«طنجة : سحر مدينة» فيلم وثائقي جديد للمخرج المصري سعد هنداوي . طنجة لمن يزورها ويعرفها ، مدينة لا يمكن وصفها إلا بالصورة السرية المتوغلة في زواياها العنيدة، كاتمة الأسرار الكبيرة، وحتى حين يستعين هنداوي بمؤرخ أو بمصور للحديث عنها، نجد أن هذه الزوايا تزيد من مكابرتها وعنادها. لا يبدو أنها ستفضح شيئا من هذه الخفايا، ورويدا رويدا، تعطي من يحبها ويهيم بها، بعض ما يسد رمقه، وإن عجز المغامر عن فك أسرارها، فإن كل ما يفعله يبقى في علم الغيب والغائبين. ومنذ البداية هنا يمكن القول ان امام هذا الفيلم، ليس هناك سوى شعور بالحيرة الايجايبة، وبعض الرضى حين تتوغل كاميرا هنداوي في بعض أسرار هذه المدينة « العارية، الرنانة، الشفافة مثل كأس الأسطورة «، وحين يقرر المخرج استعارة الأدب في مديحها من صنوف كتب شتى. يزعم أهل طنجة ان اصل الأسم هو «الطين جاء»، وإن لم يكن هذا أصل التسمية بالفعل، فإن السكان يعشقون اضافة العبارة إلى معجم الأسطورة، ويتغنون بها أمام زائري مدينتهم قائلين انه حين غمر الطوفان الكون، كان على الطائر أن يجيء من العدم ، وفي أسفل قدمه طين علامة على وجود اليابسة ، طوق النجاة والأمن والأمان. طنجة ملجأ أيضا، ليس تهرباً من ضريبة رومانية فرضت اسم «طنجيس» عليها، ولكن لأن الأسطورة تكون مصدر قوة في السرد أيضا. هذا ما أدركه بعض عشاقها، وعاشوا عليه. السرد علامة في جدران هذه المدينة الاستراتيجية، حتى حين توافد عليها كثر، كما تسطر الروايات، فمن قبائل الهاندال المتوحشة، والفينيقيين، وحتى خضوعها لوصاية دولية بين الأعوام 1921 – 1956، ظلت تضع قواعد للسرد ومعاجم لضبط الصورة فيها، وليس ثمة هنا اذاعة لسر، إن عرفنا أنه قد صوّر فيها حوالى أربعمئة فيلم سينمائي، وكل ذلك بسبب قدرتها الاستثنائية على اللعب بمنافذ الضوء، وتبديل زويا الرؤيا دون التسبب بخلل في محور الكون الذي تقوم عليه. عاشت طنجة، كما يقول لنا هنداوي في فيلمه، منذ عهد بعيد، عشق المصورين لها حتى من قبل أن تصنع الكاميرات السينمائية. مصور فوتوغرافي طنجاوي يروي في الفيلم حكاية الرسام الرومانسي الفرنسي يوجين ديلاكروا مع المدينة، وحسب الفنان المغربي محمد الرقراقي كان ديلاكروا قد قصدها عام 1832 بمهمة رسمية من ملك فرنسا متوجها إلى سلطان المغرب. كان ديلاكروا في مهمة جاسوسية بالأحرى، ولما لم تكن هناك آلة تصوير، وكان مطلوباً منه أن يصور ويكتب كل ما يلاحظه، رسم الفنان الفرنسي بشغف وأحس انه بات مأخوذاً من هذه المدينة الملغّزة، فكان انه بدل أن يخدم مصلحة فرنسا وملكها خدم مصلحة طنجة نفسها. وطنجة كانت مصدراً لإلهام كثر قصدوها وعاشوا فيها: الصوفي اليهودي محمد أسد الذي فيها أعلن اسلامه وترجم القرآن إلى الانكليزية في تسع مجلدات، والروائي الموسيقي الأميركي بول بولز الذي عاش فيها مايقرب من ست عقود حتى توفي فيها، وعاش فيها كذلك الروائي المغربي محمد شكري ناهيك بعشرات الفنانين والأدباء الأميركيين والأوروبيين الكبار. ولهذه المدينة - كما يذهب هنداوي في فيلمه - سحر لا يمكن التعبير عنه، ف « طنجة تألف وتؤلف «. غير ان هذا المجد كله لم يمنع مخرج الفيلم من التوقف عند مهاجرين سريين ينتظرون قوارب الموت وقد أداروا ظهورهم للكاميرا بالدرجة الأولى، قبل أن يديروها للمدينة نفسها. فقد تجمع في الشهور الأخيرة في طنجة ما يقرب من 2490 شخصا كانوا يرغبون بمغادرتها إلى شواطئ يحلمون بالوصول غليها هرباً من أوضاع سيئة في بلدانهم، ومعظمهم قصدها من السودان، والصومال، وكلهم أمل وعشم، بأن يستقلوا مثل هذه القوارب، وبعض رحلاتهم أكلافها قوية. وهذا ما وجده هنداوي في أحراش المدينة البحرية الساحرة، لا يتعدى وجوها ممحية تماما، بفعل اليأس الذي يمر به أصحاب هذه الأحلام على الشواطئ الأخرى هرباً من جحيم أوضاع اقتصادية، أو حروب أكلت في طريقها الأخضر واليابس، ولم تترك أمام هؤلاء الهاربين سوى الجلوس على شواطئ مدينة طنجة وادارة ظهورهم للكاميرا، و»التجسس» على قوارب الموت التي لا تتوقف عن رحلاتها باتجاه شواطئ الأمل المفترض . طوال فيلمه لم يتوقف سعد هنداوي عن الاستعانة بنصوص الكاتب المغربي الراحل محمد شكري، وبخاصة من كتابيه «الخبز الحافي» و»الشطار» ما بدا وكأنه يشكل غواية كاملة لفيلمه، وهي نصوص قرأها هو بصوته من باب التأكيد على الحيرة التي انتابته، وهو يقرر ولوج المدينة من أبوابها السرية، فتظل عصية على تسليم نفسها بالكامل. طنجة مدينة للسرد البصري أيضا، فللسينما نفسها شأن آخر في حياة الطنجاويين. شأن مختلف تماماً.