136 محطة ترصد هطول أمطار في 9 مناطق    الخارجية الفلسطينية تدين التصريحات التحريضية الإسرائيلية على الفلسطينيين وتدمير الضفة الغربية    استئناف الرحلات الدولية في مطار دمشق    مركز الملك سلمان للإغاثة يوزع مساعدات إغاثية متنوعة في بلدة نصيب بمحافظة درعا السورية    خادم الحرمين يصدر أمرًا ملكيًا بتعيين 81 عضوًا بمرتبة مُلازم تحقيق على سلك أعضاء النيابة العامة القضائي    تعليم القصيم يطلق حملة "مجتمع متعلم لوطن طموح"    نائب أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشروعات التي تنفذها أمانة المنطقة    أمير الشرقية يستقبل رئيس وأعضاء جمعية أصدقاء السعودية    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تطلق برنامج «راية» البحثي    بلدية الخبر تواصل مشاريع التنمية بأكثر من 107 مشروع تنموي    التشكيل المتوقع لمواجهة الهلال والإتحاد    الاتحاد الآسيوي لكرة القدم يعلن مواعيد وملاعب كأس آسيا "السعودية 2027"    رئيس جمهورية التشيك يغادر جدة    ارتفاع أسعار الذهب إلى 2644.79 دولارًا للأوقية    "الأرصاد": رياح شديدة على منطقة تبوك    لياو: شكرًا لجماهير الرياض.. وإنزاغي يؤكد: الإرهاق سبب الخسارة    اللجنة المنظمة لرالي داكار تُجري تعديلاً في نتائج فئة السيارات.. والراجحي يتراجع للمركز الثاني في المرحلة الثانية    عبد العزيز آل سعود: كيف استطاع "نابليون العرب" توحيد المملكة السعودية تحت قيادته؟    البشت الحساوي".. شهرة وحضور في المحافل المحلية والدولية    القطاع الخاص يسدد 55% من قروضه للبنوك    6 فوائد للطقس البارد لتعزيز الصحة البدنية والعقلية    5 أشياء تجنبها لتحظى بليلة هادئة    السعودية تبدأ أول عملية بيع سندات في عام 2025    سفير فلسطين: شكراً حكومة المملكة لتقديمها خدمات لجميع مسلمي العالم    الذكاء الاصطناعي ينجح في تنبيه الأطباء إلى مخاطر الانتحار    أمطار جدة: الأمانة تتحرك.. الهلال الأحمر يتأهب.. والمطار ينصح    وزيرا الصحة و«الاجتماعية» بسورية: شكراً خادم الحرمين وولي العهد على الدعم المتواصل    سلمان بن سلطان يستقبل اللهيبي المتنازل عن قاتل ابنته    هندي ينتحر بسبب «نكد» زوجته    النائب العام يتفقد مركز الحماية العدلية    في ربع نهائي كأس خادم الحرمين الشريفين.. كلاسيكو مثير يجمع الهلال والاتحاد.. والتعاون يواجه القادسية    جلوي بن عبدالعزيز يُكرِّم مدير عام التعليم السابق بالمنطقة    بداية جديدة    أهمية التعبير والإملاء والخط في تأسيس الطلبة    ليلة السامري    تنامي السجلات التجارية المُصدرة ل 67 %    العداوة الداعمة    بلسان الجمل    محافظ الطائف: القيادة مهتمة وحريصة على توفير الخدمات للمواطنين في مواقعهم    «شاهقة» رابغ الأقوى.. المسند: خطيرة على السفن    احتياطات منع الحمل    البلاستيك الدقيق بوابة للسرطان والعقم    جهاز لحماية مرضى الكلى والقلب    أمير حائل يفتتح «مهرجان حرفة»    سورية.. «خارطة طريق» نحو الاستقرار    القيادة رسمت مسار التنمية المستدامة والشاملة    وزير الخارجية يناقش المستجدات الإقليمية مع نظيره الأمريكي ومع آموس الوضع في لبنان    "رافد للأوقاف" تنظم اللقاء الأول    صافرة الفنزويلي "خيسوس" تضبط مواجهة الهلال والاتحاد    لماذا الهلال ثابت ؟!    مكة الأكثر أمطاراً في حالة الإثنين    العالم يصافح المرأة السورية    حماية البذرة..!    سوريا بين تحديات إعادة الهيكلة وتصاعد التوتر في الجنوب    «أبوظبي للغة العربية» يعزّز إستراتيجيته في قطاع النشر    الأمير سعود بن نهار يزور مركزي" السيل والعطيف" ويقف على الأسكان التنموي والميقات.    أمير الشرقية يستقبل سفير السودان ومدير الجوازات    غارات الاحتلال تودي بحياة عشرات الفلسطينيين في غزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروحية اليهودية النفعية عبر التاريخ . الروافد الثقافية والأسس المادية للخصوصية التاريخية 1 من 3
نشر في الحياة يوم 14 - 07 - 2000

اشتهر اليهودي بالروح العملية النفعية وإخضاعه المبادئ والقيم للمصلحة المادية الشخصية، وجعل المال، ليس سلعة وحسب، وإنما قيمة مطلقة ومعياراً "شمولياً" تقاس به الأشياء والبشر المشيَّأون.
يبدو المال في عين اليهودي الشاخصة إلى المطلق الدنيوي صنماً معبوداً في كل عصر ومصر، "المال هو إله إسرائيل الغيور الذي لا يجب أن يبقى أمامه إله آخر"، يقول ماركس في "المسألة اليهودية".
وما يقوله ماركس يعني أن الواحد الذي يعبده الإسرائيلي هو المال وأنه في عبادته موحد لا يشرك.
وترادفت في وعي الأوروبي كلمة يهودي مع كلمة "تاجر" أو "مرابٍ"، و"تاجر البندقية"، الذي اختاره شكسبير عنواناً "لمسرحيته، هو مرابي البندقية الذي لا يستغني التاجر المسيحي عن قرضه، لكنه لا يعفيه في الوقت عينه من احتقاره.
ويجيء في قاموس أوكسفورد أن الاستعمال العامي لكلمة يهودي يدل على "شخص ميال إلى ابتزاز الأموال، أو قادر على عقد صفقات يغبن فيها الطرف الآخر.
ويقول المثل العامي "ثري كاليهودي". وحين يستعمل الاسم فعلاً "بمعنى يهوِّد "To Jew" يصبح المعنى "يخدع أو يمكر ب".
وفي هذا المعنى كتب اسحق دويتشر "لقد تكوَّن الجزء الأساسي من المأساة اليهودية نتيجة لتطورات تاريخية طويلة بحيث أصبحت الجماهير الأوروبية معتادة على تحديد هوية اليهودي بالتجارة والسمسرة وإقراض النقود والإثراء. وعليه فقد أصبح اليهود بنظر العقل الشعبي رمزاً ومرادفاً لهذه الأعمال". وقد بلغت مماهاة اليهودي بالتجارة حداً جعل الذين شرعوا لاحتجازه داخل الغيتو يشرعون عمل الباغيات داخله بحجة "أن الدعارة هي نوع من أنواع التجارة". والتجارة هي مهنة الأقلية الاقتصادية اليهودية.
"إن نزعة الاقتصاد هي من خصائص شعبنا أصلاً"، يقول ثيودور هرتزل في كتابه "دولة اليهود" 1886.
وكان هذا هو رأي ماكس فيبر ومعه المؤرخون الذين كتبوا في ظل منهجه الاجتماعي. فقد رأى فيبر أن تحول اليهود في الغرب الأوروبي إلى أقلية اقتصادية متخصصة في التجارة والربا وأعمال الصيرفة يُفسَر بعزوف اليهودي عن فكرة العالم الآخر، ورفضه المدارس الفكرية والمسالك الحياتية الرهبانية والصوفية والزهدية التي لاقت التشجيع والترويج من قبل الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى. هذا الرافد الثقافي التكويني الذي لا يصعب تقصيه في التوراة، وخصوصاً في التلمود، جعل اليهود مؤهلين نفسياً للإقبال على عالم المال والأعمال أكثر من معاصريهم المسيحيين.
ويبدو التوجه العبري الحواسي والمادي متأصلاً في اللغة العبرية اذ نجد أن كلمة "روح" العبرية تدل على القابليات الحسية أو الحياة الجسدية. كما أن تقديم المال والمقتنيات على القيم الأخلاقية هو واقعة مثبتة في سفر الخروج التوراتي، كما نجد في دعوة يهوه لموسى إلى الخروج بشعبه من مصر:
"وعندما ترحل لن تكون فارغ اليدين:
بل إن كل امرأة سوف تقترض من جارتها
ومن تلك التي تقيم في بيتها
جواهر من الفضة، وجواهر من الذهب وأثواباً
وسوف تضعها على أجساد أبنائك وبناتك
ولسوف تسلب المصريين". سفر الخروج 3،4:22.
من الواضح ان النص التوراتي يسوغ السلب والخديعة ويبيح ممتلكات الأغيار للعبريين. وهذا يعني ان نظام الاخلاق يقتصر على الذات القبلية ولا يتعداها الى القبائل الغريبة الاخرى.
وهذه هي إحدى ابرز خصائص الجماعة البدائية كما يوضح لنا روبرتسون سميث في مؤلفه "مطالعات حول ديانة الساميين"، "ان من ابرز السمات المميزة للديانة القبلية نزعتها الى التخصيص" فالمرء يعتبر مسؤولاً امام إلهه عن كل الاذى الذي ينزله بعضو آخر في جماعته العائلية او السياسية، لكن بامكانه ان يغش او يسرق او يقتل الغريب من دون ان ينتهك تعاليم الدين". والملاحظ ان الروح المادية النفعية تبقى أقل بروزاً في التوراة الموحاة منه في التلمود الذي كتبه اللاهوتيون اليهود عبر القرون بيد التجربة العملية الدنيوية ليشكل دستور حياة اليهودي في الشتات. يجيء في التلمود:
"يكرّم الفقيرُ لمهارته ويكرم الغني لثروته".
"الذهب والفضة يمكنان القدم من الثبات".
"الثروة والقوة يفرحان القلب".
"الموت أفضل من التسول".
ويشدد سومبارت في كتابة "اليهود والرأسمالية الحديثة" على حضور الروح الرأسمالية في التلمود مستنداً إلى أقوال مثل: "سبع صفات تلائم الأخيار كما تلائم العالم، وإحداها هي الثروة".
"حين يقوم الإنسان بالصلاة يجب أن يتوجه بصلاته لصاحب الثروة والممتلكات. لأن الثروة والممتلكات لا يتأتيا من العمل، وإنما من الفضيلة".
"إن الخيرين يحبون أموالهم أكثر من أجسادهم".
"في وقت الشدة يتعلم الإنسان قيمة الثروة".
ويستنتج سومبارت أن التلمود يطابق النعمة الإلهية بالثروة، ويرى في الفقر لعنة، وأن هذه التعاليم المعادية للزهد والتقشف كان لا بد أن تشجع النزوع الدنيوي عند اليهودي. ولا يفوت عبدالوهاب المسيري أن يلاحظ بدوره "أن الدارس للتلمود يرى أن أجزاء كبيرة منه تتحدث عن التجارة باعتبارها أشرف المهن، وعن الإقراض باعتباره هدية اللّه سبحانه".
ويلاحظ قارئ سفر الرؤيا أن أنبياء العبريين يرفضون سلوك طريق الخلاص الأخروي الذي اشتقته عبادة أوزوريس واختاره المسيح. ويذكر ليندساي في تاريخه الشمولي للثقافة العالمية "أن التحقق والإشباع في نظر العبريين يجب أن يتم على هذه الأرض أو لا يتم أبداً".
ولم يفت هيغل أن يلاحظ "أن اليهودية تكافئ السائر في طريق اللّه بالرفاهية الدنيوية، وهي رفاهية يحتاجها اليهودي لكي يعيش حياة مديدة على الأرض".
وفي دراسة نشرتها مجلة "النيوزويك" الأميركية عن اليهودية بمناسبة زيارة البابا يوحنا بولس الثاني للقدس في آذار مارس من العام 2000، يقول أستاذ اللاهوت اليهودي نويسنر "إن التوراة تعلِّم أن المملكة التي تهم الإنسان اليهودي ليست قائمة في السماء وإنما هي التي نتواجد فيها الآن، والتي تتطلب حفظ الحياة وتقديسها والتي تقدس حياة البيت والعائلة، إنها الحياة القائمة في الحاضر في حياة الجماعة والمجتمع.
إن مملكة اللّه قائمة في التفاصيل المتواضعة المتعلقة بطعام الإفطار، وكيف أتعامل مع جاري".
والحقيقة هي أن ملاصقة الروح اليهودية لجسد العالم مكاناً وزماناً تتبدى في رؤية توراتية الزمن العبري بحدثين هما في جوهرهما اقتصاديين ماديين.
الحدث الأول يطلق الزمن التاريخي في مسار حتمي يتمثل في الوعد الذي قطعه يهوه لإبراهيم بجعل الأرض الفلسطينية التي استدعاه إليها من أرض الرافدين ملكاً حصرياً لذريته.
أما الحدث الأخير الذي ينتهي به الزمن فهو ظهور المسيح المنتظر الذي يتحقق بظهوره الحلم العبري بإقامة ثابتة على أرض الميعاد وسيادة دائمة على الشعوب التي أذلت العبريين وسلبتهم. وتبدو أرض الميعاد في التوراة واعدة بالخيرات المادية ومرئية بعين القابليات الحسية:
"أرض خيرة
أرض قمح ونبيذ ورمان
أرض من شجر الزيتون والعسل،
أرض ستأكل فيها الخبز بوفرة، ولن
يعوزك فيها شيء من الطيبات،
أرض حجارتها حديد ومن تلالها تستخرج النحاس" سفر التثنية 8:7-9.
وهذا المقطع النموذجي يثبت ما يلاحظه وليم إروين، "إن الحياة الخيرة بالنسبة لليهودي تبقى مشروطة بتوافر الخيرات المادية، وهذا هو مفهوم أساسي في الفكر الإسرائيلي". ويضيف "إن اليهود لم يكونوا يوماً قديسين جائعين أو متقشفين لا يغتسلون، إنهم المقبلون على طيبات الحياة بحماس".
إن ما يقوله إروين يرسم مسافة تباعد وتنأى باليهودية عن الثقافة اليونانية والمسيحية، وللثقافتين أصول مرجعية في الديانات السرية العرفانية Gnostic المصرية الهرمسية.
ويحدد إروين الخلاف الفلسفي بين اليهودية من جهة واليونان والمسيحية، استطراداً، من جهة أخرى، حين يقول: "إن القول ان الإنسان هو روح تتجسد أو روح مجسدة يعبر عن فكرة يونانية، والفكرة العبرية هي أن الإنسان هو جسد ينبض بالحياة"، ويضيف، "إن الاهتمامات الثقافية العبرية بقيت منذ عهد سليمان نفعية إلى حد بعيد". ويلاحظ إروين أن نظرية العبريين في الإدراك هي "نظرية حسية"، بمعنى أن الإدراك العقلي يتم من طريق الحواس.
وعلى رغم أن الحلم المسيحاني العبري ينهي الزمن التاريخي بحكم المسيح المنتظر الألفي، إلا أن المخلص اليهودي لا يأتي من أجل البشر كلهم جميعاً، بل يجيء من أجل خلاص بني إسرائيل وحدهم، وهو لا يحرر اليهود من عبء التاريخ إلا ليجعل منهم سادة على العالمين، ويحيل الأغيار إلى عبيد لهم وإماء. وهذا المخلص لا بد أن يحمل هوية تثبت تحدره من الأسرة الداودية، ولا بد أن يكون مقر حكمه هو القدس، مركز المعبد وعاصمة العالم، وقبل وبعد، فإن خاصية المخلص الاولى هي ان يكون مالكاً اسباب القوة، مجلبباً بمهابة السلطان، اي نبياً مسلحاً. فالمخلص الآتي في آخر الزمان لا بد من ان يحمل خصائص يهوه إله البركان والعاصفة، ولعل هذا هو السبب الذي جعل اليهود يرفضون السيد الناصري الذي جاء ليقول "من اخذ بالسيف بالسيف يؤخذ". وفي هذا السياق يلاحظ جورج قرم "ان رفض الهرم الكهنوتي اليهودي لرسالة المسيح وعدم تفهمه المطلق له كانا في آن معاً سياسيين ودينيين. فقد كان اليهود ينتظرون ملكاً قوياً، ليحيي القوة السياسية لاسرائيل وشريعة سفر التثنية المتشددة بتمامها وكمالها".
ونقرأ في قاموس أوكسفورد عن اليهودية 1997، "إن الخلاص في اليهودية هو مصطلح يشير إلى خلاص الشعب اليهودي الجسدي والفعلي"، وأن "مفهوم المسيح العائد لم يخرج، على رغم التفسيرات المختلفة التي أعطيت له، عن مرتكزه الدنيوي". وباختصار، إن المطلق، لا يبقى في اليهودية مطلقاً وإنما يتحدد بما هو قومي وذاتي ونسبي.
ولا يجد المؤرخ اليهودي المعاصر حرجاً في إعلان مادية ودنيوية الروح اليهودية العملية النفعية بعد أن أسكنت البورجوازية الأوروبية والأميركية هذه الروح في جسد الغرب منذ عصر النهضة، وفي العالم بدءاً بالقرن التاسع عشر. "إن الرأسمالية أعادت المسيحية إلى اليهودية فبات اليهودي هو المسيحي العملي، وعاد المسيحي العملي يهودياً"، كما يقول ماركس، وهو الذي رأى أن أوروبا المسيحية في تطورها من الإقطاعية إلى البورجوازية إنما كانت تتهود في الممارسة العملية، مما وفر لليهودية أقوى روافد بقائها واستمراريتها. وهذا هو المدلول الحقيقي لموضوعة ماركس الشهيرة "إن اليهودية سارت مع التاريخ وليس عكس التاريخ"" لقد واكب اليهودي التاريخ في مساره المتقدم اقتصادياً في اتجاه الفردانية الرأسمالية والمتراجع أخلاقياً إلى أنانيات المصالح الذاتية، والممزق لنسيج المتحدات الاجتماعية.
وبالتالي، فإن الوجود الفاعل لليهودي في التاريخ يفسر بجدلية تقدم الفرد أو الإنسان الاقتصادي Homo-Economicus في التاريخ، وتراجع النوع الإنساني و/أو الإنسان النوعي. إن ماركس يردّنا في الواقع إلى الأساس الاقتصادي الذي دعَّم وجود اليهودية في التاريخ، على رغم تخلف الأساطير التوراتية الدينية عن مسار الفكر الغربي في التاريخ.
ولا شك في أن تنزُّل الروح اليهودية في التاريخ المعاصر يسمح ليهودي العصر بالمجاهرة، بل بالمفاخرة بتميز روحه الدنيوية عن الروح المسيحية كما نقرأ في مقابلة أجرتها مجلة "النيوزويك" في آذار الماضي مع أستاذ اللاهوت اليهودي الأميركي نويسنر Neusener، وهو باحث ومؤلف ومشارك في وضع إحدى الموسوعات عن اليهودية وأستاذ اللاهوت في جامعة Bard الأميركية.
يقول نويسنر موضحاً التخالف النظري بين اليهودية والمسيحية: "إن قول الناصري بعْ ممتلكاتك واتبعني"، هو قول لا تقرُّه التوراة. لقد علم موسى في سيناء كيفية تنظيم مملكة من الكهان والشعب المقدس وكيف يدير هؤلاء شؤون حياتهم اليومية، وكيف يبنون مملكة اللّه متقبلين نير وصاياه". لكننا نعلم من التاريخ أنه عندما كان يتضارب الدين مع المصالح الاقتصادية كان النصر حليف المصلحة وليس حليف الدين، وهذه القاعدة لا تصح في اليهود وحدهم قطعاً، وإن شكلت ملمحاً بارزاً في تاريخهم.
ويكتب وليم إروين "إن خير اليهودي الشخصي ينوجد في هذه الحياة وإنجازه أياً كان هذا الإنجاز، يبقى مرتبطاً بهذا العالم من دون سواه". ويشير إروين إلى غياب رجاء القيامة وفكرة الحياة الأخرى وعدالتها المفترضة عن وعي اليهودي. كما يربط إروين بين تقديس اليهودي للعائلة المصغرة والموسعة وبين اكتفائه بهذه الدنيا من دون ارتجاء آخرة تكون خيراً له من الأولى.
ولعل آخر الشواهد على الرفض اليهودي لفكرة الآخرة هو ما تضمنه حديث نويسنر لمجلة "النيوزيك" الأسبوعية الأميركية التي ذكرنا. يفترض نويسنر أنه لو حدث وقابل السيد المسيح فإنه سيقول له بصراحة "نذهب في طريقين متخالفين: أنت المسيح، تذهب إلى المكان الذي تعتقد أن اللّه هيأه لك، وأنا أذهب إلى بيتي وزوجتي وأطفالي وكلبي وحديقتي. المسيح يذهب إلى المجد، وأنا أذهب إلى واجباتي ومسؤولياتي".
إن العائلة الأرضية هي إذاً بديل اليهودي عن العائلة المقدسة، والأطفال هم الطريق المتاح إلى تخطي محدودية الحياة الفردية وتناهي الإنسان، كما أن حياة كل يوم هي بديل المطلق. ويرسم سومبارت خطاً فاصلاً بين الأخلاق المسيحية والأخلاق اليهودية واصفاً الاختلاف أنه اختلاف بين "جوهرين". "إن الأخلاق المسيحية تقود الإنسان في شكل منطقي تماماً بعيداً عن العالم إلى خلوة النساك أو الدير، إن لم يكن إلى الموت" أما الأخلاق اليهودية فإنها توثق أتباعها المخلصين بألف قيد يشدهم إلى الحياة الفردية والاجتماعية. المسيحية تجعل من أتباعها رهباناً، اليهودية تجعل منهم عقلانيين، الأولى تقودهم إلى التقشف خارج العالم، الثانية تقودهم إلى التقشف في العالم لأنها تفهم التقشف بمعنى إخضاع ما هو طبيعي للعقل".
وهكذا يتوافق سومبارت ونويسنر على أن التخالف بين اليهودية والمسيحية هو تخالف بين الدنيوي والأخروي بينما هو في الواقع تخالف بين الحياة النوعية المسيحية والحياة الكمية الحسابية اليهودية. وفي كل حال فإن رأي كل من سومبارت ونويسنر هو الرأي النموذجي السائد. فنحن نقرأ في قاموس أوكسفورد عن اليهودية 1997 "أن مفهوم العالم الآخر، في كليته، يلعب في الفكر الديني اليهودي دوراً لا يستحق الذكر. وحين يتحدث الأنبياء اليهود باسم اللّه فإنهم يعنون في الأساس الحق والعدالة في الهنا والآن". و"أن الاتجاهين الإصلاحي والمحافظ في اليهودية يميلان إلى إعطاء تفسير طبيعي Naturastistic لمعتقدهم، وهو مفهوم رافض للعالم الآخر جملة وتفصيلاً".
لكن هذه الاستعدادات المتأصلة في الموروث الديني ما كانت لتتمظهر في خصوصية اليهودي التجارية والمالية لولا توافر حاضنتها التاريخية التي تعهدت نموها وتطورها. ذلك أن المفاهيم والأفكار هي أجنة تتكون في رحم التاريخ وتحيا فيه قبل أن تحييه.
وهذا يردنا إلى موضوعة ماركس التي تصحح مقاربتي فيبر وسومبارت وهي القائلة "لا يجب أن نبحث عن سر اليهودي في دينه، بل أن نبحث عن سر الدين في اليهودي الواقعي".
والبداوة هي بداية العبريين التاريخية. فالعبريون القدامى، وهم بدو رحَّل كما سبق وأكدنا، قاموا بصفتهم تلك ليس فقط برعاية المواشي وملاحقة الماء والعشب، وإنما بدور التجار الذين ينقلون البضائع بين المجتمعات الزراعية المستقرة. فالتجارة شرطها التجوال، عكس الزراعة التي يشرطها الثبات والاستقرار.
وقد ورد ذكر اليهود للمرة الأولى في التاريخ مدوناً على ألواح تل العمارنة على أنهم بدو رحل لا يقومون بالرعي وحسب، وإنما بالبجارة أيضاً. وتبدو سمة التجوال والهجرة هذه "ظاهرة متفردة" في مسار العبريين التاريخي كما تلاحظ بديعة الأمين في كتابها "المشكلة اليهودية والحركة الصهيونية".
"إذا كان هناك ثمة ظاهرة متفردة تميز بها اليهود القدماء فهي ميلهم للهجرة والاستيطان في مناطق مختلفة من العالم القديم". وبين أهم الأسباب التي تعلل بها الباحثة حركية اليهود هو تعاطيهم "أعمالاً لا ترتبط بحكم طبيعتها بأرض معينة". وتحدد الأمين هذه الأعمال أنها "التجارة والربا والصيرفة" التي أسهمت بين أسباب أخرى مثل ضيق وشح الأرض التي احتلها العبريون وخصوماتهم الداخلية أو الخارجية مع جيرانهم في "قذف موجات متلاحقة من اليهود إلى عواصم الإمبراطوريات القديمة للعمل فيها كتجار وصيارفة ومرابين".
هذه الرابطة الوثقى بين تجوال البداوة والتجارة يوضحها سومبارت Sombart في كتابه "اليهود والرأسمالية الحديثة". إن الراعي يعمل في تكثير الماشية كما يعمل الرأسمال في تكثير المال، والماشية والمال يتكاثران بسرعة. من هنا فإن فكرة الربح لا تتولد في ذهن المزارع، وإنما وعي الراعي المتجه إلى إنتاج لا تحده الحاجة أو الكفاية. إن مهنة الراعي يقول سومبارت تسودها فكرة مفادها أن ما يهم في الأنشطة الاقتصادية هو الكمية المجردة للسلع ومهنة الراعي وحدها جعلت الحساب والعد ضرورة أولية".
ويخلص سومبارت إلى قول "إننا لا نغالي إذا قلنا إن الحياة الرعوية هي التي ولّدت الرأسمالية، وإذا عرفنا ذلك أدركنا بوضوح العلاقة بين الرأسمالية واليهودية". وإذا كانت البداوة الجوالة وذهنية الحساب والعد الكمي هي عنصر تكويني أساسي في الروح اليهودية، فإن المال، ملاك اليهود الحارس، شكل رافداً تكوينياً آخر يصدر بدوره عن أسلوب الحياة الرعوية، كما يقول سومبارت:
"في المال يتحد العنصران اللذان تضافرا في صنع الروح اليهودية: الصحراء والتجوال الرعوي. إن المال ليس أقل تجريدية أو أكثر محسوسية من الأرض التي نشأ عليها اليهود" المال هو كتلة Mass، مثل القطيع، ونادراً ما يتجذر في تربة خصبة مثل زهرة أو شجرة. واهتمام اليهود الدائم بالمال حول انتباههم عن الحياة النوعية الطبيعية ووجهه نحو مفهوم كمي مجرد للحياة".
وبقطع النظر عن إسهام العبريين القدامى في تجارة المنطقة بعد تَوَطُنِهم في فلسطين، وهو إسهام لم يكن كبيراً - "بسبب التركيب القبلي لمجتمعهم، ولأن اقتصادهم كان مكتفياً بذاته، كما أن سكان البلاد الأصليين كانوا يعوقونهم عن الوصول إلى شرايين التجارة"، فإن صورة العبري تاجراً وراعياً، بقيت أقرب ما يكون إلى الجوال المهمش الذي لا يعلق له جذر في الأرض. وقد سار التاريخ بالعبريين في اتجاه التخصص في الوظائف التجارية والمالية. ذلك أنه بعد قيام الإمبراطورية الرومانية حرَّم القانون الروماني على النبلاء استثمار أموالهم في التجارة لازدرائهم بهذا الجانب من النشاط الإنساني، كما حرم على الشيوخ والنبلاء امتلاك بواخر ذات حمولة عالية فاتحاً البحار أمام أساطيل اليهود التي كانت تجوب البحر الأبيض المتوسط ناقلة أطايب الشرق وغلاله، ذهبه وحريره، إلى روما المترفة. كما مارس اليهود الربا وحظوا بامتيازات بينها الاستقلال النسبي في إدارة شؤونهم الخاصة وحق المواطنة الرومانية.
ويذكر ديورانت "أن اليهود كانوا يمتلكون نصف سفن الإسكندرية، وكان ثراؤهم في تلك المدينة السريعة التأثر والهياج مما زاد في حدة العداء الديني". وأفاد اليهود في القرون الوسطى من تحريم الكنيسة للربا والاستثمار المالي في التجارة بدءاً بمؤتمر لاثران الثالث عام 1179 والرابع 1215 وقد أفاد اليهود من تعامل كنيسة القرون الوسطى مع الربا من منطلق ديني أخلاقي يصنف هذا النشاط بوصفه إحدى الخطايا السبع.
وأسهم حفاظ اليهود على متحداتهم العائلية والقبلية في الشتات، والثقة المتبادلة بين هذه المتحدات، في تمكين الجماعات اليهودية من إنشاء أول نظام ائتمان عالمي سهَّل عملية انتقال التاجر من بلد إلى آخر، ويسَّر عمليات التبادل التجاري على نطاق دولي.
وتذكر بديعة الأمين "ان اليهود كانوا في القرون الوسطى يتألفون بغالبيتهم الساحقة من تركيب طبقي يكاد يكون موحداً، يتألف من شرائح لا تتباين في الأساس من ناحية الخصائص والمميزات الطبقية العامة، وإنما تختلف درجة من الناحية التخصصية. وهؤلاء جميعاً يؤلفون كياناً طفيلياً غير منتج متماثلاً من الناحية الوظيفية، ويرتبط ارتباطاً عضوياً بالطبقة الأرستقراطية الإقطاعية الحاكمة".
هذا التخصص الوظيفي والتجانس الطبقي النسبي بلغا حداً جعل إبراهيم ليون يفسر استمرارية اليهودية كرابطة قومية ب"تحول الأمة اليهودية إلى طبقة". وهذا المفهوم، وإن تضمن شيئاً من التبسيط والاختزال إذا فهمنا مصطلح طبقة بمضمونه الاقتصادي البحت، لكنه يبقى مبرراً إذا فهمناه بمعنى غياب أسباب الصراع والتنافس الاقتصادي داخل الغيتو، والتلاحم الوجداني الذي قام بين ساكنيه الذي تعمق بفضل بطبيق مفهوم الصدقة Tsadakah على المحتاجين.
ويتوافق المؤرخون على أن اليهود كانا يحتكرون التجارة بين الشرق والغرب خلال القرون الوسطى، مما جعل خصوصيتهم الاقتصادية تترافد مع خصوصيتهم الدينية الأصلية. ومما عزز تماسك "الأمة-الطبقة" هو ما لحظه ليون من انعدام الصراع الطبقي داخل المتحد اليهودي، ذلك أن اليهود لم يضموا في صفوفهم طبقات اجتماعية عدة بينها الفلاحون والنبلاء الأشراف الذين كانوا ينتدبون إلى السلطة ملوكاً وأمراء من طبقتهم. لذلك لم يكن هناك منافسة اقتصادية بين اليهود أنفسهم.
إن تفاعل الخصوصية الطبقية الوظيفية مع وعي اليهودي لخصوصيته الدينية هو الذي جعل اليهود يستعصون على انصهار شمل معظم شعوب الإمبراطورية الرومانية. ولعبت التشريعات التي منعت اليهودي من امتلاك الأرض، والعمل بالتالي في الزراعة، دوراً أساسياً في بقاء اليهودي على هامش المجتمعات الأوروبية، "في مسامها" بحسب تعبير ماركس، وليس جزءاً من بنيتها.
إن التشريعات الكنسية والزمنية التي حرمت اليهودي من العمل كمزارع في القرون الوسطى وضعت اليهود خارج الحدود الأخلاقية والقانونية للمجتمع، فتمتعوا بحرية حركة كبيرة مكنتهم من أن يجمعوا ثروات كبيرة، لكنها شكلت أحد أهم أسباب عدم اندماجهم في المجتمع الأوروبي وعززت بالتالي خصوصيتهم الاقتصادية والدينية.
ويلامس المسيري في كتابه "الايديولوجية الصهيونية" جدلية الفكر والواقع في التاريخ اليهودي حيث يلاحظ "أن الأساس الاقتصادي ممثلاً في الثروة دعَّم الإحساس اليهودي بالوحدة والعزلة والتفرد، كما كان الانتماء الطبقي ذاته مدعوماً من الانتماء الديني المتفرد لليهود في المجتمع الأوروبي الوسيط".
* استاذ الادب المقارن والدراسات الحضارية في الجامعة اللبنانية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.