تبحث في القاهرة كثيراً حتى تجد من يلمع لك حذاءك. وأحمد يقوم بغسل أقدام الأسرى وتجفيفها. لا يتساءل الروائي إن كان في هذا قدر من العبودية، وأحمد علاوة على كل هذا يقوم بخيانة الأسرة، لأنه يبيع الفول في الشوارع في وقت فراغه. وفي قصة اليعيزر سمولي "تغيير الوردية"، وهو أديب عبري ولد عام 1910، في أوكرانيا وأصدر الكثير من المؤلفات للشباب والأطفال، هاجر إلى فلسطين عام 1920، وفي عام 1923 انهى تعليمه في مدرسة المعلمين الدينيين في القدس. ثم عمل مدرساً لمدة أربعين سنة في الجليل وتل أبيب، في عام 1934 سافر إلى برلين لدراسة العلوم الطبيعية في جامعتها. اهتم في قصصه بتصوير حياة الفلاحين، في عام 1927 نشر قصته الأولى "الراعي المخلص" نالت رواجاً، وقصته "تغيير الوردية" أو "الحراسة" تقوم على استبدال مدرس يهودي بمدرس مسلم. المصري يرحب به. ولكن اليهودي يجد أن الحجرة غير صحية. معتمة لا تدخلها الشمس. خالية من الأثاث. والأطفال يفترشون الأرض. والحوار بين المدرس والتلاميذ لا يدور إلا من خلال السياط والجلد واللعنات... بعد كامب ديفيد لا نجد ان النظرة الاسرائيلية الى المصري قد تغيرت. ما زالت العدائية واضحة، وهي عدائية عنصرية ظاهرة في أحيانٍ كثيرة. الموضوعية غائبة، والواقعية أيضاً.