تفاجئ المطربة ريما خشيش جمهورها اللبناني في إطلالة مختلفة لم يعهدها سابقاً. إنها مسرحية «ريما كامل» المونودرامية التي تقدمها قريباً في لبنان بعدما قدمتها- وتقدمها- على مسارح عدة في ألمانيا (ميونيخ، برلين، كولونيا، فرانكفورت...). المسرحية كتبها المخرج ربيع مروة وتولى إخراجها ورسم فضائها السينوغرافي، مستنداً إلى ما روت له ريما وسردت من تفاصيل مسيرتها الفنية التي كانت بدأتها صغيرة. إنها تجربة فريدة فعلاً أن تمثل مطربة سيرتها من خلال شخصيتها التي تستحيل على الخشبة وكأنها شخصية قرين أو بديل (لو دوبل كما يقال بالفرنسية). ولقيت المسرحية في جولتها الألمانية نجاحاً كبيراً وجذبت الجمهور والصحافة. ومعروف أن مروة يقيم الآن في ألمانيا ويحيي محترفات مسرحية وموسيقية من دون أن ينقطع عن لبنان والجمهور اللبناني. كانت هذه التجربة نوعاً من التحدي للمطربة التي اعتادت أن تطل على الخشبة بحرية وعفوية تامتين مؤدية بصوتها العذب والشجي والمفعم إحساساً ومرونة وليونة. «الأمر يختلف عندما اطل في مسرحية، تقول ريما ل «الحياة»، ترددت قليلا في البداية، ثم اقتنعت. وقد وفرت لربيع كل المواد التي يمكنه الانطلاق منها لكتابة النص. وعمله غاية في الفرادة حقاً. فهو لم يشأ أن يكتب سيرة لي في المعنى التقليدي، بل جمعنا كل الوثائق الصوتية والبصرية من صور وأفلام وتسجيلات قديمة وجديدة. ونجح فعلاً في صهر هذه المواد ببعضها ليخلق نصاً درامياً، مسرحياً وبصرياً وغنائياً. لا أغني في العرض إلا قليلاً، بينما مهمتي أن أمثل هذه الشخصية التي هي صورة حية عني وعن مسيرتي». ليست ريما غريبة عن المسرح فهي درست الفن في الجامعة الأميركية- اللبنانية (LAU) ومن ضمنه الإخراج والتمثيل، وفي الوقت ذاته التحقت بالكونسرفاتوار اللبناني ودرست الموسيقى والغناء. وأدت أدواراً عدة في مسرحيات وأطلت في أفلام للمخرجين غسان سلهب ومحمود حجيج ومحمد سويد. لكنها في هذه المسرحية المونودرامية وجدت نفسها وحيدة على الخشبة تؤدي نصاً ليس قصيراً وتجسد عبره شخصيتها في مراحل عدة، منذ صغرها حتى الآن. ومعروف أن المسرح المونودرامي يضع الممثل الواحد وجها لوجه مع جمهور ينظر إليه ويراقبه ويتفاعل معه. تقول ريما: «تقديم المسرحية في لبنان وأمام جمهور لبناني سيكون أصعب. في ألمانيا كانت ترافق العرض ترجمة على الشاشة، أما في لبنان فستكون العلاقة مباشرة وحميمة أكثر. والمسرحية تتضمن أصلاً إشارات عن الحياة العامة والسياسية في لبنان. لكنني اعترف أنني اعتدت كثيراً هذه الشخصية وصرنا أنا وإياها شخصية واحدة. فأسرارها هي أسراري وتعابيرها ليست غريبة عني. وأهم ما يبرز هنا هو الإيقاع، إيقاع الجسد بكل أبعاده وإيقاع الأداء الشفوي للنص وعيشه وكأنه جزء مني». ليست ريما خشيش مطربة فريدة ومتفردة في جيلها فقط، بل هي صاحبة مشروع غنائي باشرت في ترسيخه منذ أن أنجزت خطواتها الأولي في عالم الغناء التراثي والأصيل. وعبر هذا المشروع تسعى إلى بلورة تجربتها كمطربة متعاونة مع ملحنين وشعراء، وفي مقدمهم ربيع مروة وعصام الحاج علي. لكنها تساهم في اختيار الشعر والألحان وتشارك في التلحين أحياناً انطلاقاً من وعيها الموسيقي الأكاديمي وثقافتها العميقة في عالم الغناء. وهي المعروفة في أداء المقامات والموشحات التراثية لم تتورع عن خوض غمار الغناء الحديث لا سيما عبر تعاونها مع ربيع مروة الذي درس الموسيقى، إضافة إلى المسرح. إنها مغامرة تخوضها ريما بجرأة وبثقة مدركة أن حركة التلحين- خصوصاً في لبنان- تعاني أزمة واضحة انعكست على حركة الغناء. هذه المطربة التي نشأت على أغاني فيروز، نظراً إلى الميول الفيروزي- الرحبانية لوالدها كامل خشيش، عازف القانون، التحقت باكرا بفرقة الموسيقار سليم سحاب بعد نجاحها الباهر في برنامج «ليالي لبنان» وكانت في الثامنة من عمرها وأدت موشح «انت المدلل». أمضت ريما سبعة عشر عاماً في فرقة سحاب أدت خلالها أجمل الموشحات وأصعبها ونجحت في احترافها وتلوينها بصوتها العذب والمهذب، ونجحت أيضاً في استيعاب هذا التراث الغنائي والموسيقي وأصوله ومعاييره التقنية والجمالية وغنت الكثير لأم كلثوم وسيد درويش وزكريا أحمد وسواهم. وتقول ريما إنها لو لم تدخل هذا الجو الغنائي لكانت الآن في ضفة أخرى من الغناء والطرب. وعندما انفصلت عن فرقة سحاب وبدأت التعليم الأكاديمي اختارت طريقها الخاص الذي يتقاطع فيه التراث مع الحداثة في انفتاح على فنون العصر. لفتتها كثيراً أعمال الفنان المصري عبدالمجيد المستكاوي فسافرت إلى مصر والتقته وقدّم إليها موشحات عدة، وبعد رحيله اتفقت مع ورثته وحصلت على سبعة موشحات فريدة غنت بعضاً منها وستغني البقية، ومن تلك الموشحات موشح «ياللي» البديع الذي حلقت في غنائه. عندما تغني ريما الموشحات وسواها تضفي عليها أحاسيسها وتخضعها لطبيعة صوتها وللعُرب التي يتميز بها والزخرفات البديعة. لم تشأ ريما في هذا اللون أن تكون تقليدية أو تراثية بل أحدثت خطوة غير مألوفة في أداء هذا اللون فأشبعته مشاعر جديدة وقاربته انطلاقاً من خبرتها الطويلة التي واجهت عبرها أصعب الموشحات. فالموشح فن متوارث ويؤدى في كل بلد بطرائق مختلفة. وقد اعتمدت لعبة التوزيع الموسيقي الحديث بل و «المجنون» في أحيان مستعينة بآلات غير معهودة مثل البايس والكلارينت والإيقاع المتنوع. ولعلّ هذا ما قرّب فن الموشح إلى الجيل الجديد والجمهور الغربي. غنت ريما من المدرسة اللبنانية لمطربتين في قامة فيروز وصباح ولمطرب في حجم وديع الصافي. ومن يستمع إلى هذه الأغاني يشعر فعلاً أن حنايا صوتية جديدة وعربا وزخارف تسم هذه الأغنيات. فريما لا تقلد هذه الأصوات الكبيرة بمقدار ما تعيد أداء أغنياتها على طريقتها وبأسلوبها وببراعتها في التلوين والتطويع والتعبير المرهف. ولعلّ الأغنيات التي قدمتها لصباح وأصدرتها في أسطوانة خاصة، خير دليل على قوة تجربتها وحذاقتها ووفائها للأصل، ولكن مع تغيير واضح جداً. إنها أغنيات صباح ولكن مضافاً إليها صوت شديد العذوبة وإحساس يختلف عما سبقه. ومن يستمع مثلا إلى أغنية «سكن الليل» الفيروزية التي أدتها برفقة الموسيقي سيمون شاهين، يكتشف كم أن ريما قادرة فعلاً أن تضاهي الأصل وتفترق عنه بجمال وشفافية ولكن من غير أن تخونه البتة. ريما خشيش مطربة هي في آن واحد سليلة الماضي والتراث البديع وابنة الحداثة والمستقبل. ونادراً ما اجتمعت هاتان الصفتان في صوت استطاع أن يرسخ نفسه بفرادته وجماله وقدراته وأسراره البارقة.