عزيزي صدّام لا اخاطبك بسيدي الرئيس حفظك الله كما تعودت من اتباعك ، بل اخاطبك كأنسان اولاً وآخراً. ان الذي حفزني للكتابة اليك وعنك، هو اطلاعي على تصريحاتك الاخيرة عن رغبتك بكتابة قصة حياتك بنفسك. لهذا قررت الاسهام معك في هذا المشروع، ليس لنزوة خاصة، بل لأنك منذ اعوام طويلة مسؤول عن حياة شعبي، ولأن الكتابة عنك هي في الوقت ذاته الكتابة عن اخطر مرحلة عاشها العراق. ها انا اكتب اليك الفصل الاخير من حياتك، اما الفصول السابقة، فكما تعرف جيداً، سبق أن كتبتها أنت بدم الناس ودموعهم. ذات فجر ليس ببعيد ستستيقظ يا صدام على فراشك في القصر الجمهوري، ولا تزال طرية في رأسك بقايا كوابيس عبثت في روحك طيلة الليل. كعادتك من دون تفكير ستمد يدك وتضغط الزر كي يأتيك حارسك. ستفكر بترددك امس في ان تمضي الليلة هنا، او في احد قصورك او مخابئك الأكثر اماناً. ستبقى مستلقياً بين الاغفاءة والصحو محاولاً استعادة بعض من مشاهد كوابيسك. كانت كلها مشوشة ومتقطعة وغامضة، وستحس بانقباض ثقيل يهيمن على روحك، فما زالت حية في اعماقك اصداء استغاثات احتضاراتك وتوهجات عيون ضباع وغربان تنهش عالمك. عندما ستنساب عيناك نحو السقف بلونه الوردي، ستشاهد احداث كوابيس ليلتك: صحراء تمتد بلا منتهى، مزروعة بقبور تجول في انحائها ضباع مسعورة تنهش اشياء غامضة، وفي سماواتها المكفهرة بغبار العراق الاحمر تحوم غربان سود فوق طوفان جبار. وهناك في البعيد، شاهدتَ يا صدام امك منتصبة بين القبور بقامتها الشامخة وملامحها الصارمة ونظراتها المهيمنة، وهي تمد كفيها نحوك وتناديك بصوت آمر حنون: - تعال يا وليدي تعال، انا امك صبحة. تعال عيني تعال. هنا في صدري وبين احضاني اخبيك من الضباع والغربان واحميك من الطوفان. تعال يا وليدي تعال. حينها يا صدام وأنت في سرير كابوسك سترتجف على غير عادتك وتغمض عينيك هرباً من رؤى ليلتك، بينما يضج رأسك بأنشودة كونية باكية من عويل ضباع ونعيق غربان، ونحيبك انت صارخاً في البرية مناجياً امك الشامخة بين القبور: يمّى ... يمّى. آني جاي. يمى خذيني آني جاي. ستنتبه الى ان الحارس لم يأتك بعد، فتضغط الزر مرة ثانية وثالثة بغضب. هذه المرة الاولى التي يتجرأ فيها على التأخر! ستتذكر انك عطشان فتفكر بأن تطلب كأس حليبك الصباحي المعتاد الساخن والمحلى بالعسل. ستشرع في تحريك لسانك متخيلاً طعم الحليب فتنبثق صورة امك وهي تعاتبك على امر غامض لا تتذكره. حينها سيعود من جديد كابوس الطوفان الكاسح والضباع التي كانت تطاردك فتحس بالقرف. تضغط الزر وتصرخ منادياً اتباعك: - لك هاي وينكم ... ماكو احد؟! سيسقط رأسك على المخدة بينما يدك مستمرة على الزر. هذه المرة الاولى في حياتك تحس بهذا القدر الهائل من الكآبة والانقباض، فتفكر بأنك ربما مريض. ستستعيد بعض احداث يوم امس التي قد تكون ساهمت في تعكير مزاجك: عندما استلقيت على فراشك في حوالى الحادية عشرة مساء، تذكرت قائمة المحكومين بالاعدام، فناديت على حارسك ان يجلبها لك، ثم عاينتها مرة اخرى وترددت ازاء اسم ضابط شاب اصله من قريتك. تذكرت امه التي كتبت لك طلب استرحام وذكرتك بأنها الطفلة الوديعة التي كانت تلعب معك ايام الطفولة. على رغم ذلك فانك وقّعت على كل الاسماء والقيتها الى حارسك ثم تصفحت الجريدة وغفوت. لكن حارسك مازال غائباً. ستستغرب الأمر وتتصاعد فيك مشاعر شك غريب، فتتناول مسدسك وتقفز من سريرك، بدشداشتك البيضاء التي احتفظت بعادة النوم بها منذ طفولتك. ستتجه نحو الباب وانت تصرخ بالحراس ولا مجيب ... لا احد ... لا أحد! في الحمامات وفي الممرات وفي القاعة الكبيرة ... لا احد لا احد! تفتح النافذة المطلة على باحة القصر ... لا احد! ستبدو اشجار الحديقة وعشبها متيبسة ومصطبغة بحمرة الفجر المتوهج عند ضفاف دجلة. لا أحد غير كلاب تسرح هنا وهناك. ستستغرب المشهد: الكلاب الكلاب ماذا تفعل!؟ عندما تتمعن جيداً ستكتشف هول الكارثة: ليست كلاباً بل هي ضباع... نعم ضباع! حينها، ستجتاحك رجفة كالصاعقة وتسري قشعريرة حمّى في روحك، مدركاً الحقيقة المرعبة: إن كابوسك لم يكن حلماً بل ها هو يتجلى امامك واقعاً لا يرحم. ستزفر بقوة وتصرخ: ولكم... وينكم ياجماعة. ماكو احد... ماكو احد؟! لا احد... لا احد سيجيبك يا صدام. صرختك ستتردد في ارجاء الفضاء ليعود صداها ممتزجاً بعويل ضباع ونعيق غربان. من دون تفكير سترتمي على الهاتف وتبدأ الاتصال بأتباعك ، ولا من مجيب. ترن الهواتف فتصدح في اذنك معتمة خانقة. حينها ستفكر بزوجتك ام عدي وبأبنائك، فتتصل بجميع هواتفهم، ولا مجيب. وعندما تغمض عينيك ستشاهد داخل رأسك خاوياً يصدح بنواح موحش يذكرك بندابات الوطن. فترمي الهاتف وتقفز نحو السلم لكي تهبط، لكنك ستتردد كثيراً. ستركض مرتعباً في ممرات القصر وأنت تصرخ: ماكو احد... ماكو احد...، فلا تسمع غير صدى استغاثاتك. بعد زمن من الدوران في متاهات قصرك الجمهوري سوف تتعب وتلقي بنفسك مجهداً على حافة احدى النوافذ. ستشاهد تحتك نهر دجلة تفيض مياهه حمراء فوارة. سوف تكتم انفاسك وأنت ترى بغداد تمتد على مدى البصر والدخان يتصاعد من بقاياها الغريقة. لا شيء غير الطوفان وحشود ضباع وغربان تحوم ناعبة. حينها ستلمح سيارة بيك آب واقفة تحت الشرفة. ستتناول احد الرشاشات المهجورة وتهبط بسرعة. عند الباب المطل على الخارج سترتمي عليك الضباع، لكنك ستفتح رشاشك عليها من دون ان تنتبه انها لم تكن تبتغي مهاجمتك بل الالتفاف حولك مثل الكلاب حول سيدها. ستطلق رصاصك نحو الارض والسماء وأنت تصرخ وتهاوش وتقفز نحو السيارة وتقفل الباب عليك وتنطلق بها بسرعة عاصفة، ساحقاً في طريقك ضباعاً وغرباناً صدمت الزجاج الامامي ولطخته بالدماء. لا تدري الى اين تتجه. لا تفكر الا بالابتعاد عن مياه الطوفان الزاحفة التي تغمر كل الطرق. ستندهش وأنت تشاهد من بعيد نصب الجندي المجهول اختفت منه قبته الخضراء المشطورة، ومقر القيادة القومية يتعالى منه الدخان. ستفكر ان تتجه شمالاً الى مدينتك تكريت، لكن الطوفان القادم من الشمال يغلق الطرق والجسور. تجد نفسك تتجه نحو الجنوب وتسلك طريق المطار الدولي. لا احد... في كل مكان. لا احد غير الضباع والغربان والطوفان المتصاعد. ياألله... كم سيبدو لك آنذاك الوطن كئيباً موحشاً بلا انسان. لكنك ايضاً ستعترف في تلك اللحظة برغبة دفينة ما ظننت انها ستظهر يوماً هكذا ساطعة صريحة: هذا هو الوطن الذي كنت تريده منذ ان وطأت روحك ارضه. نعم. ارض قاحلة بلا حياة او بشر الا من عويل ونعيق وخواء. وطن من موت! لولا ارتباكك لما ترددت حينها ان تطلق صرخة انتشاء راحت تصول في اعماقك. لن تعير أي اهتمام لبقع الدم المتناثرة داخل السيارة، والقيود المرمية الى جانبك، لأنك تعرف انها تابعة لاحدى مجموعاتك الخاصة. ستشعر بتفاقم انقباضك وتشاؤمك. حينها ستتذكر فكرة لعينة سبق ان قرأتها في صحيفة ولم تهتم بها بوقتها: ان الموت لا يفاجئ الانسان ابداً، بل نحن نستعد له ونرغب به قبل اشهر من حدوثه! لا تدري لماذا عادت اليك فجأة هذه الفكرة؟ ستستعيد هواجس الموت التي راحت منذ اشهر تنمو في روحك مثل نبتة اخطبوطية تمد فروعها بين شرايينك. ستستعيد علاقتك التاريخية مع الموت. ستتذكر ذلك الطبيب النفسي الذي استشرته منذ فترة عن سر الكآبة التي راحت تنمو بطيئة في اعماقك. بعد جلسات عديدة، انخدع بكلامك واصرارك على معرفة السبب، فصرح لك بالحقيقة التي تحاشيت سماعها طيلة حياتك: - انت يا سيدي تعاني من هوس الرعب، ليس من الموت، بل من الحياة. انت تدرك في اعماقك ، وحتى قبل ولادتك، بأنك طفل غير مرغوب فيه. لهذا يا سيدي عليك ان تتصالح مع الحياة. سر كآبتك انك مع ايام العمر بدأت تدرك أن أوان التصالح قد فات و... وقبل ان يكمل كلامه صمت عندما رأى نظراتك قد استحالت الى حجر. بقيت انت صامتاً ولم تجبه بل اشرت اليه برأسك ان يغادر، لكنه كما تعرف غادر ولم يعد الى بيته ابداً، بل ما زال هناك يرقد في بقعة مهجورة من ارض الوطن المنثورة بقبور ضحاياك. .... كم سترغب وأنت في الطريق الى بابل، ان تدخن سيجارك الكوبي الذي ظل صديقك الوفي كاسترو يبعث به اليك دائماً. لكنك عندما تفتش في ثنايا السيارة ستجد علبة سجائر اجنبية وبضعة اشرطة اغان وقنينة شراب مستكي. سوف تدخن وتحتسي الشراب وأنت تستمع الى الاغاني العراقية الحزينة، وسيارة البيك آب منطلقة بك في اقصى سرعتها. على رغم الكآبة المهيمنة على روحك لن تشعر بالحزن بل بنوع من الرغبة الجياشة لبلوغ غاية كنت تنتظرها منذ زمن بعيد. على رغم محاولتك ان تتساءل عن مصير عائلتك وابنائك واتباعك، الا ان صورة امك ستظل هي المهيمنة على شاشة رؤاك. ستنساب منك، ولأول مرة، دموع حارة صادقة وأنت تستعيد طفولتك القاسية اليتيمة ... عبر نافذة السيارة ستشاهد الضباع منتشرة في انحاء الوطن. ستراها تحدق فيك بألفة وخنوع مثل الكلاب. لكن ذلك لن يمنعك من الاستمرار بسحقها بسيارتك، وأنت تدمدم بشتائم غاضبة مصحوبة بذكريات انبثقت من اعماق طفولتك البعيدة. ستتذكر جيداً ذلك الفجر عندما كنت في الطريق الذي يربط بين قريتكم ومدينة تكريت. مسافة ساعات من المسير كنت تقطعها يومياً ذهاباً الى المدرسة وعودة. كنت تخطو في الطريق وحيداً حزيناً، تفكر بأبيك المفقود وخالك القاسي الذي ما زالت آثار صفعاته على وجهك. كنت تشعر بشتائمه ضد والديك تحفر في قلبك الطفولي جراحاً اقسى بكثير من صفعاته الحامية. فجأة وجدت نفسك وحيداً بين الضباع. احاطتك وأنت لا تملك غير المكوار العصا وسكين سرقتها من الجيران. ناوشت هنا وهنالك وقاومت ببسالة. انتثرت كتبك ودفاترك. صرعت ثلاثة منها وأنت تهاوش وتناوش بمكوارك وسكينك وتعض بأسنانك. لكن الضباع كانت كثيرة. نعم كثيرة وأنت وحيد يا صدام، بلا ام ولا اب، ولا حتى انسان يحميك ويحنو على طفولتك المنبوذة المعذبة... لا احد. انت وحيد بين ضباع غدارة تكالبت عليك وراحت تنهش لحمك وأنت تصرخ وتصرخ حتى فقدت تماماً احساسك بأوجاع لحمك المنهوش. لم يبق غير ان تفقد كل أمل بالمقاومة وتسلم مصيرك الى القدر المحتوم فتتكور على نفسك حاشراً رأسك بين احضانك. لكنك في اللحظة الأخيرة التي كنت فيها تفقد تماماً كل قواك، وأنت تحس بأحد الضباع يحاول ان يبعد بفكه يدك لينهش وجهك، شممت رائحة العفن والموت من لعابه الذي بللك. فجأة ومن دون أي سبب واضح تذكرت امك. نعم تذكرت امك وتذكرت معها الحقيقة التي سوف تقلب كل حياتك: انك ابداً لن تأسف على نفسك ان تلتهمها الضباع، لكنك تأسف كل الأسف ان تموت من دون ان تضع رأسك في احضان امك. فقط ان تضع رأسك على صدرها وتتغطى بفوطتها وتشم رائحة شعرها، بعدها لن يهمك ابداً ان تنهش بدنك كل آفات الكون. فقط عندما تذكرت امك في تلك اللحظة بدأت تحس لأول مرة بأوجاع انياب الضباع. من دون ان تدري كيف سرى فيك نبض الحياة ومن اين اتاك ذلك الجبروت لكي تنهض وتنتفض وتطلق صرخة وحشية متفجرة من اعمق اعماقك، ومفعمة بكل مكنون كيانك: - يمى... يمى تعاليلي... يمى خلصيني. كانت صرختك من العنف بحيث ان الضباع نفسها لم تعرف مثيلها ابداً حتى تجاوز تأثيرها حدود المتوقع، فما كان منها الا ان تبتعد قليلاً فقليلاً وهي ترمقك بنظرات غريبة ليس فيها أي اثر للنهم والافتراس بل فيها الكثير من التودد والخنوع. حتى الآن لم تجد التفسير المعقول للأمر. هكذا حدث لك انت الفتى المنهوش الثياب والبدن والروح، المعفر بالدم والتراب وبقايا الضباع. لم تكن تشعر بأوجاعك، بل كان يغمرك احساس لذيذ بأنك خرجت تواً الى الحياة. ان ولادتك الحقيقية بدأت الآن بين انياب الموت وغدر الحياة. منذ ذلك اليوم لم تشعر ابداً بالخوف وأنت تسلك طريقك وحيداً، لأنك تيقنت في اعماقك بأن الضباع صارت تهابك، وانك لن تهابها ابداً في حياتك. صارت عندما تراك تلهث وتحوم حولك مثل الكلاب، وأنت تعاملها بكل احتقار، منذ لحظة نجاتك ادركت بأنك امتلكت تلك القوة الروحية التي تؤهلك للسيطرة على كل الضباع، بل على الرجال الذين يشبهون الضباع. وكما ترى يا صدام ان القسوة لا تخلق الا القسوة مثلما الموت لا يخلق الا الموت. منذ ان نجوت من تلك النهاية المحققة عرفت ان ملاك الموت عقد اتفاقه الأسطوري معك: عليك ان تقدم له القرابين لكي يؤجل حتفك. تقدم له الاضاحي كل يوم كي يتركك حياً. لقد اصبحت متعتك الكبرى ان تنتقم من الحياة. ان تستمد حياتك من موت الآخرين وقيمتك من عذاباتهم. وعندما يشتد بك الحنين الى امك وتزيد الحياة من قسوتها عليك، كنت تلجأ الى الحيوانات. وجدت عزاءك في تعذيب القطط والكلاب . تلاحقها وتضربها وتنصب الشباك لاصطيادها ثم بالفأس تكسر اقدامها وترجمها وتسحلها وتحرقها، وبعد ان تتعب كنت تلقيها في المستنقعات، وتمضي الساعات في مشاهدة عذابات غرقها واحتضارها. بعدها تحس بالراحة والأمان. بعض الاحيان كنت تأخذ تلك القطط والكلاب الجريحة وتلقيها الى ضباعك فتسارع الى نهشها بلا رحمة .... لكن الحياة في بغداد جعلتك تدرك ان الضباع يمكن ان ترتدي جلود بشر. لم تستقبلك هذه المدينة بأحضانها ومباهجها كما كنت تنتظر، بل رفضتك بكل قسوة واطلقت عليك احكامها الجائرة وأنت الريفي اليتيم. كان الأولاد يسخرون من شكلك ومن لهجتك ومن ثيابك، بل حتى اسمك جعلوك تكرهه، وكم رغبت بشدة ان تغيره. لكنك بفضل امك ادركت انه يناسبك تماما. قالت لك بثقة: يا وليدي هو اسم على مسمى، حتى اقنعتك بأنك حقاً الفتى الصادم والضارب والماحق للحياة. في بغداد ادركت انه ما من ضباع تنتظرك في الطرق، بل بشر اشد فتكاً وغدراً من الضباع ينتشرون في الطرق وزوايا الحياة، فعرفت انك لكي تظل حياً عليك تدجينها مثلما دجنت ضباع تكريت وحولتها الى كلاب ذليلة مطيعة. لهذا حافظت على حمل السكين، بل رحت تحمل معها ايضاً مقبض حديدي مسنناً، مزقت به عشرات الوجوه ونشرت الرعب في المدرسة وفي المنطقة حتى راح يهابك الجميع صغاراً وكباراً بمن فيهم المدرسون. احطت نفسك بمجموعة من الاتباع الضباع تمارس عليهم سطوتك وجبروتك لينهشوا بلا رحمة من تشاء. وما ان قوي عودك حتى طلبت من خالك مسدساً وأبديت له استعدادك ان تقتل احد اعدائه الشيوعيين وهو من ابناء عمومتكم. عندما افرغت رصاصاتك في جسمه وسقط امام بيتهم وبدأت زوجته بالصراخ والنحيب، احسست حينها يا صدام بلذة غريبة، وفي اليوم نفسه وأنت مختبئ في احد بساتين دجلة اكتشفت لأول مرة نشوة رجولتك وأنت تستعيد مشهد نزيف الضحية ونحيب الزوجة! وأنت في السيارة تشق الطريق الى بابل، ستتأفف من كل تلك الذكريات يا صدام. لم تكن تهتم في طريقك بالمدن والقرى المتناثرة، فهي تشبه بعضها البعض مهجورة بائسة كئيبة تسرح في طرقها الضباع وتعلو سماواتها الغربان والدخان. لكن، فجأة سيسود شعور أنك بلغت مرامك وأنت تجد نفسك امام مقبرة النجف. ستشعر كأنك سبق ان عرفتها على رغم انها المرة الاولى التي تراها في حياتك. وقبل ان تبتعد كثيراً في السؤال ستدرك أنها مقبرة كابوسك! ستهبط من السيارة فتحيط بك الضباع كعادتها القديمة، تحوم حولك كالكلاب. كما في كابوسك ستبدو القبور على مد البصر، كأن البشرية كلها مدفونة في النجف. كم من القبور انت المسؤول عنها: ملايين قضوا نحبهم بالاغتيال وبالاعدام والتعذيب، بالاضافة الى الحروب والمجاعات. قبور فوق قبور، وقبور تؤدي الى قبور، وقبور تحاذي قبوراً. فجأة ستنتبه الى ان الطوفان راح يقترب ويغمر القبور بأمواجه العملاقة وهي تأتيك فاتحة اشداقها كوحوش كاسرة تلتهم الضباع وتطاردك انت ايضاً. سوف تركض واثباً بين القبور وهي تنخسف بك واحداً بعد الآخر. وأنت في حيرتك ستشاهد من بعيد، كما في الكابوس، امك شامخة بين القبور تناديك لتؤويك في احضانها، فتركض وتركض والضباع تحوم حولك مرتعبة لاهثة، تسقط وتتعثر بالقبور المنخسفة والمياه تغمر الطريق الى امك، لكنك ستقاوم وتقاوم وأنت تصرخ طالباً منها العون. ستزحف وتزحف حتى تبلغ امك التي ستأخذك في احضانها الحارة المعتمة وتؤويك معها في اعماق حفرتها. آنذاك فقط يا صدام ستنتابك مشاعر بالأمان لم تعرفها ابداً في حياتك كلها. بينما احضان امك تبتلعك والطوفان يغمرك لن تنتبه في تلك اللحظة الى زهور شقائق النعمان في كل مكان راحت تشق القبور وتطفو على سطح الطوفان فتمتزج حمرتها بشعاع الصبح المتصاعد لتضفي على الوجود الواناً قزحية مثل ألوان الحياة. * كاتب عراقي مقيم في جنيف.