شهدت الموجة الأولى للعولمة قيام الشركات الصناعية العملاقة في الولاياتالمتحدة وأوروبا واليابان بنقل مراكز الإنتاج لديها من ملابس وأجهزة وإلكترونيات وسيارات وغيرها إلى دول نامية في أميركا اللاتينية وآسيا وشرق أوروبا حيث أجور اليد العاملة أقل وكلفة الإنتاج أدنى بكثير من البلد الأم، وأصبح جزء لا يستهان به من مدخلات الإنتاج يُصنع خارج الدول المتقدمة. وتتميز الموجة الثانية للعولمة، وهي واحدة من أكبر التوجهات التي قد تعيد تشكيل هيكلة الاقتصاد الدولي، بقيام شركات الخدمات وتكنولوجيا المعلومات بالتعاقد مع شركات في دول نامية حيث الأجور فيها متدنية وتتوافر لديها أعداد كبيرة من خريجي الجامعات المؤهلين الذين لهم إلمام جيد باللغة الإنكليزية. وغالباً ما يتم تصدير الخدمات المساندة المطلوبة إلكترونياً فيما أصبح يُعرف بخدمات تقنية المعلومات عن بعد. وأصبحت أقطار مثل الهند والصين والفيليبين والمجر وجنوب أفريقيا وإسرائيل وكوستاريكا وغيرها مراكز أساسية لتقديم الخدمات المساندة للشركات الكبرى العاملة في أميركا واليابان وأوروبا. ولا يوجد ما يمنع من أن تصبح دول المنطقة العربية هي الأخرى مركزاً مهماً لتقديم مثل هذه الخدمات للشركات الدولية. وعلى رغم قلة عدد الشركات العربية التي شاركت في الموجة الثانية للعولمة، إلاّ أن هناك عدداً كبيراً من الشركات العربية المؤهلة لتصدير الخدمات المساندة. وفي دول مثل مصر والأردن ولبنان والبحرين وغيرها هناك أعداد وفيرة من خريجي الجامعات في مجالات تقنية المعلومات والهندسة والخدمات الطبية والمحاسبة والعلوم المصرفية وغيرها من الحقول ذات الصلة، وللعدد الكبير من هؤلاء الخريجين إلمام جيد باللغة الإنكليزية، كما أن الأجور التي تُدفع متدنية جداً مقارنة بمثيلاتها في الولاياتالمتحدة وأوروبا واليابان. ووضعت حكومات دول المنطقة موضع التنفيذ عدداً من السياسات الجاذبة للاستثمار بالإضافة إلى انضمام هذه الدول الى منظمة التجارة الدولية في حين أن الأردن هو البلد العربي الوحيد الذي دخل في شراكة تجارية مع الولاياتالمتحدة عن طريق اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، ناهيك عما يملكه معظم دول المنطقة من بنية تحتية يمكن الاعتماد عليها وشبكات اتصالات متطورة. ولا بد للشركات المحلية أن تثبت أولاَ أنه بإمكانها توفير الخدمات المساندة المطلوبة بنوعية جيدة وبمستوى مهني رفيع لكي تستطيع المنافسة مع الشركات الصينية والهندية التي سبقتها في هذا المجال. ولا تزال سوق التعاقد مع شركات من دول نامية لتوفير الخدمات المساندة للشركات الدولية الكبرى سوقاً صغيرة نسبية لكنها مرشحة للنمو بسرعة كبيرة في السنوات القليلة المقبلة. وعلى سبيل المثال، أعلنت شركة رويترز Reuters في 28 تموز يوليو الماضي عزمها نقل 600 وظيفة من العاملين لديها في دائرة العمليات في كل من نيويورك ولندن إلى مراكز عمل الشركة في الهند. ولا يزال عدد من شركات الخدمات في الدول المتقدمة يقوم بمعظم أعمال الخدمات المساندة داخلياً على رغم كلفتها المرتفعة. وإذا ما قررت المصارف التجارية سواء في الولاياتالمتحدة أو أوروبا التعاقد مع أطراف خارجية لتوفير 25 في المئة من الأعمال المساندة والعمليات اليومية المطلوبة، فإن ذلك سيُخفض نسبة التكاليف إلى الدخل بنحو 10 في المئة وفي كثير من الأحيان قد يؤدي إلى مضاعفة ربح المصارف الدولية. واتجه عدد من الشركات الدولية إلى التعاقد مع مؤسسات من الدول النامية للقيام بالأعمال الروتينية والخدمات المساندة ليس فقط لأن الكلفة أقل لكن بسبب ضعف إنتاجية العاملين في هذه النشاطات للشركات الكبرى. ومثل هذه الخدمات المساندة تعتبر مراكز كلفة للشركة الأم والعمل فيها روتينياً ولا توجد هناك حوافز لزيادة الإنتاجية، في حين أن العمل نفسه ينظر إليه من قبل شركات متعاقد معها في الدول النامية على أنه مركز جذب للدخل ويتعامل معه الموظفون بطريقة أكثر جدية. وفي التسعينات من القرن الماضي، ومع ارتفاع الطلب على اليد العاملة الماهرة في قطاعات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والهندسة والأبحاث الطبية والمحاسبة اضطرت الشركات الأميركية إلى توظيف عدد من خريجي الجامعات من مواطني دول العالم الثالث ممن جاءوا للدراسة في الولاياتالمتحدة. ومع انتهاء فقاعة تقنية المعلومات عام 2000، تراجع الطلب على حملة تلك المؤهلات، وجاءت أحداث 11 ايلول سبتمبر وما تلاها من التشدد في إصدار تأشيرات الدخول الى الولاياتالمتحدة وتصاريح العمل للأجانب فيها إلى حض الشركات الأميركية على البحث الجاد عن إمكانية التعاقد مع أطراف خارجية للقيام بالأعمال المساندة. وبدأت عملية نقل الخدمات الروتينية إلى دول لديها فائض من العمال المدربين، وأدى هذا إلى إبقاء كلفة إنتاج الخدمات المساندة تحت السيطرة وساعد في زيادة كفاءة الشركات الأميركية العاملة في هذا المجال تماماً كما حدث في صناعة الملابس والإلكترونيات بعدما تم نقل معظم خطوط الإنتاج في فترة الستينات والسبعينات إلى خارج الولاياتالمتحدة. ويتوقع أن يستمر هذا التوجه مستقبلاً، إذ أن مؤسسة الأبحاث "براد ستريت" قدرت حجم السوق العالمية للخدمات المساندة لقطاع تقنية المعلومات المتوقع التعاقد عليه مع أطراف خارجية بأكثر من 200 بليون دولار سنة 2003. إن القوى الدافعة لهذه المرحلة الجديدة من العولمة هي الإنترنت وشبكات المعلومات السريعة التي تربط أرجاء العالم كافة بما فيها الدول النامية. وأهم الخدمات المساندة التي يتم التعاقد عليها مع شركات خارجية تشمل مراكز اتصال لخدمة العملاء Customers Call Centers التي يتم توفيرها للمصارف وشركات الطيران وشركات بطاقات الائتمان الدولية وشركات البرمجيات وغيرها. ويقوم العاملون في الهند أو في كوستاريكا أو سنغافورة بالإجابة على مكالمات الأشخاص في أوروبا أو الولاياتالمتحدة الذين يتصلون هاتفياً للاستفسار عن أرصدتهم في المصرف أو عن دفعات بطاقاتهم الائتمانية، أو للحجز في الفنادق وشركات الطيران أو الاستعلام عن كيفية إدخال البرمجيات على أجهزة الحاسوب الجديدة وغيرها. ويتوقع أن تصل قيمة مثل هذه الخدمات، التي ستكلف بها أطراف في الدول النامية من قبل الشركات الدولية إلى ما يزيد على 5 بلايين دولار بحلول سنة 2005. أما الأمر الذي يأتي في الدرجة الثانية من الأهمية فهو إدخال المعلومات والسجلات الطبية، التي يمليها الأطباء في الدول المتقدمة على فنيين متخصصين في الفيليبين أو الهند أو غيرهما ليتم تحويلها إلى تقارير طبية مكتوبة. ويتوقع أن تصل نفقات توفير مثل هذه التقارير الطبية القادمة من الولاياتالمتحدة الى الدول النامية إلى 4 بلايين دولار بحلول سنة 2005. ويتبع ذلك في الأهمية تكليف أطراف خارجية بعملية حل المشاكل المتعلقة بمطالبات التأمين، وبيع الأوراق المالية من أسهم وسندات، وتحليل الشركات وتقويم وضعها الائتماني وتكون الكلفة هنا إذا ما قامت بها أطراف خارجية في الدول النامية ثلث الكلفة الموازية لتوفير مثل هذا الخدمات في الولاياتالمتحدة أو أوروبا. وباستخدام قواعد البيانات وإرسالها على شبكة الإنترنت، يستطيع الموظفون في بلد بعيد أن يعدوا دراسات مستقلة عن الشركات أو القطاعات أو الأفراد. وبدأ اخيراً تكليف أطراف خارجية تعمل في دول نامية للقيام بخدمات تحتاج إلى مختصين على درجة عالية من الخبرة، مثل أعمال الهندسة المعمارية والرسوم المتحركة، وأعمال التصميم والتحليل الفني وغيرها. وأثبتت شركات عربية تعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات والخدمات المتطورة أنها قادرة على تنفيذ أعمال بمستوى عال من الجودة والكفاءة، كما أن بعضاً منها استطاع توقيع اتفاقات لتصدير الخدمات المساندة لشركات رئيسية في الخارج. ويجدر بالمزيد من الشركات العربية الرائدة أن تعمل كل ما باستطاعتها للحصول على حصة من هذه السوق التي تقوم ببلايين الدولارات، وتغذيها الشركات في الولاياتالمتحدة وأوروبا واليابان. وفي دول المنطقة ذات اليد العاملة الفائضة يتخرج سنوياً الآلاف في مجال تكنولوجيا المعلومات والهندسة والخدمات الطبية والمحاسبة والعلوم المصرفية وهم يقبلون العمل برواتب تبدأ بأقل من 500 دولار شهرياً التي تعد تنافسية بالمعايير الدولية. فدول المنطقة هذه مؤهلة من دون شك لكي تصبح مركز جذب للحصول على عقود من شركات دولية تبحث عن أماكن في الخارج تقدم لها الخدمات المساندة. * الرئيس التنفيذي جوردإنفست