المكان لا يشبه أي مكان آخر. "هذه أرض مبروكة" يقول الأسطه حسن بتأثر واضح. قرقرة النرجيلة تستمر حتى الصباح ومعها أكواب الشاي والكركديه والزهورات والمشروبات الباردة وأطباق السحور. خان الخليلي لا تخطئه العيون في حي الحسين المشهور. نقطة حياة تموج ويغرق فيها بحر الحياة في القاهرة. رمضان يضفي عليه نكهة خاصة مشبّعة بروح حنان وإيمان يكاد المرء يتلمسها لمس اليد في كل مكان. وسط الدروب الضيّقة التي تحيطها الأضواء الصفراء الباهتة بأطيافها المبهمة تحاول السيارات شق دربها ببطء. الباعة يتصيدون عين السائح ليدعوه إلى داخل محلاتهم. بسطات "العيش" الساخن تفترش جوانب الطريق. عالم غريب من الأعشاب المجففة والحبوب والمشغولات الفنية والمصوغات الجميلة النحاسية والذهبية والفضية الأشكال يصافح الأعين أينما التفتت في الحي الذي يعتبر أشهر موقع في مصر ويجرّ بنشاط عمره البالغ 618 عاماً، مذ أقام الأمير شركس الخليلي خاناً فخماً للتجار الأثرياء. المنظر يجبر المارة على التوقف. باعة القطايف والمأكولات والحلويات الرمضانية المميزة يفردون مأكولاتهم للراغبين: هناك الكشك والمحاشي بأنواعه، والطواجن والطيور والكفته والكنافة والخشاف الذي يتقن المصريون صنعه من التين والتمر والزبيب، والمشروبات من تمر هندي وعرق السوس والكركديه. طابع الحي خاص، موغل في الخصوصية. المارة يتدفقون من دون توقف على مدى ساعات النهار والليل. رائحة شواء عرانيس الذرة وتحميص الفستق السوداني وتوابل الحمص المسلوق تعبق في الأزقة الضيّقة للحي الذي يختصر في حناياه عراقة مصر ووجدانها. موائد الرحمن جزء من هذا التراث الذي يلف خان الخليلي. الأسطه حسن يقول: "هذا شهر الكرم. جميع التجار المقتدرين في الحي يقيمون موائد الرحمن في هذا الشهر. وهم يأتون بالأكل أحياناً جاهزاً من أفخم الفنادق ويفرشونه للقاصدين". يضيف: "أعرف تاجراً يرسل الأكل جاهزاً بسخاء إلى عشرة وجهات بينها نزلاء مستشفيين ومأوى للعجزة ومركز للشرطة". المعلم مصطفى خضر العطار يقف في شارع المعز لدين الله بجبته التقليدية ومسبحته وعمامته عند باب محلاته التي تحمل اسم "أكاديمية خضر العطار". هو واحد من 50 عطّاراً يعملون في خان الخليلي. يقول: "في رمضان تتغير كل الموازين في هذه المنطقة. القوة الشرائية تتضاعف مرات ومرات. إنه خير عظيم من السماء". يتابع: "لدى العطارين يكثر في هذا الشهر بيع التوابل والأعشاب المتنوعة والبخور. وهناك عطارون يدخلون إلى محلاتهم في هذا الشهر الياميش والمكسرات التي تستخدم في رمضان، نظراً إلى ازدياد الطلب عليها". وتيرة النشاط التي يفور بها المكان لا تهدأ:"نبدأ عند التاسعة صباحاً حتى الواحدة بعد منتصف الليل، نتوقف خلالها ساعة ونصف الساعة لتناول الإفطار". الموائد المبسوطة حافلة بكل ما لذّ وطاب، والتجار، وعددهم يقارب الألف، يبسطون أيديهم للتعاون معاً: "أصحاب البازارات يتنافسون على تغطية أكلاف الموائد معاً، أو ربما يقوم بها البعض منفرداً حسبما تسمح به امكاناته". والموائد إلى ذلك كثيرة، "ولكثرتها قد لا نجد أحداً يجلس عليها، لأن الناس يتنافسون على تقديم الطعام لما في ذلك من أجر عظيم. وهي تستقبل الجميع من الخفير إلى الوزير". يتابع المعلم مصطفى الذي يحمل لقب مهندس ويتقن الانكليزية: "الموائد المتاحة تسع عادة 40 إلى 200 شخص". بركة رمضان لم تتوقف عند البذل العلني: "هناك تجار كثيرون يقومون بتوزيع المال والقماش والمساعدات على المحتاجين". السهر يستمر حتى الصباح. عند الفجر يتوجه المصلون إلى مساجد الأزهر الشريف أو سيدي الحسين أو السيدة زينب أو إلى الجوامع الأخرى المبثوثة حول الموضع. هناك ألفة لا يقدر أحد على تفسيرها. ألفة تتسلل إلى النفس ما أن يلج المرء إلى خان الخليلي. المكان يحمل طمأنينة عذبة تغمس جذورها في تاريخ مصر الاسلامي العريق وتشع في وجدان الذين يخطرون وسط الأزقة الموشحة بالأضواء الباهتة في رمضان.