لا أحب الانتظار. يمضّني. فيه بعض شقائي. أصبح آخر بسببه. معه، أُمسي لا أحد. أتبعثر. أفقد نقطة ارتكازي. النقطة المفترضة. ما هو ضروري لأرتبط بالعالم الفائض حولي. سيضطرني الى الانتباه لكل الفراغ المهول. 2 - أعرف انني سأتغير قبل أن يحضر. أعني الانتظار، الذي سيصل بعد قليل، أو بعد ساعة، فينقضّ عليّ دفعة واحدة. أنا فريسته لا يحتاج الي ترصد أو مراودة. فاستسلامي جاهز. وسأسقط، حتماً، بين براثنه، سينهشني بفرض طواعيتي الكاملة. 3 - أحاول ألا أفكر فيه. سأكابر قليلاً، فأستبعده بشبه عناد يائس قبيل أوان حلوله. وإلا.. فالفوات ما سيحدث. سأجلس فيه تتناهشني وساوسي. يفرغ متجوفاً ليصير مكاناً ثم حيواناً، بين فكين عظيمين لأضخم ديناصور في التاريخ. 4 - هراء ان أصطنع غفلة منه، أو شروداً في ما ليس هو. أن أقشّر في خيالي خوخة لم تنضج بعد. أو أنقش عتمة روحي بنجوم ليلة مقمرة. أو أصنع الحياة على مقاس أوهامي. أو أي نجوى من نزوات أحلام اليقظة، عندئذ فقط أؤكد انشدادي اليه بقيد لا فكاك لي منه لأنحني عبداً يخاطبه يا سيدي. 5 - ألمح هذا الانتظار مقبلاً اليّ على غير عجل. يتلألأ تارة في عيني بوارق متموجة، أو يتعنكب في شبكات ذات خيوط متباعدة، تارة أخرى. أسهو عنه بمناورات بصرية وذهنية ألفّقها للتو، في هوس احتياجي. عبثاً، فلشدّ ما أراه عاصفاً يكتسح طريق توقّعي الحذر له، بخطوات تقهقه بسخرية ومقت في وجهي، حين لا ألتفت عساني أراه تبدّى في القدوم. 6 - لا أميل الى التجريد على رغم جاذبيته. أخاف منه علي. كأن يزيد من انطوائيتي. لا أقول كآبتي، لأنني لا أفهم بعد ما هي سعادتي. أكثر من هذا أن أتنكب عن رؤية ما يحتاج الى البصر، الى حذق في النظر، وتشكيل الشيء مثل تكوير قبضة في وجه فظ. هكذا فتعاين مباشرة متشاهدين في إفراط النظر ليختفي ما أنظر في امتلاء اختفائه، بفعل شرط وجود هذا قانونه الظاهر. 7 - فهل له قانون باطن دعاه ليبطئ الخطو في مكان ما؟ حيث يتمدد أو ينفض أطرافه متحللاً، مثلاً، من أي موعد ضربه مع الألوان والسحب، أو لعلها المعابر الخفية المؤدية الى أجمات حبلى؟ أم هو الشرود العالق كندى يتألق تحت انعكاسات الضوء الأولى. هو لا يتبخر، وإنما يتشربه غصن لغصن، فيهبطان معاً الى الجذع، هناك يثويان في سكون الأبدية... وينساني؟ 8 - لا شك يراوغني. كلما راوغ غوى. الغواية هي الضلال عينه. يدرك يقيناً انني أسبقه الى محطته، بالأحرى معطياته. لن يراسل ولن يبرق. طالما انتظاري مضمون وغوايته مفتوحة، على لهفتي. يحدس بحاسة الدم الذي يتضرج في وجهه، من افتتان الناظرين اليه من غير أن يفهم. يتظاهر بسيما اللامبالي فيما الأرض تتلقف مرآه من لهفة العطش. هو ماء لا يُرى، أشمّه، فقط، يتعرّج في خطوط رسمته عبوراً ومضت، بينما، مثل كل العهود، أنا هنا باق هنا. 9 - كأنني أتطلع نحو أفق منعدم. متبالهاً في الممشى المشجّر بأن بصري إنما يتبعثر في الحلقة المحدودة التي تقف فيها قدماي. مشهد مثل لعبة أقذف فيها كرة متوهمة نحو هدف غير محدد، لم يوجد، وأعود أتلصص نحوه متأهباً لتلقي تلك الضربة المقذوفة التي ستأخذ الوقت كله، في اتساع المكان، والزمان، لئلا تأتي. غير متأفف. فأنا منها، بحكم شساعة انتظاري. 10 - لم أكن البتة في حاجة الى النظر الى الساعة، للتأكد من تاريخ اليوم والشهر والسنة، مثل أي صرّاف يريد أن يضبط عملية بنكية. وعلى رغم اننا محكومان بالزمن الطبيعي، وبدورة الفصول، فلكلينا لوثة تتلف عقارب الساعة، ونعود الى الوقت، فقط، حين تتشاهد مسامنا، أي ندخل في بعضنا منها، وهي مفتوحة تنصت بالنبض تحتها الى الخارج لتعرف متى ينبغي أن نستشف الفصل المقبل أنتظر. 11 - ربما هو عته اضافي، أتوسوس به كاحتياطي، خشية نفاد العته الدائم. ربما كنت، أيضاً، بغية الانتصار على انكماش العمر أفتعل بعض أشرطة الهلوسة، كسجين يحاول هزم زنزانته باختلاق الصور. لكنني متأكد من واقعي. من وصولي في وقت محدد. مكاني هنا في الدائرة السابعة بباريس واسمه Champ de mars حقل مارس، وبالضبط في الممر الأيسر منه، من حيث كان يعبر الخيالة سابقاً، واقفٌ أنا. 12 - هو وقت محدد، وأنا واقف لا أحلم ، وعندي ألف دليل على يقظتي، الا "مورغان"، التي تراني في حال تأهب ولا تصدق، متأففة، ومقطبة باستغراب. لا تتكلم ولسان استغرابها يقول ألن تكف عن هذا؟! أتظن ما تفعله سلوكَ عقّالٍ؟! وأنا ماذا سأقول للناس، للجيران خاصة، وقد باتوا يدركون، يرونك تدقّ وتدك كل صباح هناك وتدور في الرقعة ذاتها كالأبله؟! ثم ان الموضوع لا يستأهل أن يصلح للغيرة. ثق لن أغار أبداً، وإلا فهو الجنون، أم مجنون أنا؟! 13 - لم أحفل بهذا العتاب، فمورغان تحبني، أو تعزني، لست أدري، وهي قبلتني منذ اليوم الأول على علاتي. ولذا نظرت من أعلى كتفها الى السماء، وهي تسد بنصف جسمها باب الشرفة، فظننت بسبب الستارة انني أرى جزءاً أعلى منها أزرق مضيئاً، والجزء الأسفل تكسوه سحابة رمادية. هنا تدخلت هي لتقول، بعد أن رأت في عيني ما رأيت: "والآن، تتأكد بنفسك ان الوقت فات ولن تطول شيئاً أم ان كلامي هراء؟!" كلا، أبداً سأقول. 14 - في ممشى الخيالة، كنت متكئاً على الشجرة التي قررت مصلحة البستنة البلدية استئصالها لمرضها وخطورتها. قدرت ان مورغان ربما تفكر في شيء من هذا بالنسبة، الي، بينما نظري لا ينقطع الى الأشجار الأخرى في الاتجاه نفسه، تبدو لي عجفاء، وأغصانها نحيلة، كأجنحة عصافير غير مرئية، وأوراقها كثّة في الأعلى، ضئيلة في الأسفل، بلون لا أعلم من أي فصل جلبته - لو كنت تنظر لما احتجت الى الذهاب اليها، قالت. 15 - ثم بدأت أشم الهواء بعد أن تعذّر علي فهم الألوان. ألوان الساعة، واليوم، والشهر. جمعت يديّ في شكل مغرفة، ودسست أنفي داخلها وفمي أيضاً، فصرت أشمّ وأعبّ، فلا أستنشق ولا أرتوي، الى أن فرغ الهواء بين راحتيّ وحولي، وبدت السماء عالية جداً، ذات لون رصاصي، تقطر منها الخيوط كأسلاك معدنية، هي نفسها ترتسم خطوط عرق يتقاطر غزيراً من أناس عراة يمرون بالقرب مني، وهم يرشقونني بنظرات بلهاء، أنا! 16 - لأطرد اليأس تذكرت ان اللقاء يتم بيننا، عادة، عندما يلتهب خدّ الأوراق حمرة قانية، طبعاً، أو خجلاً من شدة مرآي لها، ثم تنفلت غُنجاً من الغصن. لا تسقط، وإنما تتمايل برشاقة في مجرى هواء يميس بها الى أن ترقد على الأرض كما لو على أريكة، وهي تسدل دون عريها ستارة زعفرانية، ونحن ننتظر، ننظر الى بعضنا عندئذ في لحظة موحودة، لا ثانية قبل أو بعد. ثم عدت أتذكّر أن الفصل - هل أعني الخريف؟ - تأخر العام الماضي أيضاً. وها أنذا لا أستحضر إلا الذكرى، أستحضرني أنا. 17 - جذبتني مورغان الى أحضانها، وأنا أنهنه مثل طفل في وجهها: "خبريني"، فقط، أنت العاقلة، هل تأخر... أم مضى نهائياً؟". تساءلت بخبث: "من تقصد، هل تعني أنت أم حبّنا؟". لم أجد جواباً، وأغمضت عيني، وأنا أحس بخشخشة أوراق "حقل مارس"، بألوانها الزعفرانية ترقد فوق أجفاني. * كاتب مغربي.