أكد الرئيس جورج بوش للرأي العام الأميركي أخيرا ان العراق أصبح "الجبهة الرئيسية في الحرب على الارهاب". وطلب من الكونغرس تبعا لذلك تخصيص 87 بليون دولار، 66 بليونا منها لتغطية تكلفة العمليات العسكرية والاستخباراتية في العراقوأفغانستان، والباقي لمهام إعادة الاعمار. ووافق مجلس النواب الأميركي على الطلب، فيما اتخذ مجلس الشيوخ قرارا بتحويل عشرة بلايين دولار من المبلغ المخصص لاعمار العراق الى قرض لذلك البلد، ما يعني ضرورة التوصل الى تسوية بين المجلسين. الا ان الطلب يأتي في الوقت الذي تتزايد فيه الهجمات على القوات والمصالح الأميركية في العراق، وتعيد حركة طالبان تنظيم صفوفها في جنوبأفغانستان. واذ يبين ذلك حدود منطق القوة الذي تعتمده واشنطن، فهو يشير الى أن تخصيص المزيد من المال قد لا يكفي لمواجهة الوضع، بل ربما كان الأهم اعادة نظر شاملة لمفهوم أميركا للحرب والسلام - وبالتالي لمنظورها للأمن الوطني والعالمي. كان للولايات المتحدة في وقت مبكر من القرن الماضي منظور مختلف للأمن. فقد أعلن الرئيس ودرو ويلسون اثر الحرب العالمية الأولى نقاطه ال14 لتغيير النظام الكولونيالي، مركزا على حق تقرير المصير. وزارت بعثة كنغ - كرين الشرق الأوسط في 1919 للاستماع الى قلق العرب في العراق وسورية ولبنان من نوايا القوى الأوروبية. وفي ما يخص العراق شكلت البعثة ضغطا على البريطانيين، القوة المحتلة للعراق وقتها، للسماح بادخال دولة العراق الجديدة الى عصبة الأمم. واعتبر العرب وقتها أن 1919 "عام الأمل"، وانتشرت بينهم مشاعر الانطلاق والتجدد بعد قرون من الهيمنة العثمانية، والتطلعات الى استعادة مجد العباسيين عندما كانت بغداد مركز العالم. في تلك المرحلة كانت أميركا الضامن الرئيسي لتنامي نظام أخلاقي للأمن يوفّق بين التقليد الفكري الليبرالي ومبدأ حق تقرير المصير. واذ تواجه الولاياتالمتحدة التطورات في العراق اليوم عليها ان تعيد صياغة مفهومها الأمني. فمثلما ابتدع ويلسون منظومة جديدة من المبادىء السياسية لكي يقود بها عالما خرج لتوه من الحرب، على واشنطن اليوم صياغة مفهوم للأمن باعتباره قيمة ايجابية وليس مجرد زوال مصادر العنف السياسي الموجه. أو انه الحق في حرية التنظيم السياسي والتطور الاقتصادي والتعبير الثقافي. الأمن واحد من نتائج توفر الشرعية. أي أن على أميركا، لضمان الأمن، أن تخلق في العراق وغيره بيئة ملائمة لقيام شرعيات سياسية حقيقية. وهذا ما بدأت به في العراق عندما شكلت مجلس الحكم وخوّلته تدوين الدستور. فالمجلس يعكس بالفعل تنوع المجتمع العراقي مذهبيا ودينيا واثنيا وسياسيا، والمطلوب من أميركا فسح المجال له ليقوم بمهامه. الوضع الحالي هو أن المجلس يقدم المشورة الى الحاكم المدني بول بريمر وفريقه، وهو ما يضع الولاياتالمتحدة في موقع لا بد أن يثير الشبهات، وهو انها العنصر السياسي الفاعل الوحيد، أو القوة الكولونيالية في العراق لمرحلة في المستقبل. ولذا فالمطلوب القيام بتغيير هادىء في عمليات المجلس والقيادة، من نوع يتماشى مع ممارسات راسخة في السياسة الأميركية الداخلية. ومن بين ما يمكن عمله اعادة صياغة العلاقة حسب نموذج تسيير الشركات. فمالكو الشركات هم أصحاب الأسهم، وهو ما يعني في حال العراق ان ملكية البلد تعود الى شعبه، فيما الحضور الأميركي مجرد فصل عابر في التاريخ الطويل والغني للبلد. العراقيون هم حملة الأسهم، وللمجلس الحاكم الذي يمثل مصالحهم، أن يعمل في شكل مشابه لمجلس ادارة شركة، أي انه يضم حملة الأسهم الرئيسيين ويسعى الى تنفيذ استراتيجيات على المدى البعيد لضمان استقلال ورفاهية العراق. أما رئيس الادارة المدنية فهو يقوم ضمن هذا النموذج بعمل المسؤول التنفيذي الأعلى، أي تحمل المسوؤليات على المدى المتوسط - بكلمة اخرى تولي عملية الاعمار من خلال تقديم المشورة الى المجلس عن الأهداف المطلوبة آنياً وعلى المدى المتوسط. وبمقدور الولاياتالمتحدة تعلم دروس الماضي والعمل على تحرير العراق، والا فانها ستجد نفسها متورطة في جهد لا نهاية له لضمان الأمن. وقد جاء في تقرير نشرته مؤسسة "راند" أخيرا ان ايصال عدد القوات الأميركية في العراق الى مستوى عملية كوسوفو يعني الحاجة الى نشر أكثر من نصف مليون جندي، كما ان ايصال المساعدات المالية الى العراق الى مستوى البوسنة يعني استثمار أكثر من 34 بليون دولار خلال السنة المقبلة في البنية التحتية وتحسين الوضع الاجتماعي - وهو مبلغ يتجاوز بكثير ما حدده الرئيس بوش لاعمار العراق في طلبه الأخير من الكونغرس. أي ان أميركا لا تستطيع في بلد كبير ومعقد كالعراق استعمال الاستراتيجيات نفسها التي استعملتها في البوسنة وكوسوفو. وعليها تبعا لذلك اعادة النظر في مفهومها للأمن بشكل يمكّن من نقل السلطة الى القادة المحليين. وسيعني هذا التحول عن سياسات القوة الى سياسات الحوار حول طبيعة السلطة المطلوبة في العراق وإراحة الولاياتالمتحدة من جزء مهم من عبئها السياسي والمالي. وفي جوهرها تقوم اعادة النظر في مفهوم أميركا للأمن على فضيلة التواضع والذاكرة التاريخية. وللاعتراف بمحدودية ما يمكن القيام به أن يشكل في الوقت نفسه تعبيرا عن التضامن. بمعنى أن الولاياتالمتحدة موجودة الآن في العراق، لكنها ليست العراق وليست العنصر الوحيد الذي سيقوم عليه مستقبل ذلك البلد. وستحتاج أميركا، عند اعادة النظر في البيئة الأمنية بما يسمح بصياغة سياسة فاعلة، الى استعادة القيم التي جعلتها منارة للحرية في نظر العالم. فبالامكان صنع السلام من خلال الاعتماد المتبادل والمشروع، وخلق مجتمع مدني يقوم على قوانين تستقي من المنظورين الاسلامي والغربي للعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان. باختصار: الطريق الى ضمان أمن أميركا يمر باستقلال العراق وحقه في تقرير مصيره.