إذا كان للعالم ان ينتصر على القوى التي أنزلت عليه الرعب ونسفت فيه الطمأنينة، فلا بد له أولاً من الاعتراف بهشاشته وبما حل به، والجرأة في البحث في "لماذا". ثانياً عليه الجرأة في استدراك ما حدث، بغض النظر ان بدا ذلك "مكافأة" للارهاب أو افرازاً له. وهذا لا يعني ان على اميركا وحدها تعريف هويتها الجديدة، بصفتها الدولة العظمى الوحيدة في مطلع القرن الواحد والعشرين، بمقاومة شديدة لنزعتها القومية - العسكرية وبحرص عميق على تفادي غرور الانعزالية. هذا يعني ايضاً ان المنطقة العربية والبقعة الاسلامية الواسعة في حاجة ماسة الى وقف التظاهر بأن كل مشاكلها مستوردة، والبدء الفوري بصياغة علاقات محلية جديدة نوعياً على صعيد العلاقة بين الشعوب والحكومات. انه نداء الحكمة في وجه الغضب في أعقاب الذهول. فالمعركة الحاسمة في حرب الارهاب تكمن في الجرأة على مراجعة صادقة للسياسات التي سمحت اساساً بوجوده، وهي ليست اميركية حصراً أو صرفة. وعلى اميركا ان تدقق بصدق في: كيف صنعت اعداءها وكيف ساهمت في صنع الأصولية وتمكينها. كما على العالم العربي والاسلامي ان يدقق في مساهماته في ذلك وان يصيغ هوية في هذا الضياع. البقعة الجغرافية الأخطر اليوم هي افغانستانوباكستان. الأولى لأنها تحوي قنبلة بشرية مدمرة، والثانية لأنها قد تكون رهينة الأولى وفيها قنبلة ذرية لربما تحوّل هذه الحرب الى جحيم ودمار. وهذا تماماً ما قد يكون في ذهن الذين قاموا بعمليات الطائرات الانتحارية في نيويوركوواشنطن ضمن رؤية "كشف القناع" بتدمير الهياكل القائمة حتى بوسائل القتل الجماعي من أجل تحقيق أهداف "أسمى". فالمنطقة الرمادية مجهولة في عقول هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم ربان سفينة القضايا العادلة، وهم على قناعة كاملة بأن هذا هو الحق والصحيح وانهم "الخير" في معادلة "الخير والشر" التي تخطئ اميركا في اشهارها. الحاجة ماسة الى الوعي والتعقل لئلا يبحّر العالم في الجهل والغضب. وقد يكون في انقاض عمليات الطائرات الانتحارية ناقوس ايقاظ الى ضرورة مراجعة النفس والسياسات، اميركياً وعربياً واسلامياً ويهودياً. فاليقظة هي ما تتطلبه السياسة البناءة اليوم، كما تطلبته بالأمس، وقد تعتبر حالة فرضتها العمليات الارهابية، ولذلك تلاقي المقاومة من الأطراف التي ترى في "مكافأة" الارهاب تشجيعاً له. لكن في الإمكان اعتبارها سيفاً يُشهر في وجه الارهاب لأن أحد أهدافه هو دب الرعب لتنحسر الجرأة على التفكير البناء في الاتجاه الصحيح. حتى وان لم يكن الأمر هذا أو ذاك، فإن المصالح الوطنية والاقليمية والدولية تستدعي عدم التوقف عند الخوف من صياغة سياسات حتى وان كان يمكن تصويرها على انها افراز للعمليات الارهابية. فالتدقيق في "لماذا" و"الى أين" و"كيف"، لا غنى عنه في عالم ما بعد 11 ايلول سبتمبر. الآن، وبعد الإدانة القاطعة، بلا ربط أو مبررات للعمليات الارهابية التي ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء، وبعد الألم والتعاطف الذي اندلق على الولاياتالمتحدة، الآن وقت جرد الخيارات والعودة الى الماضي لنبش الاخطاء. ينطلق أول تحدٍ تواجهه الولاياتالمتحدة من تجارب الاستغناء عن "الشركاء" في تاريخ علاقاتها مع الآخرين فهي اقنعت المجاهدين الافغان أثناء الحرب على الشيوعية والاتحاد السوفياتي بأن تلك كانت علاقة شراكة متينة بأهداف استراتيجية مشتركة وبمستقبل. وهي اقنعت الرئيس العراقي صدام حسين اثناء حربه مع ايران بأنه الشريك الذي لا غنى عنه ولا بديل منه في كبح جماح الثورة الايرانية وان مكانته فريدة لدى الولاياتالمتحدة. بعد هزيمة الشيوعية، فرطت "الشراكة" ولملمت اميركا نفسها الى الانتصار واستغنت عن "الشريك" بازدراء. ونتيجة اساءة الرئيس العراقي مفهوم شراكته مع الولاياتالمتحدة، اثارته جذرياً اهانة الاستغناء عنه، ولذلك فإن الكراهية والحقد على اميركا عنده ليسا فقط نتيجة الحرب والسياسات وانما نتيجة الاستغناء عنه. والأمر مضاعف لدى خريجي التدريب ومدرسة الفكر الاميركي في افغانستان الذين أشبعتهم وكالة الاستخبارات المركزية عسكرية الجهاد المسلح بتدريب متفوق، فهم في حقد على استغناء اميركا وشركائها الآخرين من دول عربية واسلامية عنهم. وهم في حرب على اميركا، هوية وسياسة وقيماً ووجوداً. ثم هناك عنصر التنبه الى الديناميكية الداخلية في الدول المرشحة للشراكة في التحالف الدولي. بعض الحكومات قادر على اجراءات وما عليه سوى الجرأة على الاقدام، والبعض يخاطر بالسقوط، وهناك البعض الذي يُخشى على الجميع اذا فشل وهو في صدد التعاون والشراكة، وأبرز هذا البعض هو باكستان. فهي عاشت سنواتها في حكم عسكري وبكثير من الاستبداد، وساهمت جذرياً في تكوين "الغول" طالبان في جارتها افغانستان، وهي تمتلك القنبلة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل. وهناك خطر حقيقي بأن تكون قوى الغضب والتطرف المنطلقة من افغانستان قد اخترقت المؤسسة العسكرية في باكستان. والخطر يتزايد اذا ما ارتكبت اخطاء فادحة اثناء الرد الاميركي العسكري المرتقب في مواقع داخل افغانستان الموجه لاصطياد اسامة بن لادن. ففي المعادلة سلاح نووي ليس ما يضمن بقاءه بعيداً عن أيدي التطرف، اذا ارتكبت الاخطاء. نظرياً، تبقى أفضل معالجة لحرب الارهاب عبر الدول التي تستضيف أقطابه بالعمل الدؤوب وبصبر طويل النفس لشد الخناق من اجل استئصال الارهاب وذلك باجراءات استخبارية ومالية وأمنية. هذه الرغبة ليست متوافرة عند دول مثل افغانستان حيث نصبت طالبان نفسها حكومة بالقوة. ولا يوجد مؤشر الى استعداد طالبان لتسليم ابن لادن الى العدالة الاميركية. بل انها هددت بالانتقام من الذين يتعاونون مع الولاياتالمتحدة اذا نفذت العمليات العسكرية في حال انتهاء المحاولة الديبلوماسية التي تقوم بها باكستان بالفشل. كثيرون يتوقعون من الولاياتالمتحدة ان ترد عسكرياً على العمليات ضد البنتاغون ومركز التجارة العالمية في نيويورك قريباً. وآخرون يشددون على ضرورة التأكد التام من هوية مرتكبي العمليات الارهابية، والحرص الكامل على عدم فشل العمليات العسكرية، والتجنب الدقيق لتوجه ضربة لأهداف لا علاقة لها، واخذ الاحتياطات لرد انتقامي. وحتى في اطار الخيارات العسكرية الآنية فليس خوف اميركا من عدم امتلاكها الامكانات وانما نتيجة زئبقية الهدف وامتداد "القاعدة" في اخطبوط داخل افغانستان وخارجها، بما يضاعف الإهانة لها اذا فشلت في إصابة الهدف. ولأن خلايا "القاعدة" في اكثر من دولة، عربية والاسلامية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف ستكرر الولاياتالمتحدة عمليات "الكوماندوس" المرتقبة اذا توفرت لديها معلومات عن وجود هذه الخلايا في دولة غير افغانستان؟ فإذا فعلت من دون موافقة مسبقة وتنسيق سيؤدي الأمر الى حرب اميركية عبر هذه الدول. واذا فعلت بالتنسيق المسبق والعمل الجماعي فإن بناء العلاقات الثنائية للولايات المتحدة مع الدول العربية والاسلامية سيتخذ بعداً نوعياً جديداً. ولذلك يتطلب صياغة جديدة للسياسات الاميركية والعربية والاسلامية على السواء. تكمن أولى حلقات التغيير الضروري في السياسات الاميركية نحو المنطقة في إبداء عزمها على حل النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي والعربي - الاسرائيلي كعنصر رئيسي في الحرب على الارهاب من أجل سحب ذرائع المتطرفين، ومن أجل خلق بيئة أقل عداء للولايات المتحدة. وفي امكان الإدارة الاميركية ان تستعيد دورها في البحث عن حل من منطلق المصلحة الوطنية الاميركية وما تقتضيه. هكذا فعلت ادارة جورج بوش الأب مطلع التسعينات عندما فرضت عقد مؤتمر مدريد للسلام. وهكذا يجب ان تفعل ادارة جورج دبليو بوش، ان بمؤتمر سلام ثان أو بأي صورة اخرى. نقل الإعلام الاميركي القليل من تساؤل شطر في القاعدة الشعبية الاميركية عما اذا كان تطرف الحكومة الاسرائيلية واجراءاتها القمعية للفلسطينيين ورفضها حدود 4 حزيران 1967 كأساس لحل سلمي هو الذي ورطّ الولاياتالمتحدة في حرب الارهاب بسبب تحالف الاثنين. والرأي العام الاميركي هذه الأيام متحد في ضرورة معاقبة من ألحق به الإهانة والكارثة، لكنه ايضاً قابل للاستقطاب. وحسناً فعلت القيادة الفلسطينية بتجاوبها مع واشنطن والاتحاد الأوروبي عندما بادرت الى وقف النار الانفرادي، وابدت استعدادها لعقد اللقاء السياسي بين الرئيس ياسر عرفات ووزير الخارجية شمعون بيريز تلبية لطلب الرئيس الاميركي. اذ بدت اكثر انسانية وحكمة سياسية من رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون الذي عارض اللقاء، وتدخل في شؤون اميركا لجهة من له صلاحية الالتحاق بالتحالف الدولي معارضاً ان تكون سورية ضمنها. فلاقى الغضب والامتعاض بإجراءات وتصريحات عندما رحبت الادارة بتعاون سورية والتحالف، وأوضحت ان اسرائيل لن تكون طرفاً في العمليات العسكرية، على رغم امكان اشتراك دول اخرى فيها، كما قال وزير الخارجية كولن باول. ولأن الرأي العام الاميركي قابل للاستقطاب في هذا المنعطف، فليس كافياً اقناعه بأسس الحل العادل للنزاع العربي - الاسرائيلي، اذا اقتنع. فهناك جانب آخر مهم في المعادلة وهو العداء والكراهية لأميركا ليس فقط من معسكر التطرف وانما ايضاً من القاعدة الشعبية في الدول الصديقة للولايات المتحدة. إذا كانت هناك فسحة لصيغة سياسات جديدة وعلاقات جديدة، فعلى الدول العربية والاسلامية ان تدقق ايضاً في ما جعل شعوبها غاضبة عليها وليس فقط على اميركا. عليها كسر طوق اخضاع الشعوب للبؤس والسلطوية والسماح للمجتمع المدني ببناء نفسه بمؤسساتية. عليها الالتفات الى الفقر والأمية والحقوق الاساسية والكف عن ترجيح الكفة الأمنية باستبداد وبما يمكّن التطرف من سد الفراغ الذي تتركه الأكثرية شبه الصامتة والممنوعة عن العمل السياسي البناء. عليها ان تعالج هذه الصفحة بوقف تصدير اللوم واختراع الأسباب التي جعلت هذه البقعة من العالم تنتج هذا القدر من البؤس وهذا المدى من الاقتناع بجدوى الخراب والدمار بلا تمييز... وبقنابل انسانية.