قبل عشر سنوات تقريباً، حينما اكتشفت الدولة اللبنانية، إثر الرحيل المفجع للسينمائي اللبناني مارون بغدادي، ان فن السينما يصنع للبنان بعض سمعة طيبة في الخارج، تختلف عن سمعة هذا الوطن، كبلد سياحة وخدمات من ناحية، وبلد حروب أهلية - وغير أهلية - عبثية دامية سخيفة من ناحية أخرى، وجدت نفسها، فجأة تعطي الراحل وساماً وتقيم له جنازة وطنية لم يكن اي سينمائي يحلم بمثلها، بل لم يكن يحلم بمثلها أي فنان في لبنان على الاطلاق. فالسلطات اللبنانية، حتى أيام العز، لم تكن تفهم من الفن الا انه "فولكلور أصيل" يساعد على الترويج للسياحة، او انه، في أحسن أحواله، صنع لبرامج "تزين" تلفزيوناتها الرسمية بين نشرة أخبار وبرنامج دعائي للسلطة ومجتمعها. والحقيقة انه قد يكون في وسع المرء ان يُثني على مثل هذا الاهمال، إن نظر الى وضع الثقافات والفنون العربية، حينما مرت عبر مرشحات السلطات في بلادها، وعبر وزارات للثقافة وقطاعات عامة وما شابه. ويقيناً ان في إمكاننا أيضاً ان نقول ان جزءاً كبيراً من أهمية ما أنتج من فنون، سينمائية وغير سينمائية، في لبنان خلال ربع القرن الأخير، ربما يكمن في عدم تدخلية الدولة، وفي استمتاع المبدعين بحرية عز نظيرها في العديد من البلدان الاخرى. والسلطة اللبنانية ارتاحت الى هذا الواقع، بل حولته أساساً من أسس تحركها. وهكذا، عاماً بعد عام، وموازنة بعد موازنة، ومسؤولاً بعد مسؤول، لم يعد للفنون أي حصة جديدة من مشاريع الدولة أو برامج نموها. وصار ما توزعه الهيئات المعنية من وزارات وغيرها على بعض المحظوظين، يوضع إما في خانة النزعة الاستزلامية، أو في خانة الاحسان الموسمي بمعنى ما: ارتاحت السلطة وأراحت... ولكن ليس دائماً وليس بصورة مطلقة. فالدولة التي لسنا ندري ما اذا كان كبارها يحبون الفنون حقاً أو يستسيغونها - وإن كان يحدث لبعضهم ان يستقبل مغنين هواة أو محترفين وغيرهم من الفنانين بين الحين والآخر... ضمن اطار الترويج والعلاقات العامة على الأرجح - ، هذه الدولة التي لا يبدو لنا واضحاً ما اذا كانت تحب السينما وغيرها من الفنون، تجد نفسها بين الحين والآخر، مجبرة على الاهتمام بفنون، سينمائية وغيرها، ولكن من حيث لا تدري: مرة حينما يمنع أمنها العام فيلماً من الأفلام فتحدث ضجة في الخارج، ومرة حينما يحاول فنانون استثارة اهتمام المسؤولين بمصيرهم فتحدث الاجتماعات وتكثر الوعود، التي نعرف ان معظمها لا يعرف طريقه الى التنفيذ... ولكن تلكم هي قواعد اللعبة. غير ان هذه الدولة نفسها، قد تجد عليها ان تهتم بالفنون، لمناسبات اخرى، غير مناسبة إقفال صالة سينما أو مسرح، أو لتحويل مبنى فني عريق الى مطعم أو ما الى ذلك: ومن هذه المناسبات ما قد يكون ايجابياً. وهنا أيضاً قد تؤخذ الدولة على حين غرة... لكن النتيجة تكون طيبة في نهاية الأمر. وفي مجال السينما وحدها، حدث هذا ثلاث مرات على الأقل خلال الشهور الاخيرة. وثلاث مرات شعرت الدولة بشيء من العزة الفنية، من دون ان يكلفها ذلك شيئاً. ووجدت نفسها تعبر عن "آراء" فنية من دون ان يؤثر عنها انها ناقدة سينمائية حقيقية في هذا الاطار فقط هل علينا ان نقول كم ان هذه الدولة الكسولة فنياً، تبدو محظوظة، و"كسّيبة" على طول الخط؟. كانت المرة الأولى حينما حقق سينمائي لبناني شاب، هو أسد فولادكار، فيلماً بسيطاً، اضطر الى تحقيقه مستغنياً عن آمال عريقة كان وضعها بناء على موازنة أولية رسمها له فعجز عن توفير المال الكافي لذلك، على رغم "باريس -1" و"باريس -2"، وكل الباريسات الاخرى، وكذلك على رغم وعود كان قيل ان رئيس الحكومة اللبنانية قطعها ذات عام لزائر سينمائي مصري كبير هو يوسف شاهين، بأن يدعم - أو تدعم دولته - الفن السابع اللبناني بمليوني دولار لم ير منها السينمائيون اللبنانيون قرشاً واحداً.... لقد حقق السينمائي الشاب فولادكار فيلمه، وكاد يمر مرور الكرام، لولا ان الناس احبوه، والنقاد احبوه والمهرجانات أحبته وأعطته جوائز عدة. وهنا، أمام زخم لا يد لها فيه، شمّرت الدولة عن أكمامها وراحت "تكرّم" وتتحدث عن الابداع اللبناني اكتشفت السينما من جديد، مثلما اكتشف المسيو جوردان النثر في مسرحية موليير الشهيرة "الثري والنبيل". في المرة الثانية، وقبل أشهر قليلة، اكتشفت الدولة السينما مرة ثانية، لكن المناسبة كانت أقل فرحاً وأكثر حزناً بكثير: وفاة السينمائي اللبناني سمير الغصيني وهو يصور فيلماً جديداً له في أوكرانيا. هناك في البعيد؟ ومخرج لبناني؟ ويصور فيلمه الثلاثين وأكثر؟ ودهشت الدولة امام هذا "الانتشار" اللبناني الابداعي، ثم دخلت العلاقات العامة وعلا صراخ الفنانين فكان وسام صاخب لمخرج مخضرم قضى نصف حياته جائعاً لا تعلم عنه الدولة شيئاً، حينما مات عرفت عنه كل شيء فكان وسام، زهت به الدولة واعتبرته اسهاماً منها في رفعة الفنون وفي تعزيز الانتشار اللبناني. أما المرة الثالثة فكانت منذ أيام. ولكن هذه المرة تعلق الأمر بسينمائية سمعت عنها الدولة اللبنانية كثيراً خلال السنوات الاخيرة ولكن في مناسبات رقابية مؤلمة. هذه السينمائية هي رنده الشهال، التي بعد زميلها الراحل سمير الغصيني بأسابيع قليلة، خصتها الدولة اللبنانية بوسام قدم اليها في احتفال صاخب. وهذه الدولة كانت هي نفسها التي عاملت أفلام رنده الشهال السابقة بعنف وليس هنا مجال مناقشة ما اذا كان ذلك التعامل محقاً أو ظالماً"، فهذه حكاية اخرى، بالنسبة الينا... اما المناسبة "السعيدة" هذه المرة فكانت النجاح الذي حققه فيلم الشهال الاخير وعنوانه "طيارة من ورق"، في مهرجان البندقية حين منح اسداً فضياً. ومن هنا كان اهتمام الدولة اللبنانية بالأمر، ومن جديد، بسبب عنصر خارجي: نجاح لبناني ما في الخارج، وليس لأن الدولة اكتشفت في نفسها قدرة على التقويم والنقد السينمائيين. ومع هذا لا يسع المرء الا ان يحيي هذه المبادرة... والمبادرات الثلاث معاً. والمرء اذ يحيي لا يسعه الا ان يطرح للمناسبة سؤالاً لا بد من طرحه: متى نكف عن الاهتمام بمبدعينا، فقط لأن الخارج بادر الى الاهتمام بهم، أو لأن الخارج اعطاهم فرصة للتعبير عن انفسهم، تلك الفرصة التي لم تتح لهم في الوطن؟ هذا هو، في رأينا، السؤال المعضلة والسؤال الاساس. السؤال الذي لا بد منه، ليس لأن الدولة انتبهت الى سينمائيين حينما ماتوا أو حينما سبقها الخارج الى الانتباه اليهم، بل لأن الدولة غافلة عما هو أهم بكثير: عن عشرات المبدعين - ونقصر ملاحظتنا هنا على الفن السابع - من سينمائيين شبان، وأقل شباباً، اثبتوا في اعمال حققوها بامكاناتهم المتواضعة ان لبنان يمكنه ان يكون منتجاً للفن، ومساعداً على دعم اقتصادات الوطن من طريق انتاج هذا الفن، لكنهم يدورون حول العالم باحثين عما يعز عليهم الحصول عليه في وطنهم: تمويلاً ومساندةً وربما اعترافاً أيضاً، وقد احبطهم ان يدركوا أخيراً، ان الاعتراف لن يأتي الا اذا ماتوا، او اكتشفهم الخارج - وربما لأسباب لا علاقة لها بالفن فمنحهم جوائزه... وأن يدركوا ايضاً ان هذا الاعتراف، وحتى ولو ترتب عليه أوسمة وتكريم، قد لا يترتب عليه، اصلاً، الحصول على مساندة أو تمويل... أو حتى - وهذا أضعف الايمان - : الحصول على بعض حرية في الحركة والتعبير...