افتتاحيات جريدة "الاهالي" العراقية التي كتبها كامل الجادرجي في الفترة بين عامي 1944 و1954 تصدر قريباً في كتاب عن دار الجمل - ألمانيا في عنوان: "في حق ممارسة السياسة والديموقراطية"، أعدها للنشر مركز الجادرجي للأبحاث وقدّم لها المهندس المعماري المعروف رفعة الجادرجي بدراسة عنوانها: "تنشئة النظام الديموقراطي وإحباطه في العراق". وفي هذه المرحلة القلقة التي يجتازها العراقيون يطرح الكتاب في الوقت المناسب، وحين تندر المثالات، صورة سياسي عراقي ديموقراطي كان يشكل مع نوري السعيد طرفين متعارضين في رؤية العمل السياسي وتطوير الدولة العراقية الوليدة وتحديثها. تنشر "الحياة" مقاطع من الكتاب بالاتفاق مع الناشر، وهنا الحلقة الرابعة. انتهت الحرب العالمية الثانية أواخر عام 1945 فكان ذلك فرصة لحدوث تغييرات سياسية في العراق أملتها الظروف الناشئة عن انتصار الجبهة الديمقراطية ضد الفاشية وما كان يُتوقع من تحقيق بعض المبادئ التي كانت تبشر بها في الديمقراطية وتحرير الإنسان من الجوع والخوف والاستبداد. وكانت الفئة الحاكمة في البلاد، ومن ورائها الإدارة البريطانية، تدرك ضرورة إجراء شيء من التنفيس للناس في الميدان السياسي وإفساح المجال للكتل السياسية المختلفة للمشاركة في العمل العام بالتمهيد لإجازة تأليف الأحزاب وفق ما نص عليه الدستور، بعدما تعطلت أكثر من عقدٍ من السنين. إلا أن هذه الضرورة لم تكن واضحة بالنسبة إلى نوري السعيد وزمرته، ولا يمتلك المرجعية الفكرية لقبولها والتعامل معها. وحينما كان يضطر لمسايرتها فعلى مضض. وبقدر ما كانت واضحة أهمية الإصلاحات السياسية والإدارية بالنسبة الى البعض من رجال الإدارة البريطانية، الا انها لم تكن حالة ملحة، لأن الأولويات عندهم هي المصلحة العسكرية والاقتصادية لبريطانيا. وكتبت السفارة الأميركية في بغداد إلى واشنطن: "... إن الشخص الذي يقع عليه اللوم الأكبر عن هذه الحالة المزرية هو رئيس الوزراء نوري السعيد الذي يتجاهل مصالح الجماهير وجعل الناس تعتقد بقوة بأن البلاد تحكم من قبل فئة من الابتزازيين". إجازة الأحزاب في أواخر كانون الأول ديسمبر 1945 ألقى عبد الإله الوصي على عرش العراق في بهو أمانة العاصمة خطاباً أمام جمع من النواب والأعيان ورجال السياسة استعرض فيه كثيراً من شؤون السياستين الخارجية والداخلية. وجاء في ذلك الخطاب "ان الأحزاب والهيئات السياسية والوطنية التي لم يعد يصح بقاء البلاد خالية منها ستتقدم إلى الأمة بخططها ومناهجها في معركة الانتخابات، فمن فاز منها على سواه بثقة الشعب وتأييده اضطلع بالحكم ونهض بمسؤولية تنفيذ تلك السياسة الوطنية، على طريقته الخاصة الموضحة في منهاجه الذي يكون قد عرض مفصلاً على الناخبين ونال ثقتهم وتأييدهم". وكانت هذه إشارة واضحة من السلطة الحاكمة للقوى السياسية المختلفة بأنها ستكون مستعدة لإجازة بعض الأحزاب للعمل علناً ووفقاً لبرامجها المجازة. كانت "الأهالي" ترصد هذه التطورات وتنشر أخبارها وتعلق عليها، وتمهد للبدء بمرحلة جديدة من العمل الصحافي المتحرر من القيود كما هو موعود. كما استعدت "جماعة الأهالي" مع آخرين لإعداد منهج لحزب جديد في عهد وزارة توفيق السويدي الثانية التي تألفت أواخر شباط فبراير 1946، وتقدم كامل الجادرجي ومحمد حديد وحسين جميل وعدد آخر من الجماعة بطلب الى وزارة الداخلية في الخامس من آذار مارس من العام نفسه لتأسيس "الحزب الوطني الديمقراطي"، وأرفقوا بطلبهم منهاج الحزب الذي نشرت الجريدة نصه. وفي الثاني من نيسان ابريل أجازت الوزارة الداخلية تأليف الحزب، كما أجازت تأسيس أربعة أحزاب أخرى منها "حزب الشعب" برئاسة عزيز شريف و"حزب الاتحاد الوطني" برئاسة عبدالفتاح إبراهيم و"حزب الاستقلال" برئاسة محمد مهدي كبة و"حزب الأحرار" برئاسة توفيق السويدي. وبعد يومين نشرت الجريدة مقالاً افتتاحياً جاء فيه: "... تقع على الأحزاب التي تألفت الآن في العراق مسؤولية كبيرة هي العمل من أجل إكمال استقلال البلاد وسيادتها الوطنية وتحقيق الحياة النيابية الصحيحة وإنقاذ الشعب من الحياة البائسة". وظلت الجريدة تعبر عن آراء الحزب وتسير على نسقها السابق، لكن جملة "لسان الحزب الوطني الديمقراطي" لم تظهر على صدرها إلا اعتبارا من 19 تموز يوليو 1946. وانتقل الكثير من احترام الناس للجريدة، الذي اكتسبته خلال كفاحها الطويل، إلى الحزب نفسه، فكان ذلك رصيداً له لم يكن لدى الأحزاب الأخرى مثيل له. وما ان أخذ الحزب يمارس أعماله حتى أجرت الجريدة تطويراً على التقليد الذي سارت عليه منذ صدورها مطلع الثلاثينات. وبعدما كانت المقالات الافتتاحية تظهر من دون ذكر اسم كاتبها، صارت أسماء كتاب معظم هذه المقالات تتصدر مقالاتهم. ولهذا التطوير ما يبرره نظراً الى تغير الظروف من جهة، ولضرورة تعرّف القراء على هوية الكتاب وهم من أعضاء الحزب الجديد. وكان الكثير من المقالات الافتتاحية السياسية يكتبه كامل الجادرجي وبلغت المئات عدداً. أما المقالات الاقتصادية فكانت بقلم محمد حديد، في حين كانت المقالات التي تعالج الشؤون القانونية بقلم حسين جميل. وظهرت كذلك مقالات أخرى كتبها أعضاء آخرون في الحزب. أخذت الجريدة تشتد في معارضتها لسياسات الفئة الحاكمة بعد انتهاء الحرب التي كانت تبرر شيئاً من التخفيف في حدة النقد. وبدأت الحكومة من جانبها تبدي امتعاضاً متزايداً مما تنشره "الاهالي" من آراء، وكأن الوضع صار مصداقاً للقول المعروف: "إذا زال المانع عاد الممنوع". فالمانع الذي زال كان متمثلاً بظروف الحرب التي جعلت الحكومة تلتزم حدوداً لا تتعداها، أما الممنوع الذي عاد فهو مخالفة نصوص الدستور والقوانين التي اعتادت عليها الفئة الحاكمة، بما في ذلك تزوير الانتخابات ومضايقة جهاز الحكومة للصحف، ل"صوت الأهالي" خصوصاً، وكانت تراوح بين الإنذار والتعطيل، كما كانت تخرج عن هذا النطاق إلى إقامة الدعاوى على الجريدة ومحاكمة مديرها المسؤول كامل الجادرجي. وكانت الجريدة تواجه التعسف بمزيد من الثبات على الرأي والجرأة في التعبير والإصرار على تحقيق المطالب الوطنية وعلى رأسها انبثاق نظام برلماني صحيح بما فيه من أحزاب فاعلة ومعارضة وحريات للصحافة والأفراد وإلزام الحكومة بنصوص الدستور. وكان من شأن مواقف الجريدة تلك اكتساب المزيد من ثقة القراء واحترامهم. بدأ نقد الجريدة لسلوكيات رجال الحكومة منذ بدء تشكيل حكومة السويدي التي أجازت الأحزاب، وتطورت في أواخر عهدها. فكتب الجادرجي مقالاً افتتاحياً في 16/4/1946، بعد أسبوعين من إجازة "الحزب الوطني الديمقراطي" في عنوان "رئيس الوزراء يميط اللثام عن ميوله الحقيقية ويقضي على منهاج وزارته"، وجاء تقريعاً للسويدي على تصريحات أدلى بها خارج العراق عن الحياة الديمقراطية فيه، وأبدى فيها إيمانه بأسلوب حكم النخبة المصطفاة. وأردف الجادرجي المقال بآخر في عنوان "أزمة" في 26/5/1946، قبل أيام من استقالة السويدي، تطرق فيه إلى أزمة قانون الانتخاب الذي جعل الدائرة الانتخابية أصغر حجماً مما كانت عليه وما رافق ذلك من مناورات في مجلس الأعيان لتعطيل المصادقة على ذلك القانون، ثم انتقل إلى معالجة مسألة أسلوب الحكم غير الديمقراطي والمخالف للدستور. وكان ذلك المقال السهم الأخير المسدد نحو حكومة السويدي. محاكمة الجادرجي بعد رحيل السويدي ألّف أرشد العمري حكومة جديدة زعمت أنها حكومة انتقالية لإجراء الانتخابات، فشككت فيها الجريدة بمقالات مختلفة. وما لبثت الوزارة الجديدة ان بدأت حملتها ضد الصحافة فعطلت ثلاث جرائد سياسية ووجهت انذارات متلاحقة إلى جرائد أخرى. وانبرى الجادرجي للتصدي إلى هذا التوجه بعد الانفراج الجزئي السابق في العمل الصحافي، فكتب في "صوت الأهالي" في 23/6/1946 مقالاً افتتاحياً في عنوان: "حرية الصحافة جزء من حرية التنظيم السياسي"، وافتتاحية أخرى في عنوان "الغاية الخفية وراء خطة الحكومة الحاضرة" في 10 تموز يوليو. وتضمنت المقالات انتقادات شديدة لسلوكيات العمري فضلاً عن معارضة سياساته وإجراءاته اللادستورية. وتوالت الأحداث التعسفية في عهد وزارة العمري، ففي 28 حزيران يونيو 1946 خرجت تظاهرة احتجاجاً على ما كان يجري في فلسطين، وكان وراءها حزب التحرر الوطني وعصبة مكافحة الصهيونية، وهما من واجهات الحزب الشيوعي غير المجاز. وتصدت الشرطة للتظاهرة وأطلقت النار على المتظاهرين فوقع عدد من الضحايا بين قتيل وجريح، فنشرت "صوت الأهالي" في 30 حزيران بيان "الحزب الوطني الديمقراطي" الذي طالب بالتحقيق في الحادث من قبل هيئة عليا. كما نشرت في 4 تموز احتجاج الأحزاب الخمسة المجازة المرفوع إلى رئيس الوزراء والذي طالبت فيه بإطلاق المعتقلين والإسراع في التحقيق وإعادة النظر في سياسة الوزارة لإطلاق الحرية للصحف والامتناع عن تضييق الحريات العامة. ثم وقعت حادثة كاوور باغي المعروفة في كركوك اثر إضراب عمال شركة النفط في 3 تموز 1946 للمطالبة بحقوق متعددة. واستمر الإضراب حتى 12 من الشهر نفسه عندما عقد اجتماع في كاوور باغي، ففرقته الشرطة بالقوة وقتل عدد من العمال وجرح آخرون. احتجت الأحزاب على الحادث الخطير، ونشرت "صوت الأهالي" مقالاً احتجاجيا شديد اللهجة ضد الحكومة، كما نشرت في باب "بريد الأهالي" مقالاً في عنوان: "إطلاق الرصاص على المتظاهرين"، جاء فيه "إن أرواح العباد عندنا توكل إلى شرطي وضعوا في يمينه مسدساً وقالوا له دونك المتظاهرين فأطلق عليهم النار". وهكذا أعد المسرح مجدداً لمسلسل الاستقطاب المتفاقم بين الفئة المستأثرة بالحكم، وقوى المعارضة ومن أهم عناصرها "صوت الأهالي" و"الحزب الوطني الديمقراطي". ولا شك في أن المسؤولية الكبرى لهذا الاستقطاب تقع على الفئة المتشددة التي كان يرأسها نوري السعيد. ولا شك في أن الحكومات المتعاقبة، ومن ورائها الإدارة البريطانية، لو كانت أكثر التزاماً بنصوص الدستور، لما حصل هذا الاستقطاب في إدارة شؤون المجتمع العراقي وما كان ليؤدي إلى مرض احتكارها المزمن للسلطة وعنفها تجاه المعارضة، والذي أدى إلى مرض المجتمع العراقي في قبول العنف كردود فعل، وممارسته في مختلف صعد العيش. كان رد حكومة العمري على حملة "صوت الأهالي" باقامة ثلاث دعاوى جزائية على صاحبها ومديرها المسؤول كامل الجادرجي تتعلق بنشر ثلاث مقالات. وبدأت المحاكمات في 11 آب اغسطس 1946 أمام حاكم جزاء بغداد الأول خليل أمين المفتي، وأصدرت المحكمة خلالها قراراً بتعطيل الجريدة باعتبارها أداة جرمية، وكان هذا التكييف بدعة غريبة ومخالفاً لنصوص الدستور. أما آخر عدد من الجريدة صدر قبل التعطيل فكان في تاريخ 13 منه حاملاً مقالاً افتتاحياً بقلم الجادرجي في عنوان: "مكافحة الأحزاب وخنق الحريات الديمقراطية خطر على سلامة الدولة"، فصار هذا المقال بدوره موضوع دعوى رابعة أخرى أقامتها الحكومة على الجادرجي. استغرقت المحاكمات نحو أسبوعين، وتطوع للدفاع عن الجادرجي 39 محامياً من المعروفين في أوساط القضاء العراقي. وكانت تلك تظاهرة احتجاجية بدلالة سياسية واضحة. وكانت الأحكام التي صدرت في المرحلة الابتدائية في 13/8/1946 ضد الجادرجي بالسجن لمدة ستة اشهر واغلاق الجريدة في صورة نهائية مخالفة للدستور إضافة إلى أنها شديدة جداً في حق رئيس حزب معارض. ومع ذلك خفضت في مرحلة الاستئناف وأخيرا نقضت من قبل محكمة التمييز في 27 آب 1946. ومن المفيد الإشارة هنا إلى بعض ما جرى في تلك المحاكمات، إذ دخل قاعة المحكمة قليل من المستمعين ومنع الآخرون من الدخول وأصدر الحاكم أمراً بغلق باب المحكمة، فاعترض الدفاع مؤكداً أن الدستور وقانون أصول المحاكمات الجزائية أوجبا أن تجري المحاكمات في صورة علنية. كما اعترض الجادرجي موضحاً إن أهمية العلنية في المحاكمات لا تتعلق فقط بما ذكر في اعتراض الدفاع، ولكن أيضا برغبة الشعب في الإطلاع على سير المحاكمات. وبناء على ذلك قرر الحاكم أن تنظر الدعوى في صورة علنية وفتح أبواب المحكمة بالقدر الذي تسمح به قاعتها. ومع ذلك بقي الكثيرون خارج قاعة المحكمة وفي الساحة المقابلة لها في انتظار قرار المحكمة في الدعوى. وعندما وجد الحاكم خليل أمين المفتي أن ساحة المحكمة غصت بالجمهور أصدر قراراً بجعل المحاكمة سرية. عادت جريدة "صوت الأهالي" إلى الصدور في 1 أيلول سبتمبر 1946، فنشرت بالتفصيل وقائع المحاكمات والأحكام في ما يتعلق بالدعاوى الثلاث الأولى. أما الدعوى الرابعة فبدأت المحاكمة فيها في 17 أيلول واستمرت الإجراءات في مراحلها القانونية إلى ما بعد استقالة وزارة العمري. ولما ألف نوري السعيد حكومته التاسعة في 21/11/1946 وشارك فيها الحزب الوطني الديمقراطي أغلقت الحكومة الدعاوى المقامة على الجادرجي وجريدته. جاء اشتراك الحزب في وزارة السعيد بشروط وضعت من قبل قيادته، ورغبة منه في توطيد ديمقراطية الدولة عن طريق ضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة من قبل حكومة نوري السعيد بالذات. وكانت "صوت الأهالي" تنشر عن ذلك بالتفصيل، كما كانت نشرت الكتب المتبادلة بين الجادرجي والسعيد حول شروط المشاركة، وأهمها أن تكون الوزارة انتقالية تقتصر مهمتها على إجراء انتخابات حرة وإطلاق الحريات المنصوص عليها في الدستور كحرية الصحافة والاجتماع، على أن تزاول الأحزاب أعمالها القانونية وتفتح فروعاً لها بحسب ما يتطلبه عملها. لم تدم تلك المشاركة سوى شهر واحد، اتضح خلاله لقيادة الحزب أن الشروط التي وضعت لم تنفذ. فاستقال ممثل الحزب في الوزارة، محمد حديد، في 26/12/1946. وتدل هذه المشاركة على أن الجادرجي أراد أن يضرب مثلاً في المرونة السياسية في ظروفها الملائمة، وممارسة الحوار السياسي مع أي جهة كانت، وممارسة الحوار المتبادل وتهيئة الفرص للوصول لحلول وسط، أي ممارسة مبدأ مودس فيفندي "التسوية الموقتة"، وهو مبدأ ليبرالي أساسي. لكن نوري السعيد والفئة المستأثرة بالسلطة أثبتوا مرة أخرى أنهم لا يرغبون في ممارسة السلطة إلا بانتهاك نصوص الدستور، وكشفوا مرة أخرى عن فقدانهم أخلاقيات السلوك السياسي حسبما يتعين أن يمارس ويعرف في الأنظمة البرلمانية. فلجأ السعيد كعادته إلى إجراءات تعسفية، بما في ذلك تزوير الانتخابات وانتهاك الحريات الديمقراطية، وانتهك الاتفاق بينه وبين قادة "الحزب الوطني الديمقراطي". كما بينت هذه الأحداث أن هدف الحزب هو أساسا تحقيق حق ممارسة السياسة وليس الوصول إلى السلطة، وأوضحت مدى تمسك الحزب، كحزب معارض، بنصوص الدستور خصوصاً التي تخص الحريات الديمقراطية. ورمى اشتراك الحزب في الانتخابات إلى إمكان مراقبتها وفضح التدخل فيها، وكيف يقدم نوري السعيد على خرق الدستور. وكانت تلك التجربة مثار أخذ ورد بين المؤيدين والمعارضين لاشتراك الحزب في الوزارة مع نوري السعيد، ضمن تنظيمات الحزب وخارجه، بما في ذلك التنظيمات اليسارية كالحزب الشيوعي. فأقدمت الجريدة اثر ذلك على نشر وجهة نظر كلا الطرفين والردود عليها. وهذا مثال آخر على سلوكية النهج الديمقراطي، أي ممارسة آلية الحوار المتبادل الحر والعلني، حيث نشرت "الأهالي"الرأي المؤيد والرأي المخالف. كما أقدمت "صوت الأهالي" على نشر افتتاحيات متعددة توضح مسببات ذلك الاشتراك، وضرورة الممارسة السياسية، باعتبارها حقاً نص عليه الدستور، ومنها مقال في عنوان: "الانتخابات، رقابتها وفضح التدخل فيها"، وآخر في عنوان: "أوجه الخطأ في مقاطعة الانتخابات ولماذا يشترك حزبنا فيها"، وثالث في عنوان: "الاشتراك في الانتخابات جزء من نضال الأحزاب يجب ألا نتخلى عنه". وكانت الجريدة تنشر أخبار التلاعب في الانتخابات الجارية والواردة إليها من مختلف أنحاء العراق. كان نشر الاعتراضات والوثائق المتبادلة بين قيادة الحزب ونوري السعيد، تأكيداً من الجادرجي على أهمية الحوار المتبادل العلني في الممارسة السياسية في دولة تتمتع بدستور برلماني، وإن حصل ذلك التعامل مع حكومة لا يحترم رجالها مبادئ الدستور. فمن جهة كانت المشاركة تأكيداً على حق الحوار المتبادل العلني وحق الاشتراك في السلطة، ومن جهة أخرى، كان نشر الوثائق والسجال الحاصل حول اشتراك الحزب في السلطة تأكيداً على مبدأ شفافية الممارسة السياسية، وهما مقومان أساسيان في ممارسة آليات النظام الديمقراطي. وفي الشهر الذي شارك فيه الحزب بشخص نائب رئيسه محمد حديد في وزارة نوري السعيد التاسعة التي تألفت لإجراء الانتخابات واصلت "صوت الأهالي" كتابة المقالات الافتتاحية التي تعالج موضوع الساعة، أي إجراء انتخابات حرة ونزيهة، اضافة إلى ما كانت تنشره الجريدة حول هذه الأمور في صفحاتها الداخلية حول استهتار رجال الحكومة بالدستور، خصوصاً نوري السعيد، بما في ذلك إخضاع مؤسسات الدولة، كالمتصرفيات/ المحافظات والشرطة لإرادتها. ولما وجدت قيادة الحزب أن الشرط الذي وضعته عند الموافقة على المشاركة في الحكومة لضمان حرية الانتخابات لم يلتزم به نوري السعيد، وهو شرط نزاهة الانتخابات وحياد مؤسسات الدولة، قررت سحب ممثلها فاستقال محمد حديد من الوزارة. ونشرت الجريدة بعد ذلك مقالاً افتتاحياً في عنوان: "التدخل في الانتخابات يفسد نتيجتها ويزيل ثقة الناس بحريتها"، وأردفته بمقال افتتاحي آخر في عنوان: "لا نخالفهم لمجرد المخالفة بل لأنهم يعملون لمنافعهم الخاصة". ونشرت كذلك وثائق انسحاب الحزب من الوزارة وبيانات رئيسه حول الموضوع. وهكذا تزايدت وتيرة معارضة الجريدة والحزب معاً لحكومة نوري السعيد. ويوم إجراء الانتخابات أوفدت الجريدة ممثلين عنها إلى بعض المدن خارج بغداد، من بينهم موفدها إلى مدينة الصويرة زكي عبدالوهاب، وكان عضواً في اللجنة الإدارية للحزب ومديراً مسؤولاً عن الجريدة. وفي أوائل شباط 1947 كتب عبدالوهاب مقالاً افتتاحياً شديد اللهجة في عنوان "الانتخابات السرية في الصويرة" وصفها بأنها كانت ملهاة ومأساة، وشرح فيها كيف مُنع من المراقبة، ثم كيف جرى الانتخاب في غرفة مقفلة لم يسمح له بدخولها. وعلقت الجريدة على المقال في صفحة الأخبار المحلية بكلمة عنوانها"انتصار أم انتحار"، وطالبت بالتحقيق. وكانت صولة الجريدة في فضح التزوير في الانتخابات محاولة لفتح حوار علني بين أطراف المعادلة السياسية وتدريب الناس على مزاولة حقوقهم المشروعة. فاز في تلك الانتخابات أربعة مرشحين عن الحزب، منهم حسين جميل في بغداد، والثلاثة الآخرون في البصرة. ثم قرر الحزب سحب نوابه من المجلس فامتثل حسين جميل فقط لذلك واستقال من مجلس النواب. وبذلك انتهى هذا الفصل من المعارضة والمشاركة في المجلس، وكتب الجادرجي مقالاً افتتاحياً في عنوان "فشل" علق فيه بشدة على كتاب استقالة السعيد، الذي غادر الحكم بعد إتمام مهمته الانتقالية حيث حقق فيها تزوير الانتخابات. كانت الجريدة في تلك الفترة بين 1944 و1945 حسنت كثيراً من إخراجها، كما أنها فتحت أبواباً جديدة مثل باب "سؤال وجواب"، وكان السؤال يوضع، في بعض الأحيان، من قبل إدارة الجريدة نفسها ثم يجيب عليه أحد محرريها ومن بينهم الجادرجي، علماً أن أسئلة أخرى أخذت ترد إلى الجريدة من القراء أنفسهم. وتناولت تلك الأسئلة مواضيع متعددة مما كان يشغل خواطر الناس وهمومهم. كما فتحت الجريدة باباً آخر في عنوان "أخبار يوم عطلة الجريدة" اضافة إلى حقل خاص عن هجرة اليهود والقضية الفلسطينية. وكان من شأن تلك التحسينات في إخراج الجريدة واغناء محتواها بالبحث في مسائل متنوعة أن يجعلها مشوّقة للقراءة ومدعاة لرواجها بين القراء المتزايدين، كما إنها في هذه الحقول فتحت مجالات جديدة لتدريب القراء، والمجتمع عموماً، على الحوار العلني والحر، والاشتراك في بيان الرأي .... عالجت "الأهالي" مختلف المواضيع المتعلقة بهموم المجتمع، وتناولتها بالتحليل مع بيان مقترح لحلول لها، وركزت على المسائل ذات الأهمية حسبما كانت تظهر في يومها، كعدم الكفاءة في جهاز الدولة، وضعف الفعالية في إدارتها، والرشوة المتفشية بين الموظفين. كما كانت تنتقد مسائل التعليم والمعاهدة بين العراقوبريطانيا، ومسألة الأحلاف التي يتورط العراق فيها، وامتيازات النفط . ومع ان "جماعة الأهالي"وأعضاء "الحزب الوطني الديمقراطي" لم يمارسوا سلطة سياسية فعلية، إلا أن التأثير الذي أحدثته جريدة "الأهالي" بأسلوب معالجتها الأفكار وبيان الرأي على مدى ثلاثة عقود، جعلها البؤرة الرئيسة التي تلتف حولها المعارضة الموضوعية، والمنبر الرئيسي لممارسة الحوار العلني والنقد البناء ضد سلوكيات رجال السلطة، مؤكدة على إتهامهم بأنهم يخدمون مصالح بريطانيا و ليس مصالح المجتمع العراقي. وكانت تبين أن الاستقلال ليس فقط مسألة حكم ذاتي، بل هو سيادة سياسية واقتصادية. وبهذا أعطت الجريدة مفهوما ومعنى جديدا للمعارضة، ذلك أن محرريها وأصحابها لم يسعوا للوصول الى الحكم، بل كانوا يبغون إصلاحاً كاملاً للفساد الذي حل في إدارة الدولة. وكانت المعارضة التي تعلنها وتمارسها على أساس المبادئ وليس على أساس الشخصيات، إلا بقدر ما كان الشخص أساء بحكم موقعه في السلطة، و تمثل هذا في نقدها وخصامها مع الكثير من رؤساء الوزراء خصوصاً نوري السعيد الذي اعتبرته افتتاحياتها المفسد الأول للسلطة ولمصالح العراق. و هكذا وجدت الجريدة نفسها تمثل معسكر خصم فعّال أمام معسكر المحتكرين للسلطة، فكان نتيجة ذلك استقطاب أدى إلى عزل الطبقة الحاكمة في شكل متزايد، حتى جاءت ثورة 1958 . وزارة صالح جبر ومحاكمات وسرعان ما بدأ فصل آخر من سلوكيات الحكومة كان أعنف من سابقه. فبعد استقالة السعيد تألفت في 29/3/1947 وزارة صالح جبر. وكانت "صوت الأهالي" لا تقتصر على نقد رجال الحكومة بل امتد نقدها إلى مجلس النواب بصفته مزيفاً جاءت به انتخابات مزورة. وأخذت الجريدة تبين أن هذه الوزارة ليست سوى صنيعة السعيد الذي مهّد لمجيئها بانتخابات مزورة لتمرير مشاريع استعمارية لربط العراق بدول أجنبية. وكتب حسين جميل مقالا افتتاحيا في 30/3/1947 يعترض فيه على سياسة الوزارة تطرق فيه إلى ما يراد للبلاد العربية من ربطٍ بخطط مشبوهة لخدمة مصالح الاستعمار الواسعة، ونوّه في إلى بعض مواقف رئيس الوزراء صالح جبر السابقة في خدمة الرجعية والطبقة الحاكمة. وحينما أعلنت الوزارة الجديدة برنامجها في أوائل نيسان ابريل 1947 انبرت الجريدة للتعليق عليه بشدة بمقال افتتاحي عنوانه "منهج ذو جانبين: الدعاية و كبت الحريات". وكانت الجريدة شخّصت ما ستقدم عليه الحكومة من أعمال، بحيث تقوم بالخفاء بإعداد المشاريع الاستعمارية الجديدة وفي العلن بالاستعداد لكبح المعارضة بتكميم صحفها ومضايقة أحزابها. وهكذا تبنت وزارة صالح جبر مشروع معاهدة مع تركيا كان السعيد وقعه مع الأتراك وهو خارج الحكم في عهد وزارة توفيق السويدي. فانبرى الجادرجي إلى كتابة أربع مقالات افتتاحية عن المعاهدة العراقية التركية بين 27 أيار مايو 1947 و30 منه، وجمعت هذه المقالات ونشرت في كراس صدر عن "مطبعة الأهالي" في عنوان: "بحث في المعاهدة العراقية - التركية". عندئذ تحركت حكومة صالح جبر فأقامت دعويين الأولى على الجادرجي بصفته صاحب "مطبعة الأهالي" لقيامه بنشر الكراس من دون استحصال الأذن بموجب قانون المطبوعات، ومدعية أن ملكية المطبعة تؤول إلى عبدالقادر إسماعيل وذلك إمعاناً في المضايقة. فقدم الجادرجي الوثيقة المحفوظة لديه إلى محكمة جزاء بغداد لحاكمها عبدالباقي المتولي، وهي وثيقة تثبت تنازل إسماعيل عن ملكية المطبعة للجادرجي، مصدقة رسمياً ومؤرخة في 1935. والدعوى الثانية عليه بصفته كاتب المقالات الواردة في الكراس وعلى زكي عبدالوهاب بصفته المدير المسؤول ل"صوت الأهالي" التي نشرت المقالات. بدأت المحاكمات مطلع تموز 1947، وكان حاكم التحقيق قرر منذ 9 حزيران 1947 تعطيل الجريدة ومنعها من الصدور، فظلت محتجبة حتى عادت يوم 8 شباط 1948 أي بعد "الوثبة" وسقوط وزارة صالح جبر. ودامت المحاكمات خمسة أشهر، وكانت تمر بمراحل الاستئناف والتمييز مرات عدة، وانتهت في 2 كانون الأول ديسمبر 1947 بتغريم كل من المتهمين مبلغ عشرة دنانير وتعطيل الجريدة لمدة شهرين من دون احتساب مدة تعطيلها السابقة. وبعدما عاودت الجريدة الصدور نشرت وقائع المحاكمات كاملة، بما فيها دفاع المحامين.