لم نبرأ بعد من وقع رحيل الفنان التشكيلي محمد القاسمي، حتى عشنا في الرباط مرة أخرى فقدانا فاجعا ليس بأقل وخزاً ولا أقل ضراوة. ففي المستشفى نفسه الذي عانقت حجراته الأنفاس الأخيرة لصديقه محمد، عانق محمد شكري رحلته الأخيرة عن سن الرابعة والستين، بعدما عاش في الأشهر الأخيرة محاولات عدة للعلاج لم تستطع إلا أن تؤجل شيئاً ما من قدره النهائي. وقبله بأكثر من سنة فقط، كان هو نفسه يبكي رحيل صديقه الكاتب والروائي محمد زفزاف، بل إنه منذ شهور فقط، كتب نصاً تأبينياً لصديقه الذي رحل فجأة في أنفاق الميترو في باريس، الفنان التشكيلي محمد الإدريسي. وكان أن ألح على أن تكون ترجمة نصه إلى الفرنسية على يد متخصص، وحين علم بأني سأتولى ذلك عبّر لي عن ارتياحه وفرحه بالأمر بضحكته المعهودة. ذلك كان آخر لقاء لي به، إذ لم أستطع هذه السنة حضور الاحتفاء التكريمي الذي خصص له في مدينة أصيلة، لسفر طارئ، ولم أجلس إلى طاولته المعتادة لنتجاذب مسارات أحاديث متشذرة، تجرنا إلى علاقاته وذكرياته، ولقاءاته، وذاكرته الحبلى بالتواريخ والآثار والشخصيات والتساؤلات والمرارة... تفقد الساحة الأدبية والثقافية ظاهرتها الأدبية الفريدة الحديثة، التي شكلت منعطفاً حاسما ًفي الكتابة الأدبية وعوالمها في بلادنا، وتودع بأسى قاهر ذلك الذي شكلت نصوصه صدمة للوعي "البورجوازي الصغير" لمثقفينا في نهاية الستينات والسبعينات. ذلك الذي تعرفت إليه مباشرة عندما كنت يافعاً في مدينة فاس، يمتطي منصة القراءة، ويجلس عليها كما أمام المائدة، لا يحمل بين يديه وريقات نصه، ويتلو قصته من هوى الذاكرة كما تتلى قصيدة شعرية، بصوت جهوري أخاذ، وبإيقاع ونبرة لا تزالان عالقتين في الذاكرة. لا يزال يتذكر المثقفون المغاربة والعرب، صدور سيرته الذاتية "الخبز الحافي" في منتصف السبعينيات كما يتذكرون مختلف الأحداث السياسية الحاسمة. ولم يقدَّر للجمهور المغربي والعربي أن يقرأها في نسختها الأصلية إلا الأقلية القليلة من الذين تلقفوها عند نزولها الى الأسواق آنذاك. فقد جمعت من المكتبات أياماً بعد نزولها الى السوق، وبعد أن صدر أمر الرقابة بحجزها، ليعيش هذا النص تجربة مريرة في صلب الثقافة العربية، حيث منع في بلدان عدة، بل وطاول المنع تدريسه منذ سنوات قليلة في جامعة الإسكندرية. ولم يفرج عنه إلا سنوات طويلة بعد ذلك، أي بعد أن بدأ الجو السياسي والثقافي يعرف في المغرب بعض الصفاء. ولأن محمد شكرى لم يتعلم القراءة والكتابة إلا وهو ابن عشرين سنة، ولأن صديقه الكاتب الأميركي بول بولز المقيم في طنجة ظل يعتبره كاتباً شفوياً مثله مثل المرابط والعياشي اللذين نشر لهما بروايتهم الشفوية نصوصاً عدة باللغة الإكجليزية، فقد انتبه هذا الأخير الى الطاقات الإبداعية والتخييلية لهذا الكاتب "الصعلوك" المتفرد، وتعاونا معاً على كتابة صيغة باللغة الإنكليزية انطلقت بالأساس من الرواية الشفوية. وكان أن جاءت بعدها ترجمة الطاهر بن جلون لها إلى الفرنسية سنة 1979، لتمنح هذا الكاتب المتفرد منفتحاً جديداً الى العالمية والاعتراف لم يكن يحلم به آنذاك سابقوه ومجايلوه من الكتاب. وسواء تعلق الأمر بنصوصه القصصية الكثيرة التي جمعها محمد شكري في مجموعات قصصية هي "مجنون الورد"، و"الخيمة"، و"السوق الداخلي"، أو روايات سيرية هي "الخبز الحافي"، و"زمن الأخطاء"، ثم "وجوه"، أو مسرحياته، أو كتاباته الأخرى عن صداقاته مع بول بولز وتنيسي وليامز أو جان، ظل شكري ينسج عوالم خصوصية، تحكي عن هوامش الحياة وليلها وأقبيتها وكائناتها الغريبة الحبلى بالمعنى. وكأنه بذلك كان يسبر أغواره الشخصية ومدارات حياته الليلية ليسلط عليها النور فتغدو في صخب الكتابة عوالم مشروعة تنضح بفوضى الوجود وعتماته المحيرة. فإذا كان ما شاع عن محمد شكري أنه قد طرق موضوعات "محرمة" كالرغبة المثلية والعلاقة اللواطية، وبخاصة في "الخبز الحافي"، فإن ذلك يدخل في لعبة الحكي بما هي استعلان للمخفي والمكبوت والمسكوت عنه. أما الرغبة الروائية الحقيقية للكاتب فظلت على مدار كتاباته بكاملها ترشح بالطهرانية. وكأن استجلاء مكنونات القبح والمجون وعوالم البغايا والسكارى والأزقة الهامشية والشطار لا يستهدف تمجيد هذه العوالم وإنما أولا وقبل كل شيء التعبير عنها ومنحها فرصة الحياة التخييلية بما هي كذلك، لا بهدف تأطيرها أخلاقيا وإنما بقصد الكشف عن منابع صفائها ومشروعيتها الحياتية والروائية. كائنات محمد شكري وفضاءاته ترتبط ارتباطاً صميماً بمعيشه وبمرئيه، وتختلط بهما إلى حد الانصهار حتى ظل شكري طوال حياته يعايش شخصياته الواقعية والمتخيلة معايشة عينية، يمنحها مكانا شاسعا في مخيلته ومتخيله، يحنو عليها باللغة حتى تغدو كيانات نموذجية تغلي بالوجدان والمفارقات. إنها شخصيات يتزاوج في داخلها الجنس العرضي والعنف اللاهب والوقاحة الصلفة والعمق الأخلاقي والصفاء الروحي بل والبراءة الأخاذة. فسواء تعلق الأمر بمفترشي الأزقة أو ببائعات الجنس الرخيص أو بغيرها فقد استطاع شكري أن يمنحها كينونة تذكرنا بشخصيات جان جنيه. وليس من قبيل الصدفة أن يطلق على شكري في وقت ما جان جنيه المغرب. فتجربة الكاتبين تتقارب في مناحي عدة، في اعتبار الهامش قضية كتابة ومصير، وفي اعتبار الممارسة الحياتية جزءاً من الكتابة لا العكس. عاش محمد شكري في مدينة طنجة منذ أن نزح إليها من جبال الريف، وفيها ولد ولادة ثانية بعد أن دخل المدرسة وتخرج معلما وهو قد تجاوز العقد الثاني من عمره. عاش هذه المدينة ببشرتها وجسدها، عاشرها في خلاياها ومسامها، في ذاكرتها وتاريخها حتى غداً جزءاً من فضاءاتها وعلاماتها الناطقة. لا يبرحها إلا لسفرة قصيرة ولا يفارقها إلا لتنقل طارئ. كتب عن وجوهها المنسية وعتماتها وأناسها الذين يملأون فجواتها ببقايا أحلامهم وفتات مصائرهم، حتى غدت كتاباته وشخصيته جزءا لا يتجزأ من تضاريسها وتفاصيلها ذواكراتها المتتالية. بل إلى حد أني أخال المدينة الآن تئن أسى من فراق ذلك الذي احتضنته شاباً يعيش يومه كما كل المهمشين ويصارع ضواري الزمن وتقلباته، يسعى بكل ما أوتي من قوة لأن يتعلم الحروف والعلامات التي تمكنه من ارتياد آفاق جديدة، ثم يجهد في تركيبها ليفصح بها عن الحكايات التي عاشها بجسده في اليومي القاسي. أو هي تحتضن رفاته الآن بحنان أمومي افتقده شكري مبكرا ولم يجده إلا في حضن لغة ليست هي لغته الأم، لغة الآخر القريب الذي مكّنه امتلاكها وتطويعها من استعادة ذاته في أوساط الثقافة والمعرفة. إنها أيضاً المدينة التي صار فيها شكري يخالط أوساط الكتاب والمثقفين الآتين إليها من كل حدب وصوب في مدينة عرفت باجتذابها رحالة وعشاقاً من كل جهات العالم، يحاورهم بإسبانية أتقنها ككل أبناء شمال المغرب، وفرنسية صار يعبر بها تعبيراً خاصاً يلين فيها صرامتها الأكيدة. لمدينة طنجة الآن أن تعلن يُتمها منه، وأن تخزنه في ذاكرتها كعلامة من العلامات الدالة على وجودها الثقافي. لها أن تحافظ على وقع خطواته وكلماته وهمساته في كل زقاق أو ساحة أو مقهى من مقاهيها. فهو أيضا كتبها بحساسية جديدة، و"أرّخ" لمساربها السرية ولحظاتها الهاربة، ورسم معالمها الرَّحمية على جسدها. وفي هذه المدينة أيضا كان يحق لشكري أن يفتخر بأنه النموذج الذي يصعب احتذاؤه في مجال الاحتراف. فهو عاش طوال حياته الإبداعية من مداخيل كتبه. فبما أن كتبه، وخاصة منها الخبز الحافي، ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، فقد وفرت له حقوقها على مدى الأعوام ما مكنه من العيش في الكفاف. بل إن التحقيقات والاستطلاعات القليلة التي تم القيام بها عن القراءة والنشر بالمغرب قد أثبتت أن كتاباته قد وصلت إلى الطبعة الخامسة بل والسادسة، متجاوزة بذلك أكثر الكتب الأدبية مبيعا في المغرب" وأن سحبها يتجاوز معدل سحب الكتب في بلادنا، حتى يصل إلى الخمسة آلاف نسخة، في الوقت الذي لا يتجاوز الكتاب المطبوع في المغرب الألفين أو الثلاثة آلاف نسخة في أفضل الأحوال. لذلك، وحتى يتلافى تماطل الناشرين وعدم شفافيتهم، سهر شكري باستمرار على طبع كتبه وإعادة طبعها على نفقته الخاصة وبيعها بأثمان في متناول الجميع، متقاسما بذلك حياته الأدبية مع عموم القراء في شكل مباشر وبلا وسيط. وكانت كتبه حين تنزل الى الأسواق تصنع حدثها الخاص وتغير مجرى تصورنا للكتابة والمتخيل الأدبي. لقراء محمد شكري ومحبيه وأصدقائه الآن، وكم هم كثر في كل مدينة، أن يستعيدوا جمله الشاعرية المقتضبة، وإيقاع كتابته النافرة وشخوصه الخارجة من أقبية الوجود. لهم أن يستعيدوا صدى كلماته الموهوبة لصداقات حميمة جمعته بمجايليه الذين شكلوا معه حلقة من المدافعين عن أدب جديد محمد برادة، محمد زفزاف، إدريس الخوري... يستمد نسْغه من اليومي المعيش ويصوغ نكهته من ردم الفجوات بين الذات والموضوع، وبين الشفوي والأدبي وبين المتخيل والواقعي. فكم يكفينا من المآقي ومن الدمع كي نبكي رحيلك، السي محمد؟