ليس الغناء بالضرورة ما نسمعه ليل نهار على الفضائيات العربية. أو بالأحرى لا يقتصر الغناء على الأعمال الرائجة التي تصنعها الموضة، وتكثر حولها الضجّة الاعلاميّة، وتثير "اعجاب" الجمهور التلفزيوني، وسرعان ما يلفّها النسيان. لا نقصد طبعاً أن كل ما تبثّه الفضائيات لا يستحقّ التصنيف في خانة الفنّ، ولا أن الفنّانين الجدد مصيرهم حكماً "مزبلة التاريخ". كل ما في الأمر أننا نسينا الطرب أو كدنا، وأن الجيل الجديد لا يعرف من هو محمد عبد الوهاب، ولم يسمع حتّى بإسمه، فكيف بالأحرى أبو العلا محمد أو عبده الحامولي؟ من هنا أن رهان المغنية اللبنانية الشابة ريما خشيش التي أطلّت على الجمهور البيروتي في حفلتين على خشبة "مسرح المدينة" آخر أيّام رمضان، يكتسب أهميّة مزدوجة: الأولى والأهم فنيّة بحتة، والثانية تثقيفيّة تربويّة و... احتجاجيّة. أما البعد الفنّي فقائم على اللذة والمتعة ورهافة الاداء والالمام الحقيقي بالتراث، أي ببساطة على الطرب. وأما الجانب الاحتجاجي، فيتجلّى في شكل من أشكال "مقاومة". مقاومة الزمن الهشّ، ومواصلة احياء تقاليد الطرب التي لا تتسع لها الموضة الاستهلاكيّة. وبين المتعة والمقاومة، نجد الجانب التربوي... الذي لا يقدّر بثمن. ريما خشيش ظاهرة فنيّة وثقافيّة، ووقوفها على الخشبة، في حدّ ذاته حدث فنّي. هذه الصبيّة الثلاثينيّة التي بدأت صغيرة مع سليم سحّاب، وبرزت كسوليست في "فرقة بيروت للموسيقى العربيّة"، تجذب إلى الطرب ابناء وبنات جيلها، فإذا بهم ينسجمون مع هذا الموشّح، ويرددون كلمات تلك القصيدة. وقد لاحظنا في "مسرح المدينة" خلال الأمسيتين المتلاحقتين تعايشاً واضحاً لجيلين على الأقلّ: جيل الاهل ممن يسكنهم "الحنين" الى "عصر ذهبي" فات - كما تفوت كلّ العصور الذهبيّة، وجيل الابناء، جيل ريما الباحث عن جذوره وهويّته في زحام عصر متنوّع المصادر يعرف كيف ينتمي اليه بلا تقوقع ولا خوف. وكثيراً ما سمعنا: "شو بابا؟"، "ما رأيك ماما؟" كأن العائلة الواحدة اتحدت مسافة أمسية طربية لريما خشيش. بشفافيّة ترشح خفراً، بدأت ريما بموشّح "لاه تيّاه" فؤاد عبد المجيد، وبعد أغنيتين لفيروز والرحابنة أنا وسهرانة، يا حبيبي كلّما هبّ الهوى أسبغت عليهما في لحظة ما، من حيث لا تدري ربّما، حلّة كلثوميّة... تجرأت على اداء أغنية صعبة جداً لأم كلثوم تعود إلى الثلاثينات هي "يا فايتني وأنا روحي معاك/ ما تقولي كان إيه بكّاك..." أحمد رامي/ القصبجي. تعطي نفسها للحن ريما خشيش، تستعمل يديها بطريقة خاصة جدّاً، يد واحدة في الفراغ، ترسم الجملة اللحنيّة، تداعب الكلمات في الهواء، تعطيها حضورها من لحم ودم ومشاعر. فإذا وصلت إلى قصيدة أمير الشعراء "يا ناعماً رقدت جفونه..."، كانت النشوة بلغت ذروتها، وأمعن الجمهور في التأمّل والاصغاء. روح عبد الوهاب كانت هنا تخيّم على المكان. بين ضيوف ريما خشيش كان هناك أيضاً وداد... من يذكر وداد؟ "ألف ورده"، حسن غندور... وصباح المرحلة المصريّة، إذ غنّت من كلمات صلاح جاهين وألحان سيّد مكاوي "أنا هنا يا بن الحلال". مروراً بموشّحات سيد درويش يا عذيب المرشف، صحت وجداً، و"يا حمام" التي كتبها حليم الرومي لفيروز... وصولاً إلى واحدة من أجمل أغنيات ليلى مراد من ألحان الشيخ زكريا أحمد "حبيت وشفت كتير". لكن ريما خشيش ليست متحفاً، ولا حلقة فولكلوريّة لاستعادة التراث المحنّط. فالأغنيات تعيش معها... هي المعروفة بجرأتها على التجديد خصوصاً بعد تجربتها مع فرقة هولنديّة أسطوانة "أورينت اكسبرس" التي طعّمت فيها الطرب بموسيقى الجاز. وقد حملت لنا أكثر من مفاجأة خلال حفلتيها في بيروت السبت والأحد، ماضية في مخاطبة جمهورها الشاب الذي ينتمي إلى "الآن وهنا". بعد استراحة الفصل الأوّل، انسحب من الخشبة التخت التقليدي ميشال خير الله/كمان، ايمان حمصي/قانون، سمير سبليني/ ناي، بسام صالح/ كونترباص، وليد ناصر/ رقّ الذي عزف للأسف بتقنيّة إنما بلا روح، ليترك مكانه لعازف الغيتار المعروف موريس خوري، وللفنّان الشامل ربيع مروّه الذي تركناه قبل أيّام، في المسرح نفسه، ممثلاً ومؤلفاً ومخرجاً مسرحياً البحث عن موظف مفقود... لنجده هذه المرّة مؤلفاً لموسيقى وكلمات أغنية جميلة أدتها ريما بعنوان "بيكفيني"، ومرافقاً لها على الغيتار. الأغنية مدهشة وشفافة وطريفة، تعكس من بعيد عوالم زياد الرحباني، وتجمع روح البلوز إلى بيت العتابا الذي جاء يضفي عليها مسحة من الطرافة والغرابة. كما خاطرت ريما خشيش في مزج وديع الصافي "عالبال يا عصفورة النهرين" مع أغنية الفنانة الايسلندية بيورك التي كتب لها ربيع مروة كلمات جديدة، لا تخلو من غرابة أيضاً... وقد بتنا اليوم ننتظر من ريما خشيش أسطوانة جديدة تعكس تلك المناخات، وتضمّ أغنيات من تأليف ربيع مروّة وآخرين من جيله.