افتتح مهرجان "السينما الشرق أوسطية" أول من أمس مهرجان عروضه في بيروت بفيلم وثائقي، وهو أمر قد يبدو غريباً في البداية لأنه ندر لمهرجان سينمائي يعرض أفلاماً روائية أن يفتتح نشاطاته بهذا النوع من الأفلام. لكن حينما يكون الفيلم الوثائقي غائصاً في قلب الفن السابع نفسه ويتحدث عن حياة شارلي شابلن وسينماه يصبح للأمر كل مبرراته. ففيلم "شارلي: حياة وفن تشارلز شابلن" الذي حققه مؤرخ السينما الأميركي الشهير ريتشارد شيكل هو فيلم سينمائي عن السينما وعن واحد هو بالطبع من أعظم الفنانين الذين عرفهم فن السينما بتشارلي شابلن الذي رافقنا ويرافقنا بأفلامه شكلاً ثم معنى منذ طفولتنا حتى كهولتنا، مرافقاً أيضاً فن السينما خلال ثلاثة أرباع قرنه الأولى. من هنا لو لم يقدم المهرجان البيروتي سوى هذا الفيلم لكان استحق أيضاً لقبه ومكانته كمهرجان سينمائي حقيقي، حتى إن كان في امكان البعض أن يقول ان الفيلم عرض في مهرجانات عديدة من قبل. حسناً، بيروت هي إذاً محطة في جولة فيلم شيكل بين المهرجانات إذ من المعروف انه دار وسيدور على نحو عشرين مهرجاناً خلال عام كامل قبل أن يرتاح تاركاً المكان لسلسلة أفلام شابلن وقد تضافرت جهود المنتج الفرنسي مارين كارمتس وشركة وارنر الأميركية على اعادة طبعها في اسطوانات مدمجة بدأت تغزو العالم منذ شهور بعون من سينماتيك بولونيا في ايطاليا. فيلم شيكل هو في الأساس فيلم ترويجي لهذه السلسلة، لكن ولأن شيكل فنان كبير ومؤرخ حقيقي للسينما وضليع في سينما شابلن بالتحديد، سرعان ما اتخذ الفيلم مذاقاً آخراً تماماً مفعماً بالغنى والمرح كما شخصية شابلن نفسه. دون كيشوت في بادئ الأمر وقبل مشاهدة الفيلم قد يظن البعض أن هذا العمل ما هو إلا سيرة ذاتية لشارلو الفنان الذي قال عنه يوماً باركر تايلر: "انه مزج غريب بين دون كيشوت وسانشو بانشا". لكن ومنذ اللحظة الأولى من "شارلي: حياة وفن تشارلز شابلن" ينقلب الوضع كله. والحال ان هذا العمل أبعد بكثير من مجرد كونه سيرة ذاتية لفنان أتحف السينما العالمية. انه كما أراده صاحبه "تحفة فنية تعمّر طويلاً كما لم يسبق لأي عمل من أعماله أن فعل". وكي يزيل شيكل فكرة حصر فيلمه في نطاق السيرة الذاتية رفع الستارة بداية بمشهد من فيلم "كيد اتو يسابق في فنيسيا"، لا بولادة شابلن والتدرج التاريخي كما درجت العادة في السيرة الشخصية. أما الفيلم الذي استهل شيكل عمله به فهو اسكتش تمثيلي صور سنة 1914 لمناسبة سباق سيارات أقيم في فينيسيا وكان خاصاً بالأطفال. في هذا الفيلم ظهرت للمرة الأولى شخصية شارلو ذي السروال العريض، والقبعة الرخوة والعصا والشارب والمشية البطية. انه بكل بساطة "شارلي شابلن" كما قال شيكل نفسه مبرراً انطلاقة فيلمه بهذا العمل بالذات. وشيئاً فشيئاً يغوص شيكل على مدى ما يقارب الساعتين من الوقت في حياة شابلن ومهنته كممثل ومؤلف وكاتب تعامل مع عدد من الشركات الفنية فكانت له أفلام مع "سينيت" و"إيساناي" إضافة الى أفلام "ميتويل" و"فيرست انترناشينال". وهكذا يعجّ هذا الوثائقي بلقطات من بعض أفلام شابلن أمثال: "امرأة من باريس" 1923، "الهجمة على الذهب" 1925، "السيرك" 1928، "الدكتاتور الكبير" 1940، "السيد فردو" 1947 وغيرها العشرات من الأفلام التي حملت توقيع شارلي شابلن. شيء من الخصوصية وعلى رغم صخب حياة شارلو الفنية لم يغب عن بال شيكل متابعة حياته الخاصة ولا سيما منها زيجاته المتعددة وولعه بالفتيات الأصغر منه سناً، إضافة الى مشكلاته مع مكتب التحقيقات الفيديرالي، الأمر الذي قاده الى المنفى بعيداً عن الولاياتالمتحدة الأميركية مدة عشرين سنة. ويعلّق المخرج والممثل سيدني بولاّك في هذا الصدد قائلاً: "يجب ألا يكون ثمة أي لغط في هذا الموضوع، لقد كان شارلي شابلن يسارياً". ويتضمن هذا الفيلم، الذي يروي بولاك مساره بصوته إضافة الى مشاهد من أفلام شابلن وصور فوتوغرافية له ولعائلته، شهادات حية جاءت لتزيد هذا العمل ديناميكية وحداثة. شهادات عن حياة شابلن وفنه أدلى بها فنانون كثر عبّروا خلالها كم أنهم يدينون له بالكثير. وكما يقول مخرج هذا الفيلم: "بين أيدينا مزج هائل من الأشخاص الذي يمتون بشيء أو بآخر الى شارلي شابلن. بعضهم ممثلون أمثال جوني ديب الذي قلّد "رقصة الرولرز" الشهيرة لشابلن بعدما قام بها في فيلم "بيني وجون" 1993 معطياً شرحاً واسعاً لفيلم "المهاجر" الذي صور سنة 1917، والذي اعتبر في حينه أكثر الأفلام إنسانية ومأسوية لأنه أشبه بعمل ساخر اجتماعياً وسيكولوجياً وعاطفياً. وبعضهم سينمائيون لهم مكانتهم في عالم الفن السابع أمثال وودي ألن الذي يمدّنا ببعض التخمينات النقدية ومارتن سكورسيزي الذي يقدّم لنا تعليقاته حول "امرأة من باريس" و"السيد فردو"، وميلوس فورمان الذي تحدث عن مشاهدته فيلم "الدكتاتور الكبير" 1940 في مسقط رأسه براغ بعد الحرب. ولعلّ في قوله: "الحلفاء حررونا جسدياً أما الدكتاتور الكبير فحررنا روحياً"، خير معبّر عن مدى تأثره بهذا الفنان العبقري. وبدوره المخرج ريتشارد اتينبورو الذي صوّر "شابلن" روائياً عن حياة الفنان العبقري في سنة 1992، أفصح في شهادته هذه انه حلم بأن يصبح ممثلاً لحظة مشاهدته عام 1924 فيلم شابلن "الهجمة على الذهب". وتطول لائحة المتكلمين ومنهم الإيمائيون مثل مارسيل مارسو الذي انبهر منذ طفولته بشابلن وتحديداً عندما شاهد له فيلم "السيرك"، وبيل ايروين الذي كان له أيضاً تعليق مماثل، اضافة الى الممثلة كلير بلوم التي شاركت شابلن فيلم "أضواء المسرح" وهي بعد في التاسعة عشرة من عمرها. في شهادتها تتحدث كلير بإسهاب عن الطريقة التي حضّرها فيها شابلن لتجسد بشكل رائع دور فتاة معقدة تكتشف أن بإمكانها السير من جديد بعد سنوات من الألم والشلل التام. ماذا يقول النقد وحَفِل فيلم شيكل أيضاً بشهادات عدد من النقاد أمثال دايفيد روبنسون، أندرو ساريس ودايفيد تومسون الذي صرّح قائلاً: "كان شارلي شابلن كوبريك قبل كوبريك، بفارق واحد وهو ان كوبريك لم ينفق أبداً ماله الخاص في أعماله". من جهة ثانية كان لا بدّ ليكتمل هذا الفيلم من أن يُسند بشهادات أولاد شابلن نفسه: سيدني، جيرالدين ومايكل شابلن الذين أضافوا شيئاً من الحميمية والمودّة، مشيرين بموضوعية الى أفلامه. وهكذا تفسّر جيرالدين سبب عدم ذكر والدها فيلم "السيرك" في سيرته الشخصية، وتتحدث بصراحة تامة عن ولعه بالفتيات الأصغر منه سناً، ولع "قاده الى مجابهة حامية مع السلطات في ما بعد". كيف أضحى شابلن شابلن؟ سؤال ردّ عليه شيكل مطولاً في الفيلم وكأن لسان حاله يردد مع مارسيل مارتين: "إذا كان شارلو يمارس عملاً تطهيرياً وتحريرياً على الجمهور من طريق عرض تعاساته وتهريجاته، كنوع من التطهير من طريق الضحك، فإن الكوميديا التي يقدمها ليست أفيوناً يدفع الى النسيان أو الاستسلام، بل هي نداء دائم موجّه نحو الوعي. "انه مسيح يومي بائس" كما يقول انريكو بيتشيني، وهو ي الوقت نفسه حامل للرؤية البطولية للحياة، كما يقول هنري بولاي. ان شارلو يوقظ لدى كل كائن انساني صدى عميقاً. ولا شيء يمكنه أن يعرف شارلو بأفضل مما تفعله العبارة الرائعة التي يوردها هنري بيشيت ويقول فيها: "انه شعلة متواضعة تدرك وكأنها شمعدان اجتماعي".