الولايات المتحدة اجترحت معجزة في العراق: جعلت الناس يترحمون على نظام صدام حسين. بعكس أخينا وليد جنبلاط، سرّتني نجاة بول وولفوفيتز، نائب وزير الدفاع الأميركي، من قصف فندق الرشيد، فأنا أتمنى له ولبقية العصابة من المحافظين الجدد ان يعيشوا ليروا نتائج الجريمة التي ارتكبت بحق العراق وشعبه تحت ستار إطاحة نظام جائر مجرم. وسمعنا في الاثنتين وسبعين ساعة الماضية عن كل قتيل أميركي في العراق ألف مرّة، الاّ ان عدداً أكبر من العراقيين قُتل في الساعات نفسها، ولن نسمع عنهم الاّ في سياق الخبر فكأن دماءنا حلال لهم. نعرف اليوم في شكل نهائي قاطع ان أسباب الحرب كانت كاذبة كلها، مزوّرة وملفّقة، وما بني على الكذب لا يمكن ان يكون لخير. ونعرف أيضاً ان جبل الكذب بناه المحافظون الجدد خدمة لاسرائيل، فهم سعوا الى تدمير العراق مع صدام حسين، وما يحدث بالتالي قد لا يضيرهم كثيراً، مع اننا لن نسمع اعترافاً منهم، ولا نستطيع ان نثبت ما في قلوبهم. أين ذلك الوضع "الرائع" في العراق الذي تحدث عنه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد؟ أين ذلك البروفسور التاعس الذي نسي أصله والذي زعم ان العراقيين سيستقبلون جنود الاحتلال بالأحضان؟ أين نهاية الحرب التي بشّرنا بها الرئيس بوش قبل خمسة أشهر كاملة؟ إذا كانت دماؤنا مستباحة، فأنا أحمِّل المحافظين الجدد المسؤولية كاملة عن دماء كل قتيل أميركي في العراق منذ نشوب الحرب وحتى اليوم. لماذا يموت شاب من بيوريا في بغداد أو غيرها؟ ما هو الهدف الذي حققه؟ من استفاد من موته؟ أخشى ان الوضع الكارثي في العراق سيفيض علينا جميعاً لأن المحافظين الجدد الذين ضبطوا متلبسين بالكذب لم يعودوا الى جحورهم ليتواروا عن الأنظار، وإنما هم يلفّقون كذباً جديداً ضد سورية وايران وكل بلد يعارض هيمنة اسرائيل على الشرق الأوسط، لذلك أتوقّع كوارث جديدة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. أتوقف لأقول انني لا أكتب منتقداً الولاياتالمتحدة، بل مدافعاً عنها، فالمشكلة ليست أميركا والأميركيين، وإنما حفنة من الصهيونيين الليكوديين الشارونيين غير المنتخبين الذين خطفوا السياسة الخارجية الأميركية لخدمة اسرائيل على حساب أرواح الأميركيين أنفسهم كما نرى في العراق كل يوم. وأكتب كمواطن عربي لا يمثّل سوى نفسه، وأيضاً بحكم علاقتي الشخصية بالولاياتالمتحدة. أخواي وأختي وأبناؤهم وأمي وابني يحملون الجنسية الأميركية، وقد تعلمنا جميعاً في مدارس أميركية وجامعات. وأنا شخصياً أحب كل ما في الولاياتالمتحدة شعباً وأرضاً. وأستطيع ان أؤيد السياسات الأميركية السياسية والاقتصادية والاجتماعية علناً ومن فوق السطوح. وكل اعتراضي يتركّز على جزء من السياسة الخارجية الأميركية، جزء واحد لا مجمل هذه السياسة التي أؤيدها في أوروبا والبلقان وافريقيا وغيرها. اعتراضي الوحيد هو على ذلك الجزء من السياسة الأميركية الخاص بالشرق الأوسط، فقد نجحت اسرائيل وعملاؤها في واشنطن في ترويض هذه السياسة لخدمة اسرائيل، ولمعاداة العرب والمسلمين، مهما حاولت ادارة بوش إنكار ذلك. الاسرائىليون ما كانوا استطاعوا قتل الفلسطينيين وتدمير حياتهم، وما كانوا هددوا كل بلد حولها، لولا الدعم الأميركي الكامل الذي يجعل الادارة الأميركية شريكة في الجريمة الاسرائىلية. وكنت أتابع أحداث العراق، وأتفرّج على بعض من برنامج قدّمه توماس فريدمان عبر محطة "سي إن إن" محاولاً تفسير كره العرب والمسلمين أميركا بما يناسب التزامه العضوي باسرائيل. فريدمان أبعد الناس عن المحافظين الجدد، ويستطيع العربي ان يعقد سلاماً معه بسهولة، ومع ذلك سمعت شيئاً عجباً في برنامجه الذي لم يخل من لقطات ايجابية أو مؤلمة بصدقها، فهو قرر ان العرب والمسلمين يكرهون الولاياتالمتحدة لأنها تؤيد الأنظمة التي يعارضونها. ترجمة هذا السم المخلوط بالدسم عندي هي ان مقدم البرنامج يستعدي حكومة بلاده على الدول العربية المتحالفة معها أو الصديقة، فهي سبب كره الولاياتالمتحدة، لا دولة الجريمة النازية اسرائيل. وهكذا فالمحافظون الجدد يستعْدون الولاياتالمتحدة على الدول المعارضة لها في المنطقة، وكاتب وسطي ليبرالي يستعديها على الدول الصديقة. أستطيع ان أقلب معادلة توماس فريدمان على رأسه فأقول انني كمواطن عربي، مرّة أخرى، أريد ان أرى تغييرات ضمن بعض الأنظمة العربية، وأريد ان تتغير أنظمة أخرى، أي ان تزول، ولكن اذا كان البديل هو ما نرى في العراق، فانني أفضّل النحس الموجود. بكلام آخر، الادارة الأميركية الحالية جعلت المواطن العربي العادي جداً يدافع عما عنده من أنظمة وينتصر لها، خشية ان "تزف" إليه ادارة المحافظين الجدد حكماً من نوع ما نرى في العراق الآن. وأختتم بمعلومات توافرت لي عن خلفية استهداف بول وولفوفيتز في بغداد: اجتمع عدد من أبرز الأميركيين في السلطة الموقتة للتحالف مع أربعة جنرالات عراقيين في آب اغسطس الماضي في قصر صدام حسين قرب الجسر المعلّق. وبعد ستة اجتماعات أو سبعة اتّفق الطرفان على ان يدفع الأميركيون مرتبات الجنود السابقين، وهي ضئيلة من نوع 20 دولاراً في الشهر، لحاجة هؤلاء الجنود الى إطعام أسرهم. وسلّم الجنرالات ديسكات كومبيوتر بالأسماء والرتب لنحو 430 ألف جندي. وقال المفاوضون الأميركيون ان العرض معقول، الا انهم بحاجة الى موافقة واشنطن. الا ان الردّ جاء من بول وولفوفيتز برفض أي اتفاق والاصرار على المضي في إزالة مظاهر البعث وتسريح الجيش السابق. ويبدو ان وولفوفيتز لا يزال يستمع الى نصح أحمد الجلبي وينسّق معه. وقال الجنرالات العراقيون، الذين رفضوا القتال في بغداد ما سهّل سقوطها، للأميركيين، انهم أخطأوا برفض العرض، وسيدفعون الثمن.