هل هنالك موجة جديدة من اللاسامية تجتاح العالم؟ وهل أصبح اليهود مرة أخرى هدفاً للكراهية اللاعقلانية والاضطهاد كما كانوا تحت حكم النازية؟ وهل أخذ هذا الميكروب القاتل الذي أدى إلى الهولوكوست يعود إلى الظهور بعدما ترك وصمة أبدية في ضمير أوروبا وتاريخها؟ هنالك كثير من الإسرائيليين ومن اليهود في البلاد الأخرى يخشون فعلاً أن يكون الأمر كذلك. ويبرر قلقهم هذا ما وقع أخيراً من أحداث خطيرة ذاعت أخبارها على أوسع نطاق ولاقت الكثير من الاستنكار والإدانة. في خطبة ألقاها الشهر الماضي قبيل استقالته من منصب رئاسة الحكومة الماليزية الذي شغله نيفاً وعشرين عاماً، وصف مهاتير محمد اليهود بأنهم "شعب يريد السيطرة على العالم وأنهم توصلوا إلى جعل الآخرين يحاربون نيابة عنهم"؟ في إشارة واضحة إلى الحرب الأميركية في العراق؟ وفي ألمانيا، أدلى النائب اليميني مارتن هوهمان يوم 3 تشرين الاول أكتوبر الماضي، بتصريح طائش تذمر فيه "من تحميل الشعب الألماني وحده ميراث الإثم، فهناك شعوب أخرى ارتكبت آثاماً شنيعة". ويمكن اعتبار اليهود، حسب قوله، "عنصراً مذنباً بسبب الدور البارز الذي لعبوه في أعمال العنف والقمع ضد المدنيين في الثورة الروسية عام 1917". وقد دفعت هذه الملاحظات أحد كبار القادة العسكريين في ألمانيا، الجنرال رينهارت غونزل، رئيس القوات الخاصة في الجيش الألماني، إلى أن يوجه لمارت هوهمان خطاباً يهنئه فيه على شجاعة آرائه. وما لبث هذا الجنرال أن صرف من الخدمة من جانب رئيسه السياسي، وزير الدفاع بيتر ستراك من الحزب الديمقراطي- الاجتماعي، كما طرد هوهمان من الكتلة البرلمانية للحزب الديمقراطي المسيحي. بعد مرور شهر على شطحة هوهمان الهوجاء، أي في 4 تشرين الثاني نوفمبر الجاري، جاءت ملاحظة سلبية جديدة حول اليهود من مصدر غير متوقع، بمناسبة صدور كتاب في أثينا للموسيقار اليوناني الشهير ميكيس تيودوراكيس البالغ من العمر 78 سنة، والبطل الوطني الذي قاوم الاحتلال الألماني لليونان كما قاوم حكم الكولونيلات 1967 - 1974 اذ صرح قائلاً: "نحن واليهود شعبان مختلفان، فلقد تسلحوا بالتعصب ونجحوا في فرض أنفسهم. واليوم يمكننا القول بأن هذه الأمة الصغيرة هي في جذور الشر لا جذور الخير." وحين أثارت ملاحظاته هذه السخط والاحتجاج حاول تيودوراكيس أن يدافع عن نفسه فقال: "لقد وقفت دائماً إلى جانب الضعيف وإلى جانب الشعوب المناضلة من أجل حقوقها، بما في ذلك الشعب الإسرائيلي." ثم عبر عن إعجابه بالشعب الإسرائيلي لكنه حذره من بعض "الظواهر السلبية التي تسيء إلى صورة إسرائيل والتي أصبحت في الواقع عوامل للاسامية". ويبدو أن هذه الأحاسيس التي عبر عنها تيودوراكيس جاءت صدى لنتائج الاستطلاع الذي تم إجراؤه مع 7500 مواطن من الاتحاد الأوروبي والذي أثار ذعر المسؤولين الإسرائيليين والكثير من اليهود إذ اعتبر 59 بالمئة من هؤلاء بأن إسرائيل هي التي تهدد السلام العالمي قبل كوريا الشمالية وقبل إيران. وهذا ما دفع أرييل شارون إلى أن يحاول خلال زيارته الرسمية لإيطاليا هذا الأسبوع أن يجند برلوسكوني، رئيس وزراء إيطاليا وحليف إسرائيل الأول ليتولى مكافحة اللاسامية في أوروبا. هذا وقد بدأ الزعماء السياسيون في عدد كبير من البلدان الأوروبية يقلقون من هذه الموجة الجديدة، موجة اللاسامية. ففي إحدى ضواحي باريس حيث ألقيت منذ أيام قنابل حارقة على مدرسة يهودية، وعد جاك شيراك بمعاقبة المسؤولين بأقصى الشدة وبتشديد الحراسة على المؤسسات اليهودية كافة. وصرح شيراك اثر جلسة طارئة للحكومة عقدت لمواجهة المشكلة قائلاً: "إن الهجوم على يهودي هو هجوم على فرنسا". بلاء العنصرية لكن ما جاء بعد ذلك أدهى وأمر. ففي 15 تشرين الثاني الجاري جرى تحميل سيارتي نقل بالمتفجرات وتوجه بهما انتحاريون نحو معبدين يهوديين في اسطنبول وفجروهما، مما أدى إلى سقوط 25 قتيلاً معظمهم من المارة، وثلاثمئة جريح. كانت الصدمة هائلة لأن الجالية اليهودية في تركيا التي تقلصت إلى ثلاثين ألفا عاشت بسلام مع جيرانها لا منذ ظهور كمال أتاتورك بل خلال الخمسمئة سنة الماضية. غير أن أسباب القلق بدأت تظهر خلال الشهور الماضية.. ففي أب أغسطس الماضي وجد طبيب أسنان يهودي في اسطنبول برصاصة في رأسه. وبعد شهر، قتل صاحب متجر يهودي بالطريقة ذاتها. وفي 19 تشرين الثاني ذكرت صحيفة لوموند الفرنسية أن سيدة يهودية تركية مثقفة تذمرت من تلقيها عدة مكالمات تهديد هاتفية. وصرحت هذه السيدة قائلة: "إن سياسة إسرائيل الكارثية في الشرق الأوسط جعلتنا نشعر بأن شيئاً ما سيحدث" إن اللاسامية والعنصرية من أي نوع كانت جديرة بالإدانة المطلقة. ولا يمكن بأي شكل أن يكون ذلك موضع تسوية أو تسامح، فالتمييز ضد أي إنسان لأسباب أثنية أو لمعتقدات دينية أو بسبب لون البشرة معناه التصدي لأنبل فكرة ألا وهي الأخوة البشرية. ولكن هل يواجه اليهود فعلاً اليوم موجة اللاسامية؟ أي كراهية اليهود لأنهم يهود؟ أم أن هنالك شيئا آخر؟ أليست على الأرجح رداً محرجاً جداً بالنسبة الى الأوروبيين بينما هو عنيف وانتقامي عند العرب والمسلمين؟ على العنف اليومي الذي يمارسه ضد الفلسطينيين؟ تبدو المعادلة سهلة: فشارون يقتل الفلسطينيين ويستولي على أراضيهم ويهدم منازلهم ويسجنهم وراء الأسوار... وفي عجزهم عن مواجهة إسرائيل، يقوم المسلمون بصد جام غضبهم على اليهود. ولا بد من تكرار التأكيد أن انتقاد إسرائيل ومعارضة سياساتها لا يجب أن يدمج باللاسامية ويدمغ بها. فالمشكلة ليست بما هي إسرائيل بل بما تفعله إسرائيل، وهذا التمييز معترف به من قبل الكثير من محبي السلام الإسرائيليين الذين يشكون من استغلال شارون لذريعة اللاسامية لتغطية عملياته ضد العرب. ويذكر في هذا الصدد أن السيد تيو كلاين، وهو ليبرالي كان إلى أمد قليل رئيساً للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية بفرنسا، ندد باليمين الإسرائيلي الذي يقول أن فرنسا دولة لاسامية، فأكد عكس ذلك مشيراً إلى أن الأعمال اللاسامية على الأرض الفرنسية هي رد فعل من جانب المهاجرين المغاربة على القمع الإسرائيلي للانتفاضة. لماذا يكرهوننا؟ حين قام الإرهابيون بهجماتهم في 11 سبتمر أيلول سبتمبر 2001، كان الكثير من الأميركيين يتساءلون في حالة من الذعر: "لماذا يكرهوننا؟" هل لأن العرب والمسلمين يحسدوننا على طريقة عيشنا؟ هل لأنهم يريدون مثلنا مادونا وماك دونالد؟ كثير من الأميركيين، إن لم يكن أكثرهم، لم يفهموا بأن السبب وراء النقمة يكمن في ما تفعله أميركا لا في كونها ما هي، كوجودها العسكري الكاسح في الشرق الأوسط وحربها ضد أفغانستان والعراق، وفوق ذلك كله دعمها اللا محدود لإسرائيل حتى في تصرفاتها الأخيرة الحمقاء كاغتيالها للنشطاء الفلسطينيين واقتلاع أشجار الزيتون المعمرة من قبل المستوطنين المجرمين... كل ذلك أثار اشمئزاز العالم أجمع. وفي أعقاب الهجوم على المعبدين اليهوديين في اسطنبول، ناشد سيلفان شالوم، وزير خارجية إسرائيل، العالم بأن يتخذ موقفاً موحداً ضد الإرهاب. لكن العالم أميل الى اتخاذ موقف موحد ضد السياسات التوسعية التي تسير عليها حكومة شارون اليمينية المتطرفة في سعيها المحموم لتحقيق إسرائيل الكبرى الذي هو السبب الرئيسي للإرهاب. ومن حسن الحظ أن عدداً متزايداً من الإسرائيليين أخذوا يرون بأن هناك حاجة لتغيير أساسي في الاتجاه. ففي 14 تشرين الثاني الجاري، ندد أربعة من زعماء "الشن بيت" السابقين جهاز الأمن الداخلي الرهيب بسياسات إسرائيل العسكرية نحو الفلسطينيين ونادوا بحل سياسي للنزاع يقوم على تفكيك المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وغزة وقيام دولة فلسطينية. وأعلن هؤلاء: "إننا على عتبة كارثة". كذلك صرح رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال موشي يعلون أن قمع الشعب الفلسطيني بأكمله من شأنه أن يولد مزيداً من الروح النضالية. هذا بالإضافة إلى مئات من جنود الاحتياط الإسرائيليين الذين رفضوا أداء الخدمة في الأراضي المحتلة، في حين عارض 27 من طياري الاحتياط الغارات الجوية على المناطق المدنية الفلسطينية. دعونا نأمل بأن يغتنم توني بلير في لندن هذا الأسبوع الفرصة ليقول لضيفه جورج بوش بأنه ما لم يستخدم سلطاته لحل النزاع العربي - الإسرائيلي نهائياً، فإن الإرهاب سيزدهر وكذلك بلاء اللاسامية. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.