أنا غاضب لأن إدوارد سعيد مات. كأنّ في الأمر جنايةً، وكأنّ اللوكيميا ليست مقنعةً أبداً كسببٍ للموت. أتعجّب كيف أن معرفتنا بطبيعة مرضه لم تكن كافية لتحريضنا على التسليم الروتيني بالعاقبة. وأقول لنفسي، من الجنون أن أفكر بأن أحداً منا كان يجب أن يحميه ويدافع عنه قبل إغماضته الأخيرة، وأن يؤجل النهاية ولو قليلاً" بل ها أنا يباغتني شعور لا منطقيّ بأننا قصّرنا في منع اللوكيميا من المساس به أصلاً" ذلك أن الناقد الشرس للإمبراطورية والمحارب الصلب ضد الركاكة والطغيان، والسيد الجذاب الذي اجتمعت فيه أناقات لا تحصى، القويّ المنتبه دائماً، المبادر لرعاية الأصدقاء كأنهم أحفاده، كان، لمن يعرفه عن قُرب، يخبئ في أعماقه صبيّاً عَذباً مُكوَّناً من هشاشات خفيّة وخافتة ومن عناد محبب وغرور وغيرة وفضول، ونفور من اللوم، وحب للثناء" صبيّاً يغريك بأن تحميه وترعاه. ولعل هذا ما حمله على الجمع بين الفلسفة والموسيقى، القتال الفكري والبيانو. وها هي اللحظة تأتي حيث كلنا، أهله وأصدقاؤه وتلاميذه وقرّاؤه، لم نتمكن من أن نكون سياجاً لحديقة حياته أو علبة دواء ناجحٍ بجوار مخدة أوجاعه، أو حتى مشعوذين تعساء نكتب له الرُّقى تشبثاً بوهم النجاة وطول العمر. سهل أن يقال إنه باقٍ بيننا بفكره ومؤلفاته ومحاضراته ومساجلاته التي طاف بها البلدان، لا تقنعوني بذلك أيها المؤبنون. هذا كاتب تحبه بأكمله. تحب ضحكته التي توسِّع الغرفة، مشيته الواثقة، صوت نثره السلس المرتاح، رده على الهاتف، حديثه الى مائدة العشاء، سلطته في المحاضرة، غضبه الطليق، سخريته الوحشية التي لا تعرف الرأفة قد يوجهها لذاته هو إذا اقتضت الدعابة ذلك. ومرة أخرى، طفولته التي رافقته ثمانياً وستين سنةً من دون أن تكتهل أو تتكاسل، نراها تطل بعينين دائريتين، مرة من خلف ملابسه الأنيقة، ومرة من دهشته لذكاء هذا وغباء ذاك. سنقرأ أعماله مرات وسنحيي ذكراه، إن عشنا نحن في آتي السنوات، لكن، يصعب علينا ألا ننتظر جديده وألا نتابع معاركه إذ يقشر الطلاء عن فساد الكلمات والأقنعة عن الوجوه الركيكة. غياب شخص كإدوارد يغري كثيرين بادعاء صداقته طوال العمر. نحن التقينا مرات قليلة لكنني رأيت كيف يعامل أصدقاءه الحميمين وكأنّ كَوْنَهُمْ في خيرِ حال أمرٌ يقع ضمن مسؤوليته الشخصية وتخصصه الدقيق، هو لا يتخلى عن الانتباه لوجودهم مهما كان الازدحام ومهما كان التعب. كنا نتصل به في نيويورك لا لكي نلبي أمانينا بشفائه بل لكي نطمئن إلى أنه "يواصل مرضه كالمعتاد"، بالكراهية نفسها والتجاهل، على رغم انشغاله المؤكد بحاله الصحية" وبالشجاعة نفسها، على رغم تفكيره الخفيّ بالأفق المسدود أمامه وأمام أطبائه. كنا نسوق حالته مثالاً على الاستجابة الناجحة للعلاج فذهب بنا الوهم بعيداً حتى نسينا أو تناسينا الحقيقة، بل حتى بلغت بنا سذاجتنا حد التعامل مع سرطان الدم كأنه نوبة زكام. الآن سندعو أنفسنا دعوة جادة ونهائية للعودة إلى الأرض، إلى الحقيقة التي لا توارى. سنصدق خبر الموت. وسندرك أن القدر الذي وضعه على طريق محاربة الإمبراطورية والأغبياء السعداء، زج به في معركة أخرى مع مرض يضمن النصر سلفاً على كل محارب حيّ. هذا رجل عهدت إليه الدنيا محاربة سرطانات كثيرة بلغة المجاز ولم تعف جسده وروحه من محاربة السرطان الحقيقي ذاته، وكان بشجاعته يواصل تقديم الدروس في الحالين. لا. لم يكن قديساً ولم يكن كل ما جاء به من أفكار معصوماً عن المجادلة والأخذ والرد، فإطلالاته على المشهد الثقافي العربي بتفاصيله وتشعباته وخلفياته قد تبدو لدى البعض ملتبسة بعض الشيء بسبب معوقات موضوعية، لكن إدوارد سعيد كان مدافعاً عظيماً عن شعبه بالمقدار الذي دافع فيه عن إنسانية المعرفة وعن صورة المثقف وعن أبناء المستعمرات وبؤساء العالم الثالث، وكان خصماً شريفاً حتى أمام خصوم يعوزهم الشرف، فضلاً عن أنه لم يتردد في إعادة فحص آرائه كلما كشفت له معارفه عناصر جديدة تقتضي إعادة النظر، ولعل هذا أحد أبرز ما يميز المثقف الحر. لقد كان فرحه بالمعرفة مدهشاً، خصوصاً أنه من القلائل الذين سعوا الى معرفة العالم من طريق الأدب. إنه الفيلسوف الذي حمل معاركه الفكرية من مكان إلى مكان ومن بلد إلى بلد من دون كلل أو تقاعس أو شكوى، رافعاً راية الجمال الإنساني بهمة من لا يطيق القبح. كان يقرأ بعينيه كلمات من اتهموه بأنه "بروفيسور الإرهاب" مثل الصهيوني التعس ألكساندر إدوارد، لمجرد دفاعه المستمر عن شعبه المظلوم وعن روايتنا التي تحاول الرواية الصهيونية هدمها. ولأنه لم يكتف بإنجازه الأكاديمي والفكري المترامي الأطراف بل أضاف إليه انشغاله باليومي في قضية فلسطين، لامه البعض مفضلين أن يكتفي بدوره كمفكر كونيّ، كأنّ المفكر الكوني يأتي إلى الدنيا نتيجة احتكاك غيمتين في الأعالي، لا قوم له ولا جغرافيا ولا تاريخ ولا أعداء ولا أنصار، وكأنه ينشر كتبه "الكونية" لتقرأها النجومُ الساريةُ ونسائمُ الغابات! حتى في وطنه، لم يكن الخجل وحده الذي أصلح خطأ بلهاء سلطة أوسلو الذين منعوا كتبه في فلسطين بل الاحتجاجات المدوية على ذلك القرار السخيف" ولم يتمكنوا من التلذذ بالخطأ طويلاً على رغم أنهم احترفوا ذلك وأتقنوه. أنا غاضب. لكن الغضب ينتهي كالحزن أيضاً، أما الذي يبدو بلا نهاية منظورة، لشخص في سنّي على الأقل، فهو الموت الفلسطيني الجماعي الذي لا يصيب المبدعين وحدهم، وهنا تتماثل أوجاعنا مع وجع ادوارد الذي لازمه حتى النفس الأخير. مصرع طفلٍ في سريره رعباً من بنادق الإسرائيليين النشيطة القادرة على الاستمرار في "الطخ" زمناً يفوق بكثير ما تستطيعه البندقية البلاستيكية الملونة في يد الطفل حتى لو غير بطارياتها آلاف المرات. واقتلاع سفح زيتون بهستيريا الجرافات الساهرة على أمن إسرائيل. وسقوط القذيفة من بطن الآباتشي على رؤوس عائلة بأكملها، وسقوط السقوف على ركامها وأحياناً على سكانها. كانت الصور الأخيرة التي حملها إدوارد معه في رحلته الأخيرة وأظننا سنشاركه المصير ذاته ما دام العالم في الصورة نفسها التي رآه عليها عندما، بالمعايشة وبالبحث وبالمقالة، ضبط الشر متلبساً وفي أوج لحظة الهتك والزيف. رافقتْه أيضاً صورةُ العالم الذي وصفه جيداً، وحاربه جيداً، عالم الإمبراطورية وهي تنتقل من حرب إلى حرب تطلق النار على البشر وعلى الحقيقة وعلى القانون فتصيب الجميعَ في العنق. على رغم ذلك ها هو على فراش الغياب يوصي ابنته نجلاء وابنه وديع بأن يواصلا العمل والفرح، كأنه يخاطب جيلاً جديداً كاملاً بما يليق بأستاذ مثله. يوم وفاته، في حديقة بناية الفلسفة حيث مكتب إدوارد، وقف الطلاب والأساتذة في جامعة كولومبيا في هيئة دائرة كبيرة، في أياديهم شموع صغيرة، والصمت في لحظة الغروب يحيط بمشهدهم الجماعي ليودعوا الأستاذ. أما نحن، قٌرّاءَهُ ومحبيه الفلسطينيين والعرب، فلن نستطيع أن نودعه إلا فرادى وكلاً في مكانه وعلى طريقته. أنا غاضب الآن، لكن غضبي قبل فاجعتي بإدوارد لم يكن أقل. الموت حولنا نشيط إلى حد يثير الريبة. الموت حولنا من فرط ثرثرته لا يزال يحجب همس الأمل ورعد الدنيا وصراخ المواليد. الموت، من فرط تكراره، أصبح مملاً، والوقت بين جنازتين لم يعد كافياً للتحديق في معنى الخسارة، حتى أن دمعنا ذاته لم يعد مبللاً. انسداد الأفق يجعل الأمل شاحباً ويواريه، نحن منذ عمرٍ كامل نركض داخل القيد، نعيش على حافة الحافّة، نبني خياماً جديدة وقبوراً مرتجلة لأننا، قبل مرور الأربعين يوماً على سقوط واحد منا يكون أربعون آخرون منا قد سقطوا حتى تعذَر الحداد على أي غائب والاحتفال بأي ذكرى، واستحال التوقف بالاحترام الكافي أمام الموتى. سأسارع بالوقوف أمام غياب إدوارد قبل أن يشتد الزحام علينا وعليه وقبل أن يرسل لنا شارون آلاف المطرودين في نوبة التطهير العرقي الماثلة أمامنا والتي ستباركها واشنطن وكثير من عواصمنا التي اكتشفت نعمة النعاس ورخاوة الجفون في كل الملمات. أنا غاضب لأن إدوارد سعيد مات الآن حيث الحاجة إلى صوته الشريف الهادر في أوجها، وحيث بربرية النظام العالمي الجديد في أعلى درجات شراستها وأحط أشكال عدوانيتها، وحيث الرواية الفلسطينية تتعرض لضربات تشويه غير مسبوق في التاريخ بعد أن ساد منطق "لوم الضحايا" ومديح القتلة، وأصبح شارون يحظى بلقب رجل السلام ومقاومتنا توصم بالإرهاب، ورُبطنا بعتمة الكون بعد أن كنا من بشائر الضوء فيه. أنا غاضب لأن عجزي يتكرر أكثر مما يليق ويجوز، لم أستطع ولا استطاع غيري أن يكون رجفةً مباغتة تهز رسغ من صوَّب كاتم الصوت نحو جبين ناجي العلي ابن قرية "الشجرة" الراقد في تراب إنكلترا، ولا أن يكون نعاساً صباحياً يؤخر غسان كنفاني ابن "عكا" عن ركوب سيارته التي فجّرها الموساد في بيروت ليتبعثر جسده على أسطح العمارات المجاورة فنتركه هناك في مقبرة الشهداء. أنا غاضب لأننا لم نستطع أن نكون ساعةً واحدةً تضاف إلى عمر جبرا إبراهيم جبرا ابن "بيت لحم" الراقد في بغداد ولا أن نقدم سبباً يقنع "أبا سلمى" ابن "حيفا" بالتريث قبل دخول قبره في دمشق، ولا أن نكون جرعة أوكسيجين إضافية تبقي على إحسان عباس ابن "عين غزال" لبضعة نهارات بيننا قبل أن نحمل جسده الشحيح إلى مقبرة وادي السير في عمّان. ولم نستطع أن نرافق معين بسيسو ابن "غزة" إلى منفاه الأخير في مدافن القاهرة. القائمة ستزداد طولاً والمقابر ستزداد عرضاً. الأسماء ستزداد لكي ننقص نحن، وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت. إدوارد سعيد، قَبْرٌ آخر خارج المَكان، جنازةٌ أخرى بعيداً من الوطن. وحين يكون الفقيد مثل من فقدنا فإن الحزن يفسح مكانه للغضب. أنا غاضب، لأنه لا يعقل أن نطوف العالم كله بالطائرات إذا أردنا أن نضع وردة على كل قبر يضم مبدعاً من فلسطين. * شاعر فلسطيني.