الكتابة عن محمد شكري احتفال بالحياة بقدر ما هي احتفال بالأدب، وسيبقى تأثيره في الأدب المغربي وبعض الأدب العربي عبر علامتين: تجديده التعبيري بالاستناد الى احساس ولغة ومناخ قاع المجتمع الذي أهمله كتابنا أو لم يستطيعوا رؤيته، وربطه الأدب بالحياة الشخصية بعدما كان الأدب العربي ولا يزال في معظمه مجرد استمرار لسياق لغوي فحسب. حين رأيت كاتب "الخبز الحافي" للمرة الأخيرة لم يكن يستطيع سلاماً باليد، فأصبعه مكسورة نتيجة "مكابشة" مع أحد الفتيان. كيف يا شكري تكابش وقد بلغت الستين؟ هي عادته منذ الفتوة الأولى وكان دائماً يلوي أقوى ذراع، فذراعه وأصبعه هما الأقوى في المدينة، حتى أتى الكسر ليذكر الكاتب بأن السنوات تهدّ الجسد. ابن حياة، محمد شكري، وكتاباته مرآة حياته وحياة مدينته، من هنا ارتباط اسمه بطنجة. هذا الستيني الأنيق الذي يعيش وحيداً أمضى سنوات من الشقاء والمغامرة، مثل الكتّاب الأميركيين الذين توحدت أعمالهم بمغامرة الحياة. وكي لا أستدعي ضجر شكري من الحديث عن أدبه ومدينته كل زائر يوجه اليه الأسئلة نفسها، سألته عن تنظيم طعامه، وكيف يحافظ بذلك على صحة جسد كهل عانى الكثير من شقاء الطفولة والفتوة والشباب. والجواب هو النظام الغذائي اليومي الذي يمارسه: - الصباح: حبوب فيتامين متنوعة وملعقة طحينة وملعقة عسل وبيضة برشت وكوب لبن زبادي مخلوط بالماء وقهوة بالحليب... وسيجارتان. - بعد الظهر: شمندر مطحون، خيار وزعتر وكرنب، ثلاث أوراق من الخس، مع سمك أو لحم... لم يذكر الخبز، ربما يأكل منه قليلاً. - المساء: لا يتناول محمد شكري طعام العشاء، انما... يدخّن سيجارتين. وكاتب مدينة طنجة كانت اصبعه تتعافى من الكسر ليكتب جديده عن الكتب التي أثّرت في تكوينه. انه يستخدم الكومبيوتر منذ فترة، وصار القلم عنده أداة من الماضي. في طنجة محمد شكري رأينا الحاجة الحمداوية، نجمة الغناء في الخمسينات، يتولاها المحسنون، وفي شقاء شيخوختها تستعيد أغنيتها القديمة: "أحرس البحر حتى لا يرحل". وفي المقهى مع محمد شكري. انه واحد من مقاهيه في شارع طنجاوي ضيق يحضن بحارة لفظهم البحر، لا يحرسونه ولا يحرسهم، إذ شاخت المراكب أو صارت متخصصة بتهريب الشبان المهاجرين الى الضفة الأوروبية أو الى قاع البحر. البحارة مثل حطام في مقهى الشارع الضيق، يستمعون الى محمد عبدالوهاب القديم: رسوم من القش على الجدار، مرآة كبيرة إطارها من ثلاثينات، صورة فوتوغرافية لمشهد الغروب البحري، سجادة اسكوتلندية على جدار آخر، رسم ملون لقطة ذات عينين ذهبيتين، لوحة تمثل فرساناً مغاربة، أشياء متنوعة تركها بحارة أتوا من بلدان بعيدة... و"يا نجوم اشهدي إنّي على الذكرى أمين"، يغني عبدالوهاب لبقايا بشر رحلوا، لبشر خارج زمانهم يستمعون اليه على حافة رحيل، وقبل أن تنطوي صفحة زمن كوسموبوليتي لطنجة، المدينة العالمية للكتّاب والفنانين والأفاقين والذين نسيتهم المراكب. المروحة الكبيرة في السقف، أربع سكاكين كبيرة تتحرك، هواء السكاكين ينعشنا، هواء الطعنات يفتح الجراح. نعالج بالكلام تشوهات العمر، ونرتق مساحاته الجميلة لنؤلف منها نسيجاً نقياً. هل ننجح؟ هل من وقت للنجاح؟ عاد حسونة المصباحي الى المانيا وعدت الى بريطانيا ثم الى لبنان، وتحوّل محمد شكري كلمة عزاء هاتفية.