مع أن السيولة النقدية وتوافرها، عامل مهم في تحريك العجلة الاقتصادية، غير أنه إذا لم يتم امتصاص الفائض منها فإن هذا قد يؤدي غالباً إلى ظهور ضغوط تضخمية، ومغالاة في أسعار العقارات والأراضي والأسهم كما حصل أخيراً في عدد كبير من دول المنطقة. ويمكن قياس مستويات السيولة بالكتلة النقدية أو حجم النقد المتداول في الاقتصاد. وهناك تعريفات للكتلة النقدية غير أن أكثرها شيوعاً هو النقد المتداول مضافا إليه الودائع تحت الطلب في الجهاز المصرفي أو م1. وشهدت معظم دول المنطقة معدلات سيولة فائضة في السنتين الماضيتين، إذ سجلت السعودية معدلات نمو في الكتلة النقدية لديها م1 تجاوزت 18 في المئة في السنة ونصف السنة الماضية. وراوحت معدلات النمو في الكتلة النقدية لدول الخليج الأخرى ما بين 12 في المئة إلى 25 في المئة مقارنة مع أقل من 5 في المئة في عامي 1997 و1998. وفي الأردن جاء النمو في الكتلة النقدية في حدود 18 في المئة منذ مطلع السنة الجارية، إضافة إلى 9 في المئة التي سجلت عام 2002. إن أحد أهم العوامل التي تزيد حجم السيولة في أسواق المنطقة هو ارتفاع العائدات النفطية، وما لذلك من تأثير إيجابي على النفقات الحكومية لدول الخليج، أضف إلى ذلك توسع الإقراض من قبل المصارف للمستهلكين والشركات، وارتفاع المساعدات الأجنبية للدول العربية غير النفطية وعودة بعض رؤوس الأموال من الخارج وزيادة الاستثمارات الأجنبية سواء كانت مباشرة أو موجهة إلى أسواق الأسهم لدول المنطقة. ووصل متوسط سعر برميل خام برنت منذ مطلع السنة وحتى الآن إلى 28.8 دولار مقارنة مع 25 دولاراً عام 2002 و24.5 دولار عام 2001. ومن المتوقع ان يتجاوز معدل سعر النفط السنة الجارية مستوى 28.40 دولار للبرميل، وهو المعدل الذي وصل إليه عام 2001. فالأسعار المرتفعة هذه التي صاحبتها أيضا زيادة في معدلات إنتاج النفط أدت إلى ارتفاع عائدات المنطقة النفطية وشجعت الحكومات على اتباع سياسات مالية توسعية زادت من حجم السيولة المحلية الفائضة. وغالباً ما ينعكس ارتفاع عائدات النفط وما يرافقه من سياسات مالية توسعية في دول الخليج على مستويات السيولة في دول المنطقة الأخرى. وفي الفترات التي تشهد فيها دول مجلس التعاون الخليجي نمواً اقتصادياً قوياً يصاحبه ارتفاع في الطلب المحلي، فإن هذا يؤدي إلى زيادة الإنفاق على الاستيراد الذي يشمل سلعاً وخدمات من الدول العربية المجاورة. أضف إلى ذلك ان تحسن الأوضاع الاقتصادية في الخليج يرفع من حجم التحويلات التي يرسلها العاملون في تلك الدول إلى ذويهم في الدول المصدرة للعمالة، بالإضافة إلى زيادة التدفقات الاستثمارية الخليجية إلى دول المنطقة الأخرى سواء كانت استثمارات مباشرة في عقارات ومشاريع اقتصادية أو استثمارات في أسواق أسهم هذه الدول. وهناك أيضاً ظاهرة السياحة العربية البينية التي سجلت معدلات نمو جيدة في العامين الماضيين خصوصاً من دول الخليج إلى دول مثل مصر ولبنان والأردن وسورية، التي أخذت تحل تدريجاً محل الولاياتالمتحدة وأوروبا كمركز جذب للسياحة الخليجية. واستفاد القطاع الخاص في المنطقة من تراجع أسعار الفائدة المحلية لتجاري أسعار الفائدة الدولية وصاحب ذلك توسع في الإقراض من قبل المصارف التجارية. وسيكون للتأكيد الذي قدمه القائمون على السياسة النقدية في الولاياتالمتحدة بأن أسعار الفائدة على الدولار لن يجري رفعها في المستقبل المنظور تأثيره الإيجابي على نمو معدلات الائتمان في أسواق دول المنطقة، إذ أن الفائدة على الدولار هي المحدد الرئيسي لأسعار الفائدة المحلية خصوصاً في الدول التي ترتبط أسعار صرف عملاتها بالدولار مثل دول الخليج والأردن ولبنان، ما سيؤدي إلى زيادة معدلات السيولة الفائضة في هذه الدول. ومما زاد أيضاً من حجم السيولة الفائضة في أسواق دول المنطقة خلال العامين الماضيين عودة بعض رؤوس الأموال المستثمرة في الخارج إلى أسواق دول المنطقة. حيث تشير آخر بيانات بنك التسويات الدولية إلى قيام عدد كبير من السعوديين وغيرهم من دول الخليج الأخرى بسحب جزء من إيداعاتهم من المراكز المصرفية الدولية وإعادتها إلى بلادهم. ومنذ منتصف عام 2001 أخذ المستثمرون العرب بتنويع محافظهم الاستثمارية بسبب انخفاض أسعار الفائدة والهبوط الذي سجل في أسواق الأسهم الدولية إضافة إلى ظهور مخاطر تجميد أموال عربية وإسلامية في الخارج. وعلى سبيل المثال سجل إجمالي الودائع في القطاع المصرفي السعودي معدلات نمو بنحو 22 في المئة خلال 18 شهراً الماضية مرتفعة من 221 بليون ريال 59.2 بليون دولار في نهاية عام 2001 إلى 270 بليون ريال 72 بليون دولار في تموز يوليو من هذا العام. وكان لارتفاع معدلات السيولة أثره في أسواق الأسهم والعقارات والأراضي في معظم دول المنطقة. إذ سجلت أسواق الأسهم العربية ارتفاعا كبيراً منذ بداية السنة بنسبة راوحت بين 150 في المئة في مصر و85 في المئة في الكويت و66 في المئة في قطر و63 في المئة في السعودية و39 في المئة في عُمان و41 في المئة في الأردن و29 في المئة في الإمارات العربية المتحدة. كما تضاعف حجم تداول الأسهم اليومي على المستويات التي كانت سائدة عامي 2000 و2001. وشهدت سوق الأراضي والعقارات في أغلب عواصم الدول العربية ارتفاعاً ملحوظاً هذه السنة مع ارتفاع الطلب على هذه الأصول. ويتوقع ان تبقى معدلات السيولة المحلية والإقليمية مرتفعة السنة المقبلة، مدعومة بأداء اقتصادي قوي، وأسعار فائدة منخفضة واتباع دول الخليج سياسات مالية توسعية مع ثبات أسعار النفط عند معدلات مرتفعة. وستستفيد الدول العربية غير المنتجة للنفط، من المساعدات المالية المتوقعة وتحويلات العاملين في دول الخليج أضف إلى ذلك زيادة الاستثمارات في أسواق هذه الدول وارتفاع حجم السياحة البينية العربية. وفي الماضي كانت معظم السيولة الفائضة في المنطقة تتجه للاستثمار في أسواق الأسهم والسندات العالمية، غير أن التقلبات الكبيرة والأداء الضعيف الذي شهدته هذه الأسواق خلال السنوات القليلة الماضية إضافة إلى التهديدات التي تواجه الاستثمارات العربية في الخارج، دفعت السيولة الفائضة الى البحث عن فرص استثمارية في الأسواق المالية العربية. ولامتصاص فائض السيولة هذا وتقليص أثره على مستويات الأسعار لا بد لحكومات دول المنطقة من إصدار المزيد من أذونات الخزانة والسندات المقومة بالعملات المحلية حتى لو لم تكن في حاجة إلى الاقتراض لأن ذلك يعطيها أداة إضافية تساعدها على إدارة فائض السيولة في البلاد. ولا بد أيضاً من تقليص ملكية القطاع العام في الشركات المدرجة وتسريع عملية التخصيص عن طريق بيع أسهم الشركات التابعة للقطاع العام في البورصات المحلية. فزيادة حجم ما هو معروض للاستثمار يعطي العمق الإضافي لأسواق الأسهم العربية ويجذب المزيد من الاستثمار المحلي ويقلص من حجم السيولة الفائضة في السوق. * الرئيس التنفيذي. جوردانفست