لا تُعرف في تاريخ الدول الحديثة دولة امتدت فيها حرب أهلية مسلحة مثلما هو الحال في السودان، فعلى رغم أن السودان هو أكبر الأقطار العربية والأفريقية مساحة وأغناها بموارد الثروة الطبيعية إلا أنه اليوم وبعد نصف قرن تقريباً من الاستقلال يعتبر من أفقر بلدان الوطن العربي وافريقيا والعالم، وهو اليوم أفقر مما كان عشية وصبيحة الاستقلال العام 1956 وفضلاً عن الحرب الأهلية الدامية والممتدة، فإن السودان ابتُلي بعدة كوارث بعضها من صنع الإنسان وبعضها من صنع الطبيعة، فالصراع في جنوب السودان ظل جرحاً يستنزف دماء وطاقات هذا البلد العربي الأفريقي العزيز علينا جميعاً، واستمر السودان جريحاً ومحاصراً بالمشاكل والأزمات في كل الجهات. إلى حد صار معه السودان مهدداً بالتمزق وبامتداد نطاق العمليات العسكرية إلى مناطق كانت آمنة في الماضي، وصار الضرر لاحقاً بكل مواطن سوداني في أمنه وحياته. واقترن ذلك بمعاناة السودان من تكرار التجارب السياسية المتراوحة بين الديموقراطية والديكتاتورية والعسكرية والثيوقراطية. ودوران ذلك في حلقة مفرغة افقدت السودان الحد الأدنى من الاستقرار السياسي الضروري للخطو نحو توحيد البلاد وتحقيق التنمية. ويتركز الصراع في جنوب السودان في محاور ثلاثة: أولها وحدة السودان أو تقسيمه وثانيها: العلاقة بين الإسلام والدولة، ثم الديموقراطية وهي مشكلة بلغت حدتها في مرحلة معينة من حكم الرئيس عمر البشير الذي بدأ في العام 1989. ولكن الواقع يشهد اتجاهاًَ نحو الحل في السنوات الأخيرة على نحو يمكن أن يبشر بإمكان انتهاء الصراع، وهو بلا شك ما يتمناه الجميع. وبالتوقيع على اتفاق الترتيبات الأمنية والعسكرية بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان في كينيا في 26/9/2003 تتجاوز مفاوضات السلام السودانية أهم العقبات التي اعترضتها حتى الآن وتبدأ إنطلاقة جديدة نحو الحل النهائي بعد الانتهاء من المفاوضات الدائرة حالياً حول القضايا الخلافية المتعلقة بقسمة السلطة والثروة والمناطق المهمشة. وقد تميزت الجولة السابعة "بأن المفاوضات التي دارت فيها هي الأولى التي لم يشهدها المراقبون من شركاء "الإيغاد" كما لم يكن للوسطاء فيها إلا الدور التنسيقي واستغرقت وقتاً طويلاً. وكانت تحتاجه عملية بناء الثقة بين جون قرنق وعلي عثمان طه بالنظر إلى عمق الهواجس والشكوك المتبادلة بين الطرفين. وهنا يفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤل مشروع وهو: هل تنجح اتفاقات الترتيبات الأمنية والعسكرية الموقع عليها الطرفان في طي صفحة الأزمة؟ وهل يمكن أن تكون مقدمة حقيقية لحل القضايا الخلافية الدائر حولها النقاش الآن؟ لقد انطلقت الجولة السابعة بعد فشل الجولة السادسة من المفاوضات التي انعقدت في تموز يوليو الماضي في ناكورد في كينيا. واستمرت جولة نيفاشا 22 يوماً، الأمر الذي أوضح مدى ما واجهته هذه المفاوضات من صعوبات. وبذلت الولاياتالمتحدة جهوداً إضافية لتجنب فشل هذه الجولة إذ أعلنت رغبتها التقدم بمقترحات وتعديلات من شأنها تسهيل عملية الاتفاق، ووصل والتر كانشتايتر مساعد وزير الخارجية الاميركي للشؤون الافريقية للإلتقاء بطرفي النزاع. كما قام وفد من مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في واشنطن بزيارة إلى الخرطوم، وتتبع أهمية هذه الزيارة من أن هذا المركز هو الذي وضع الورقة الأساسية التي استندت إليها السياسة الاميركية الحالية تجاه السودان والتي تتمحور حول مقولة "دولة واحدة ونظامان" والتي تمثل في الحقيقة جوهر بروتوكول مشاكوس الإطاري، وفي الوقت نفسه صدر بعض التصريحات الاميركية التي تنبه إلى حل وأن هذا يحتاج إلى قرارات شجاعة من الطرفين. هذا وقد عينت ملينغتون القائم بالأعمال الاميركي سابقاً في السودان كممثل لها في المفاوضات، واستخدمت الولاياتالمتحدة مزيجاً من الترغيب والترهيب على الطرفين. ففي الوقت الذي أكدت الإدارة الاميركية على ضرورة حل الأزمة السودانية. جاءت تصريحات كولين باول خلال زيارته للمنطقة في 22/10/2003 لتضفي مزيداً من الضغط على المفاوض الحكومي عندما اشترط أن يعلن السودان الحرب على الإرهاب ويدعم الجهود في هذا السبيل. كما اشترط إغلاق مكاتب حركة المقاومة الإسلامية "حماس" ومنظمة "الجهاد" في السودان. غير أن هذه الشروط لا علاقة لها من قريب أو بعيد ب"أجندة المفاوضات" أو القضايا الخلافية العالقة وهي السلطة والثروة والعاصمة الاتحادية. كما إنها مارست أيضاً بعض الضغوط على جون قرنق بالنظر إلى احتياج إدارة الرئيس بوش إلى تحقيق إنجاز في المسألة السودانية يساعدها على التغطية على ما حدث في العراق من فشل، خصوصاً مع اقتراب موعد انطلاق الحملة الانتخابية وحرص الإدارة الحالية على الاستمرار لفترة ولاية ثانية. وهو الأمر الذي يفسد بعض المرونة التي طرأت على موقف الحركة. وثمة إشارة مهمة إلى أن المفاوضات الأمنية اتسمت بارتفاع مستوى التمثيل في وفدي التفاوض خلافاً لكل الجولات السابقة حيث كان كل من النائب الأول لرئيس جمهورية السودان علي عثمان طه وجون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان على رأس وفدي التفاوض. وفيما يتعلق بقضية الترتيبات الأمنية فقد اتفق الطرفان على إعادة نشر قوات الحكومة والحركة الشعبية في الجنوب وأيضاً من مناطق النزاع الأخرى وفي المناطق المهمشة وفي الشرق، وبموجب الاتفاق يقوم الجانبان بإنشاء وحدات مشتركة تضم جنوداً من القوات الحكومية وقوات الجيش الشعبي مناصفة خلال الفترة الانتقالية. ويتعين على الحكومة السودانية سحب قواتها الأخرى من جنوب السودان خلال عامين ونصف العام في حين وافق الجيش الشعبي على سحب قواته من شرق السودان في غضون عام من الفترة الانتقالية، كما اتفق الطرفان على بقاء جيشين منفصلين خلال الفترة الانتقالية وفي حال تأكيد الوحدة على ضوء نتيجة الاستفتاء عقب الفترة الانتقالية سيتم تكوين جيش المستقبل في السودان من القوات المسلحة السودانية والجيش الشعبي. ومن بين ما تم الاتفاق عليه أيضاً اعتبار جيش الحركة الشعبية والجيش الحكومي جيشين وطنيين يتمتعان بمعاملة متساوية مع الإشارة إلى هيكلة أجهزة الدولة والشرطة وربطها بمستويات السلطة التي ستقوم بالإشراف عليها عندما تتم مناقشة قضايا السلطة، والآن تدور في كينيا جولة جديدة من المفاوضات الماراثونية تناقش الترتيبات الخاصة بقسمة السلطة والثروة وكذلك الترتيبات السياسية الخاصة بالمناطق المهمشة. وتبقى الإشارة إلى أن الاتفاق أثار تفاؤلا وحذراً في آن واحد، فأما التفاؤل فلأن السودانيين جميعاً في الشمال والجنوب ارهقتهم الحرب ويأملون في أن يكون هذا الاتفاق والمفاوضات الجارية الآن هي آخر مطاف الأزمة، أما الحذر الذي صاحب التفاؤل في استقبال الاتفاق فمرده إلى هواجس بشأن قوات الحركة في الخرطوم وتخفيض القوات الحكومية في الجنوب وحل الميليشيات وغموض بعض بنود الاتفاق. بالاضافة إلى عوامل عدة أخرى تمثل تحدياً لاتفاق الترتيبات الأمنية والمفاوضات الجارية تتمثل في: 1- أن التوصل الى اتفاق سلام في السودان لا يعني تحقيق السلام إذ سيظل ذلك مرهوناً بالتطبيق الدقيق لما تم الاتفاق عليه وبمدى توافر الثقة على كل المستويات. 2- سيواجه الطرفان عقبات ايديولوجية تتمثل في كيفية إعادة كل منهما لهيكلة مشروعه بحيث يتوافق مع قبول الآخر المختلف عنه عقائدياً وثقافياً وفكرياً وهو تحد كبير أمام الحكومة لتطوير مشروعها الحضاري وكذلك أمام الحركة لتعديل مفهوم السودان الجديد بحيث يتوافق مع الشراكة السياسية بين الطرفين. كما أن الحركة ربما تعاني في تحولها من حركة عسكرية إلى حزب سياسي وكذلك الحكومة في تحولها من الهيمنة على السلطة إلى المشاركة فيها. 3- تحدي إعادة تعمير ما دمرته الحرب والتنمية هو تحدٍ حقيقي في بلد مثل السودان تعطلت فيه جهود التنمية عقوداً كاملة بسبب حرب امتدت قرابة نصف قرن. 4- إن هناك جهات خارجية في مقدمها إسرائيل لا يسرها أن يظل السودان موحداً ولا يخفي هنا دور اليمين المسيحي بالنسبة للسودان الذي بدأ منذ ما يقرب العقدين عبر قنوات اتصال وتعاون لعبت فيه إسرائيل دوراً ملموساً لإشعال الموقف واستخدمت فيه منظمات تبشيرية على رأسها منظمة التضامن المسيحي الدولي. وفي هذا الإطار تم تدريجياً دعم الجنوبيين بالسلاح والأموال بل بالمرتزقة الأوروبيين الذين وجدت جثث بعضهم بعد مناوشات ومعارك لتثبت التواطؤ. وللأسف لم تستخدم حكومة السودان هذا الدليل بالشكل المناسب لتوضيح على الأقل المخطط الذي تعرضت له إزاء هذه التحديات، إذ أخذ موضوع السودان قوة دفع أميركية. ومصر لم تكن بعيدة عن اتجاه الدفع بعملية تسوية الشمال والجنوب، وإذا كان هناك اهتمام وتركيز أميركي على الإسراع بحل المشكلة، وإذا كانت كينيا تمثل قوة الجوار الجنوبي للسودان فمصر تمثل قوة الجوار الشمالي، وإذا كانت المفاوضات تجري تحت مظلة الإيغاد وبمشاركة شركاء الإيغاد وأهمهم بريطانيا وإيطاليا والنروج بالإضافة إلى باقي أعضاء هذه المجموعة الخمس عشرة. والسؤال الذي طرحه العديد من المهتمين والعديد من الأطراف السودانية هو: هل هذه الدول تربطها بالسودان مصالح تمثل الروابط المصيرية التي تجمع قطري وادي النيل؟ الإجابة بالطبع كلا، ومن ثم فإن مصر لها الحق الكامل في المشاركة في المفاوضات مثل باقي شركاء الإيغاد. وقد كانت الفكرة الأساسية حين بدأت عملية السلام الحالية عقب تعيين السيناتور دنفورت مبعوثاً رئاسياً هو التنسيق بين المبادرات، وفعلاً حضر الجنرال سيمبويا الى القاهرة 3 مرات وقدمت مصر رؤيتها التي تتمحور حول بذل الجهود لصيانة وحدة السودان، وعقب النتائج السلبية لجولة ناكورو وما حدث من تباعد في المواقف بين الأطراف ومطالبة حكومة السودان القاهرة بالتدخل تحولت القاهرة إلى محور نشاط مكثف فيما يتعلق بملف المفاوضات السودانية، فقد استقبلت القاهرة كلاً من جون قرنق ووزير الدفاع السوداني وذلك في آب أغسطس الماضي، كذلك قام مسؤولون مصريون بزيارات للسودان في إطار التشاور المستمر حيال أزمة الجنوب، في هذا الإطار ساند الموقف المصري حكومة الخرطوم وساعدها على تجاوز الأزمة من خلال لعب دور كبير في تصحيح الأجواء الاقليمية والدولية المحيطة بالمفاوضات والتي حاولت تصوير الخرطوم بالطرف المتعنت. في النهاية تبقى الإشارة إلى أنه إذا كان للسلام في السودان شروط صعبة ومعقدة لن يتحقق من دونها وأن التوصلَ إلى حلول واقعية للقضايا الخلافية محل النقاش في الجولة الحالية شرطٌ أساسي للوصول إلى سلام نهائي. يبقى القول إن اتفاق الترتيبات الأمنية يمثل نقطة متقدمة للغاية على طريق تحقيق السلام الشامل في السودان إذ أن توقيع هذا الاتفاق وضع المسألة السودانية على طريق الحل التفاوضي وأرجأ إمكان العودة الى القتال. * نائبة في البرلمان المصري سابقاً، استاذة العلوم السياسية في الجامعة الاميركية في القاهرة.