عندما اعتقل جواد قصفي عام 1988 في عملية كوماندوس اسرائيلية وحكم عليه بالسجن المؤبد كانت زوجته فضيلة وهبة حاملاً، وأنجبت بعد اربعة أشهر مولودة سمّتها جميلة، عسى ان يكون آتي الأيام جميلاً بلم الشمل وعودة الاسير الغائب. ترعرعت جميلة في كنف أمها وهي تمني النفس برؤية والدها الذي لم تره الا عبر رسائله وفي صوره القديمة. لكن القدر لم يمهلها فتوفيت في تشرين الاول اكتوبر من العام الماضي عن ثلاثة عشر عاماً مغمضة عينيها على صورة أبيها بعدما ضرب المرض كليتيها. اربعة عشر عاماً من المعاناة لم تفتّ من صلابة فضيلة وصبرها "على رغم المصاب الكبير بفقد فلذة كبدي التي لم يسمح لها القدر بلقاء والدها او التحدث اليه. وما يعزيني هو وجود رفيق الدرب جواد ولو وراء القضبان". وماذا عن المفاوضات الجارية لاتمام عملية التبادل؟ تقول: "لا أريد ان اعد نفسي كثيراً لأن الصهاينة لا امان لهم، اذ اعتادوا نكث العهود ولو في اللحظة الاخيرة. لكن يبقى الامل بالله كبيراً ولن نيأس من قرب الفرج". لا تأبه ام جميلة كثيراً للفيتو الاسرائيلي على اطلاق زوجها في المدة الاخيرة لاتهامه بقتل اسرائيليين. وتقول: "وان كنا نأمل بالافراج عن الاسرى جميعاً، فإذا اقتضت ظروف التفاوض ان يبقى زوجي معتقلاً فأمرنا وأمره الى الله. لن نقف حجر عثرة وما يقرره السيد نصرالله نحن راضون به". وتستطرد: "لكن نجاح المفاوضات يعني اطلاق كل المعتقلين". وعما سيكون عليه مشهد اللقاء بعد الافراج عن زوجها تقول: "موقف صعب. ادعو الله ان يعطيني وجواد القوة والصبر. لأنني سأجد نفسي من دون جميلة في هذه اللحظة وكأن الروح تكاد تخرج من جسدي. اما والدها الذي كان يأمل يوماً بأن تكون ابنته في طليعة مستقبليه، فلا يمكنني تصور حاله حينما يراني من دونها". تعلق جميلة بوالدها يفوق الوصف، تقول الوالدة: "كان حديثها عنه لا ينقطع. وكانت تشعرني بمحبتها لي بالمقدار نفسه، لذلك ابتدعت مصطلحاً جديداً لمناداتي "باما"، وكان جوابها لي عن سبب مناداتها بهذه الطريقة، يا امي "با" هو المقطع الاول من كلمة "بابا"، و"ما" هو المقطع الاول من كلمة "ماما" وانا اجمع هذين المقطعين". وتستذكر الوالدة ألم الفاجعة التي حلّت بها عند وفاة ابنتها ووقعه على والدها فتقول: "لأن ذوي الاسرى اللبنانيين ممنوعون من زيارة ابنائهم زارت عائلة فلسطينية جواد في السجن بعد حصولها على اذن من المحكمة. ويوم وفاة جميلة علمت الاسرة بالخبر وصودف ان تزامن موعد زيارتها لجواد في اليوم التالي فكان لا بد من ابلاغه بالخبر الذي كان وقعه قاسياً جداً عليه، لكنه كانسان مؤمن سلّم امره لارادة الله، وتلقينا منه رسالة عزاء ومواساة وقال ان هذه ارادة الله ولا راد لقضائه". وتضيف: "كل الرسائل التي كنا نبعثها الى جواد في السنوات الماضية كانت تكتبها جميلة وهي تنتقي كلماتها وترفقها بصور لها من عمر ثلاثة ايام حتى 13 عاماً تاريخ وفاتها. كانت اقصى لحظات الفرح لديها عندما تصلها رسالة من والدها فتركض اليها تقبلها وتقرأها بشغف وتعيد قراءتها ثانية وثالثة وهي تردد عبارة ماذا يفعل بابا؟ ماذا يأكل؟ وأين ينام؟". تقول وتضيف: "اما رسائل جواد لها فكانت مليئة بكل ما تعنيه مشاعر الابوة بالحنان وكان يحلو له ان يناديها ب"يا ملاك العائلة". وكان يعبر لها عن اعجابه بجمالها وذكاء اسلوبها في التعبير. وكم كان يتمنى ان يسمع صوتها ويراها امامه ليحضنها. لكن بضع كلمات كان وقعها شديداً عليه حينما خاطبته قائلة: "ابي انا لم ارك بعد، متى تضمني كما يفعل الآباء" فرد عليها: "لقد كسرت قلبي بهذه الكلمات، اصبري يا بابا انا استمد قوتي وصبري من انتظارك لي". تستحضر الوالدة الصورة التي كانت عليها ابنتها عند دخولها المستشفى وتقول بحزن شديد: "عندما دخلت جميلة المستشفى للعلاج كانت تردد دائماً يا ليت كان البابا معنا كان الوجع يخف عني"، وتضيف: "لكن المرة الوحيدة التي بكت عند ذكر ابيها، كانت عندما أكد احد الاطباء على مسمعها انها تحتاج الى زرع كلية وانه يستحسن ان تكون الكلية من الأب أو الأم فلم تتمالك دموعها، ثم تبسمت بحزن وقالت وهي تشهق باكية: وين بابا حتى يعطيني؟". شاركت جميلة مع ثلاثة من اقرانها في "لجنة كريمات الاسرى" بلقاء رئيس الجمهورية اميل لحود والأمين العام لجامعة الدول العربية وبعثت برسائل الى الأمين العام للأمم المتحدة والصليب الاحمر الدولي والمحافل الدولية ولجان حقوق الانسان تشرح معاناتها عساها ترى والدها لكنها لم توفق بتحقيق حلم عمرها. وكلما تذكرت والدتها كلماتها في رسالة اخيرة من على فراش الموت الى ابيها خنقتها العبرة. وتقول: "كانت وصية وداع. وعلى رغم ان المرض اخذ يفتك بجسدها الطري ظلت تكابر على نفسها، وراحت تصبّر قلب ابيها باخفاء ألمها ومعاناتها عنه، مع علمها بدنو اجلها، وخاطبته بهذه الكلمات: انا ناطرتك يا بابا، ثم طوت الرسالة لتسكب دموعها غزيرة عليها...". لم يشفع لجميلة قصفي مرضها او معاناتها بلقاء والدها والقاء تحية الوداع عليه قبل رحيلها. وتروي الوالدة اللحظات الاخيرة من حياة ابنتها فتقول: "ليلة 19 تشرين الاول أكتوبر وقبل ذهابي الى النوم طلبت مني تقبيلها وضمها الى صدري ونامت لتستيقظ عند آذان الفجر فتوضأت وصلّت... وشعرت بضيق نفس فوضعت لها جهاز التنفس... وكانت كلماتها الاخيرة: يا ماما قولي لبابا بس يطلع جميلة كتير بتحبك وبدأت تحتضر...". قبل ان تغمض عينيها ويوافيها الموت ألقت جميلة من يدها بضع وريقات كانت مزقتها من كتاب مقررات جنيف عن حقوق الطفل والطفولة وفارقت الحياة ليبقى السؤال: من المسؤول عن موت طفلة وحرمانها من رؤية ابيها: اسرائيل أم مجلس الأمن أم القدر؟