قبل ستة شهور، أدت موجة الإرهاب في عقر الدار العربية إلى شبه إقرار شعبي بخطأ "تبرير" الإرهاب عملياً من خلال "تفسير" خلفيته بربطه مع قضايا العرب والمواقف الأميركية منها. هذا الإقرار بقي عابراً وناقصاً لأن الرأي العام العربي لم يحسم موقفه بوضوح كامل من تنظيم "القاعدة" وأمثاله ليرفض "ثقافة التدمير" قطعاً، بل بقي الدعم السري في قرارة النفس لرمز أسامة بن لادن كفشة خلق "انتقامية" من السياسات الأميركية. قبل ستة شهور، بدا أن الحكومات العربية استدركت أن القضاء على ظاهرة الإرهاب يتطلب قراراً استراتيجياً ينطوي على اصلاح العلاقة مع الشعوب وعلى اصلاحات نوعية للحكم والمجتمع. كان هذا ما بدا ظاهرياً، إذ أن نمط "تقطير" الإصلاحات والاجراءات غلب على عقلية القيادات، إضافة إلى رهان بعضها على تورط أميركي في العراق يعفيها من المحاسبة ومن التغيير الضروري. هذا الأسبوع، عاد الإرهاب إلى السعودية ليفتك خصوصاً بمقيمين من العرب، وعادت الفورة العاطفية ضده على الصعيد الشعبي ومعها إدانات الحكومات وتعهداتها. لكن ارتباك الفكر والنظرة واللغة والقرار يتربع على ردود الفعل بتجاهل أو بتجنب المواجهة الواقعية للعلاقة العربية مع الإرهاب. وقد حان زمنها. يوجد التقاء بين الاصولية الإسلامية المتطرفة والاصولية اليهودية المتعصبة والاصولية المسيحية المهووسة في هذه الحقبة من التاريخ، وهو مثير للتساؤلات والغرابة. إنها اصولية بحاجة إلى اصولية مناهضة لتبرير اصوليتها. هذه التيارات تلتقي حيث تقول إنها تفترق، وهي تتوافق حيث تزعم أنها تختلف. تلتقي في البغض والكراهية ومنطق تدمير بيئة الآخر، وليس تدمير الآخر الاصولي فقط. وتتوافق على ثقافة الانتقام ليس فقط من الآخر، وإنما ممن صدف أنه مستهدف من أطراف الاصولية الدينية المختلفة. السعودية، شأنها شأن مصر وسورية والدول الخليجية وكل الدول في المشرق والمغرب العربي، تحتاج بالتأكيد إلى استيعاب تحديات تطوير المجتمع واتخاذ قرار المغامرة باجراءات اصلاحية واضحة وسريعة وجريئة تأخذ الناس شريكاً حقيقياً لتكسب ثقتهم. تحتاج إلى الاعتراف بنتاج استثمارات الماضي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ودينياً، كي تتمكن من النظرة الواقعية إلى ما يتطلبه الحاضر. وهو يتطلب فك الارتباط مع الاصولية المتطرفة التي صورت سابقاً بأنها في المصلحة الوطنية. ويتطلب أيضاً كشف الشراكة الأميركية - السعودية - الباكستانية في صنع الاصولية ودفعها الى أفغانستان بهدف اسقاط الشيوعية. كما يتطلب الإقرار بأن الركون إلى الاصولية الدينية واعتماد تصديرها إلى الخارج والتحالف معها في الداخل وصل مرحلة الحسم. فإما أن تبقى الاصولية واما أن تبقى المملكة العربية السعودية. العبء ليس على الحكومة وحدها، وإنما هو أيضاً على القاعدة الشعبية. قد تكون في حال إحباط من الوضع الراهن، واستياء مما تعتبره "غدراً" أميركياً وارهاقاً في وضع اقتصادي وسياسي واجتماعي سيئ، وخيبة أمل بالوعود، وحاجة إلى ديموقراطية واقعية تعطيها حق الاختيار. لكن هذا لا يجعل خيار التطرف المتمثل في أصحاب عقيدة التدمير خياراً صالحاً للقاعدة الشعبية أو لمستقبل السعودية. إنه الخيار الأسوأ، والسبب بسيط، فليس لدى ذوي عقيدة التدمير برنامج سياسي غير التدمير ليكون أرضية لحكم التطرف الاصولي الديني. أما إذا وجدت القاعدة الشعبية السعودية في الإدارة الأميركية الحالية مصب كرهها واحتجاجها على السياسة والغدر، فإن لجوءها إلى "القاعدة البن لادنية" كوسيلة للتعبير ليس سوى انتحار وطني. فالانتقام أو الاحتجاج عبر قنوات الإرهاب تعبير عن العجز الفائق. والعجز كما الانتقام ليس نواة صحية للتغيير. طرفا المعادلة الشعبية والحكومية في خطر عظيم. كلاهما مستهدف اصولياً بالانتقام وفي أجندة سياسية رهيبة. وإذا كان من لحظة في تاريخ المملكة تستحق التلاقي النوعي بين الحكم والناس من أجل الوطن، فإنها اللحظة المصيرية اليوم. فليس مهماً ما في حوزة المحافظين الجدد المتطرفين داخل الإدارة الأميركية، وليس مهماً ما في بال تنظيم "القاعدة" من برنامج سياسي انتقامي، المهم هو العلاقة بين القاعدة الشعبية وبين الحكومة السعودية، فهي الخلاص الوحيد للإنقاذ من ورطة التطرف والتدمير. هذه العلاقة لا تتحمل الانتظار الطويل. إنها ملحة ومصيرية وغير قابلة للتأجيل. هذا ينطبق على كل الدول العربية وليس فقط على تلك المستهدفة فوراً في الحسابات الأميركية أو الإسرائيلية أو الاصولية الإسلامية. الحكومات في خطأ فادح إذا افترضت أن المعالجة الأمنية التقليدية ستحل المشكلة، أو إذا ظنت ان القاعدة الشعبية ستتحمل اختباءها وراء الأمن ووراء التجاوزات الأميركية للحقوق المدنية كمبرر لاستمرارها في التجاوزات. فالحس الشعبي العربي فقد صبره وثقته بالوعود الحكومية، وبات في حال سأم يجعل الانتحار مرغوباً. جيل الشباب في المنطقة العربية، ونسبته تقارب 40 في المئة من السكان، يقع في فخ اما الاحباط أو القمع أو الانتظار أو الانزواء في نرجسية منسلخة عن قضايا بيئته. فبعضه توجه الى التطرف الديني كوسيلة للاحتجاج واثبات الشخصية والهوية وبعضه الآخر ذهب الى المخدرات هرباً من واقع البؤس والاحباط أو تعبيراً عن اختياره المتعة الذاتية فوق كل اعتبار. بعضه انسلخ عن بيئته وقضاياه مركزاً على "أنا" لترويجها على حساب أي شيء آخر، بمعزل عن القيم وبناء على الفساد. وهناك من حول غضبه من تحطيم الحكومات لشخصيته الى نزعة استسلامية في انتظار التغيير الآتي من الخارج بحروب أو بهيمنة أو بانفجارات. لكن معظم هذا الجيل يريد الخروج من الوضع الراهن وهو مستعد له. ما يعوقه يعود الى عدة اسباب، منها ما يتعلق بالخوف من بطش الحكومات، ومنها ما له علاقة بافتقاد الثقة تماماً في أي عمل حزبي أو مدني للتأثير في القيادات الحكومية، ومنها ما يتعلق بشكوكه في الولاياتالمتحدة وفي غاياتها من التغيير في المنطقة العربية. سواء كان هذا الجيل في ضياع، أو في بحث جدي عن هوية، فإن الحكومات العربية ساهمت وتساهم في محنته وهي المسؤولة عن عدم تقنين كوادره وفاعلياته للمصلحة الوطنية. وهي المسؤولة عن حاجة الشباب الى الهرب من المنطقة العربية واعتباره الهجرة أشد رغباته واكبر طموحاته. لقد وضعت الحكومات هذا الجيل في سجن القمع والاحباط ظناً منها ان احتواءه في مصلحة بقاء الأنظمة، فتحول السجين الى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار. تخشى المديرة التنفيذية في صندوق الأممالمتحدة للسكان، الدكتورة ثريا عبيد، ان يكون فات الأوان ما لم يحدث تغيير سريع وبرمجة ضمن استراتيجية تدريجية و"خوفي من مرحلة انفجارات داخلية". بل انها ترى ان نواة الانفجار الداخلي بدأت "واذا حدث الانفجار من دون قيادة وتوجيه، يكون هناك تخريب". فلا بوادر قيادة جديدة في المنطقة العربية الآن "سوى قيادات التطرف"، تقول عبيد، و"على رغم ظواهر النضج السياسي لدى الشباب، فإن هذه الفئة لا تمتلك الوعي بسبب نوعية العلم والمعرفة التي حصلت عليها". وتضيف: "يفترض ان تعي الحكومات ان المنطقة في مرحلة حرجة وخطرة. فإذا أرادت ان تبقى، لا خيار امامها سوى فتح الباب امام المؤسسات وأمام الشباب ليشعر هذا الجيل بحقه في المساءلة وفي إرساء الديموقراطية والمشاركة في المجتمع. وإلا فلا مجال سوى الانفجار". في الدول النامية تبلغ حالياً نسبة الشباب دون سن ال24 ما بين 50 و60 في المئة من السكان، وهذا اكبر جيل شباب وجد في تاريخ البشرية. ما يعرف ب"نمور آسيا"، اشارة الى الدول الآسيوية التي توصلت الى الاستقرار السياسي والاقتصادي، يعود الى الاستثمار في فئة الشباب عبر التعليم والخدمات الصحية للمراهقين والتركيز بصورة خاصة على تعليم البنات مما أدى الى القفزة النوعية في الأداء الاقتصادي والى ما يعرف ب"نافذة الفرصة". حسب عبيد "هذا يحدث مرة واحدة في تاريخ الأمة ويتمثل في استثمار قوي في الشباب يؤدي الى الطفرة الاقتصادية. وهذا لا يحدث في الدول العربية الآن. فلا استثمار في التعليم أو الصحة بما فيها الصحة الانجابية بالمستوى المطلوب... والمنطقة العربية تعاني أزمة البطالة حيث يتزايد عدد العاطلين عن العمل... ومحتوى التعليم غير صالح للاقتصاد الجديد... والخدمات الصحية لا تهتم بالشباب وتوجيههم... لا قنوات امام الشباب للمساءلة... ازدواج القيم السياسية والدولية وداخل الأسرة يؤدي الى انحسار الحوار مع الشباب... المرأة تستورد كسلعة جنسية... وهناك تستر بل واخفاء لمشكلة المخدرات والايدز بدلاً من التوعية والمعالجة... والعمالة المستوردة تأتي معها ثقافات العنف وتأثير المربيات على الطفل الخليجي، مثلاً، في ضياع عام من اللغة الى الثقافة". وبالتالي، وفي نهاية المطاف فإن القضية "قضية أمنية"، وعليه تقول عبيد، "يجب ان نتنبه الى الشباب أولاً، والشباب ثانياً، والشباب ثالثاً". هذا الشباب هو الذي يقوم بالارهاب، وهو الذي عانى التجاهل المرير، وهو الذي يترفع عن المشاركة ويرغب فقط في تسويق نفسه، وهو المرفوض عالمياً عندما يحاول الهرب والهجرة، وهو الذي يتخبط في البحث عن هوية تارة بما يثلج القلوب وتارة بما يثقل الاحباط. ثمة مشكلة جذرية عويصة في هذا العالم العربي المتخبط في التناقضات. أولى حلقات الخروج من هذا التخبط حلقة تعريف العلاقة مع الارهاب بجرأة والاعتراف بالاعجاب السري به بحجة هنا وتبرير هناك. فطالما يقبع الموقف العربي العام من الارهاب في ظل شكوكه بالحرب الاميركية على الارهاب أو في ظل ممارسة الارهاب من ناحية الحكومة الاسرائيلية، ستهدر المنطقة العربية فرصة اخذ مصيرها بأيديها لأنها ستبقى رهينة وساحة لصراع ارهاب التطرف الأصولي الديني الاسلامي منه واليهودي والمسيحي. التردد مؤذ في هذا المنعطف، والوضع لا يتحمل فورة عاطفية عابرة أو معالجة أمنية تتجاهل المطلوب في الصلب من الحكومات. على المنطقة العربية ان تحسم موقفها بوضوح وعلنية بحجب تام لأي تبرير أو تفسير أو تعاطف مع شبكة "القاعدة" وأمثالها. فهي لا تقدم الخيار البديل، بل انها تخدم طموحات وأجندة تطرف الأصولية الدينية في اسرائيل واميركا. وعلى الحكومات العربية ان تهرول الى استعادة ثقة الشعوب العربية وأخذها حليفاً لها، وهذا يستلزم احترام الشعوب وحقوقها كما يتطلب الاقدام على اصلاحات جذرية لانتشال المنطقة العربية من العد العكسي للانفجار.