أمكن الوقوف على عدد من الأوراق البحثية التي قدمها باحثون أميركيون حضروا هذا الشهر للمنطقة للمساهمة في بعض الندوات التي ناقشت الوضع في الخليج وآفاقه المختلفة . وثمة أربع نقاط أمكن تلمسها في الأوراق البحثية المشار إليها، وتتمثل في : أولا، التأكيد على أن الاستقرار في الخليج لن يتأتى بأي حال من الأحوال دون استقرار الوضع العراقي . ثانيا: ضرورة الوصول إلى مقاربة ناجزة للملف النووي الإيراني . وعند هذه النقطة تتباين المواقف والتصورات تباينا واسعا . ثالثا : ضرورة السعي لبلورة منظومة أمن جماعي، أو لنقل ترتيبات أمن إقليمية على الصعيد الخليجي . وهنا تقترب المقولات من التعميم اقترابا كبيرا . رابعا : التأكيد على العلاقة بين انجاز مقولة أمن الخليج وبين تحقيق الإصلاحات السياسية في المنطقة.أو لنقل إعطاء أمن الخليج بعده التنموي السياسي والاقتصادي، ليتسق مع المعطيات العسكرية، ويكون ضامنا لها . وضمن النقاط الأربع المشار إليها، تبدو المقاربات متباينة حيال موقع الفرقاء المعنيين تقليديا بمقولة أمن الخليج . وهم هنا دول مجلس التعاون الخليجي وإيرانوالولاياتالمتحدة الأميركية، فضلا عن العراق الذي لا يبدو أنه سوف يكون حاضرا في المدى القريب أو المتوسط حتى على صعيد المقاربات النظرية لمستقبل النظام الأمني الخليجي. أما اليمن، فثمة معضلة منهجية بينة في تناول دوره أو لنقل احتمالات هذا الدور في ترتيبات الأمن الإقليمي، والمشكلة هنا هي أن الكثير لا يحددون عن أي إقليم بالضبط يتم الحديث، أهو الخليج العربي أو شبه الجزيرة العربية، المرتبطة جغرافيا بالبحر الأحمر عبر مضيق باب المندب . كما أن الحديث عن دور الناتو بقى مبهما، أما أوروبا فبدت شبه مغيبة . ولنعد الآن إلى الأوراق البحثية المشار إليها . في البدء، لا بدّ من التذكير بحقيقة أن أمن الخليج قد مثل إحدى القضايا دائمة الحضور في مقاربات الفكر الاستراتيجي الأميركي منذ مطلع سبعينات القرن الماضي، واستمر قضية خلافية في مقاربات هذا الفكر، نادرا ما تم الإجماع عليها، مع ضرورة التفريق في الوقت نفسه بين الخيارات الرسمية للإدارات المتعاقبة وبين التصورات المثارة داخل النخبة الاستراتيجية الأوسع، وضمن أروقة معاهد البحث العلمي الأميركية، التي وضع بعضها الخليج العربي في قائمة أولوياته. ويمكن القول انه اعتبارا من نهاية العقد السابع وحتى اليوم لم تشهد النخبة الاستراتيجية الأميركية أي إجماع على مقاربة محددة لأمن الخليج، لا ضمن التعريف التفصيلي لهذا الأمن ولا ضمن محدداته الجيوسياسية، فضلا عن مداخلة ونمط الآليات اللازم اعتمادها لتحقيقه وإنجاز مقولاته. على صعيد النقطة الأولى، أي الوضع العراقي، لا يبدو أن هناك من يجادل في حقيقة أن أمن الخليج مرتبط ارتباطا عضويا باستقرار العراق . بيد أن الخلاف يبقى قائما حول مفهوم هذا الاستقرار العراقي، وكذلك حول الآليات المراد اعتمادها لتحقيقه، وبعد ذلك يبدو الخلاف أكثر وضوحا حول دور العراق الإقليمي، أو لنقل حدود الهامش الذي سوف يتاح لعراق المستقبل، وما هي طبيعة المحددات التي ستفرض عليه . وما هي آلية اندماجه في أية ترتيبات مزمعة للأمن الإقليمي . على صعيد النقطة الثانية، أي الملف النووي الإيراني، يبدو الإجماع بين العديد من الباحثين إجماعا على العموميات، لا على طبيعة تناول هذا الملف، الذي يبدو بالغ الحساسية في إطار المقاربات كافة . من جهتها، تصر الولاياتالمتحدة الأميركية على أن إيران تواصل العمل على برامجها النووية لأغراض لها صلة بالتسلح النووي. وكانت هذه التهمة من الأمور التي دفعت الولاياتالمتحدة لإعلان إيران ضمن بلدان «محور الشر»، قبل سنتين. وعلى الرغم من ذلك، بدا واضحا أن خيار استخدام القوة ضد إيران سيكون أمرا صعبا بسبب الوضع الخطير في العراق، ولأن الولاياتالمتحدة تحتاج في الوقت الراهن وربما أكثر من أي وقت مضى لحلفاء وثيقين على الأرض، مثل بريطانيا، للمشاركة في أي عمل عسكري. ويدعو بعض الباحثين الأميركيين إلى ضرورة إقناع إيران بالقبول ببرنامج تفتيش محكم، مع دعمه من خلال تهديدها بالعقوبات إذا ما أقامت في وجهه العراقيل. ولو تم وضع مثل هذا البرنامج موضع التطبيق، فسوف تكون أمامه فرصة جيدة للنجاح، خصوصا إذا ما أدركنا بوضوح الفارق بين الوضع في العراق ومثيله في إيران. هذا الفارق يتمثل في أنه فيما يتعلق بالحالة العراقية، كانت هناك عقوبات شاملة مفروضة من قبل مجلس الأمن الدولي، تتضمن- في حالة توافر ظروف محددة- إمكانية استخدام القوة. أما بالنسبة لإيران فليس هناك سوى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية . و«إن إتباع استراتيجية واضحة ومتماسكة بين الولاياتالمتحدة وأوروبا واليابان تجاه إيران، هو الوسيلة الوحيدة لجعل إيران تمتثل للمجتمع الدولي» - كما يقول كينيث بولاك إن الولاياتالمتحدة، قد تورطت عميقاً في العراق، وأجهدت فيه عسكرياً إلى أقصى مدى، إلى جانب ما ستواجهه من سخط عالمي فيما لو أقدمت على استخدام القوة ضد إيران. وما دام الحال هكذا، فليس من قبيل الصدفة أن يعلن كولن باول، وزير الخارجية الأميركية الذي سيغادر منصبه قريبا، أن أميركا ليست على استعداد بعد، لغزو إيران. كما قال باول في تصريحه: ليست لدينا أية نوايا لتغيير النظام الحاكم في طهران. على صعيد النقطة الثالثة، أي فيما يتعلق بالحديث الخاص بترتيبات الأمن الإقليمي، تبدو التحديات متزايدة، ليس بالمعايير السياسية والإجرائية وحسب، بل قبل ذلك بالمعايير الفكرية والمنهجية . وإن أحدا لم يتجاوز العموميات ويخوض في مقاربة عملية . ثمة مفاهيم عديدة على صعيد خيارات الأمن، بيد أن هذه المفاهيم لا يمكن تحويلها إلى واقع جيوسياسي بمجرد الاقتناع بها، كما أن بناءها النظري الكلاسيكي لا يمكن أخذه على ما هو عليه دون الدخول في إعادة إنتاج معرفي تستجيب للقدر الكبير والمعقد من خصوصيات البيئة الإقليمية الخليجية . ويمكننا أن نلحظ هنا على سبيل المثال أن أوربا قد ولجت القرن الحادي والعشرين مع منظومة أمن جماعي تنتهج الدول الأعضاء فيها سياسات دفاعية متشابهة ومنسقة. ومن الزاوية العملية يقوم جوهر هذه المنظومة على سلسلة من الاتفاقيات الرامية إلى تحديد التسلح. هذه الاتفاقيات أعادت صياغة القوى المسلحة للخصوم في ظل الحرب الباردة على أساس مبدأين يحددان معاً الأمن الجماعي. يقول المبدأ الأول بأولوية المسألة الدفاعية، بحيث يتم تنظيم ونشر القوات المسلحة من أجل الدفاع عن البلاد وليس من أجل الهجوم على أراضي الجيران واحتلالها. ويخص المبدأ الثاني قضية الشفافية بحيث ينبغي أن تتمتع كل دولة بإمكانية معرفة ما تمتلكه الدول الأخرى من قوات مسلحة وكيف وأين يتم نشر هذه القوات. إن نظام الأمن الجماعي هذا يمثل بالنسبة للسلام والحرب ما تمثله الشفافية بالنسبة للسياسة والاقتصاد، أي انه يمثل صيغة تسمح بتحقيق هدف يصبو الجميع إليه. وإذا كانت الوسائل الشفافة في السياسة والاقتصاد هي السبيل للوصول إلى الرخاء والازدهار، فإن الأمن الجماعي هو آلية الوصول إلى السلام. وشأن الشفافية السياسية والسوق، يقوم هذا الأمن على مفهوم المشاركة الإرادية، ولكن بين الدول وليس بين الأفراد. بيد أننا هنا بصدد مقولة إطارية وحسب، والسؤال كيف نصل إلى منظومة أمنية تعنى بالخليج؟ إن هذا هو السؤال الصعب الذي لا نرى اليوم من يتجرأ على الخوض فيه . ولكن للحقيقة، ثمة دراسة لافتة صدرت في مطلع تسعينيات القرن الماضي عن أحد مراكز الأبحاث في واشنطن سعت حينها بوضوح نظري وعملي لبلورة خيار أمني إقليمي على صعيد منطقة الخليج . بيد أن المعطيات الظرفية قد تغيرت، كما تغير جزئيا نمط التحديات، كما أن مفاهيم الأمن ذاتها قد دخلت طورا تاريخيا من إعادة التعريف . وعلى صعيد خيارات السياسة الأميركية، فإن السؤال الذي لم تتم الإجابة عليه بعد هو هل سوف تستمر الولاياتالمتحدة في اعتماد الاحتواء كدليل لها في الخليج؟ ففي العام 1993، جاء «مبدأ الاحتواء المزدوج» ليستمد أصوله النظرية من الحرب الباردة،كما هو حال «مبدأ كارتر» نفسه. وهو قد مثل التأطير الاستراتيجي الأهم لحرب الخليج الثانية. وبالمنظور الاستراتيجي أمكن القول أن الوجود العسكري الأميركي فيما وراء البحار قد مهد الطريق أمام تبني سياسة «الاحتواء المزدوج» لإيران والعراق . ولكن هل سيكون خيار الاحتواء في مرحلة ما بعد سقوط بغداد مرتكزا إلى موازن خارجي حاسم كما كان الحال في أوروبا إبان الحرب الباردة، وهو الوضع الذي لم تعتمده واشنطن في المنطقة في يوم من الأيام؟ وريثما تتضح إمكانية لجوء الولاياتالمتحدة إلى سياسة أمن إقليمي تنهض على خيار الموازن الخارجي، لا بد من التأكيد على أن ثمة فرقاً جوهرياً بين مقولة الموازن الخارجي، وبين القوة بمفهومها المجمل .ولا بد من الانتباه هنا إلى أن الجدل النظري الذي بقي مستمرا منذ نصف قرن حول العلاقة بين القوة والاحتواء، كان جدلا حول العلاقة بين القوة بمفهومها العام والاحتواء، وما إذا كانت الأولى جزءا أصيلا من الثاني . وعلى الرغم من ذلك، فإن حسم العلاقة بين القوة والاحتواء لا يعني، بأي حال من الأحوال، تسليما تلقائيا بأولوية القوة على ما عداها من عناصر الاحتواء، وتحديدا عنصر الحصار الذي مثل ركيزة أساسية في تجربة الاحتواء إبان الحرب الباردة الدولية. وفي التجربة الإقليمية التي مثلها احتواء العراق، لم يكن من السهل القول بأن العلاقة بين القوة والحصار، كعنصرين في سياسة الاحتواء، كانت علاقة ذات اتجاه تكاملي، بل وربما أمكن تلمس اتجاه تفاضلي في هذه العلاقة بمعنى الاختيار بين العنصرين، ذلك أن الدمج بينهما إلى الدرجة التي ينتقل فيها الخطاب السياسي من التلويح بالقوة إلى استخدامها الفعلي كان من شأنه أن يفضي إلى نسف العنصر الآخر (أي الحصار) أو زعزعة آلياته بعنف. وفيما يتعلق بخيار الموازن الخارجي، يمكن القول إن هذا الخيار لم يكن مطروحا على صعيد المقاربات الأميركية الخاصة بأمن الخليج قبل الغزو الأميركي للعراق، ذلك أن مثل هذا الخيار يقتضي بالضرورة وجود دولة تحتضن بكثافة الآلة العسكرية الأميركية المراد بها موازنة الخصوم الإقليميين أو الدوليين، تماما كما هو حال الوجود العسكري الأميركي في غرب أوروبا وكوريا الجنوبية واليابان . وهذه نماذج لا نظير عالمي لها، باستثناء ما كان لدى القوة السوفياتية في بعض دول حلف وارسو . ويبدو واضحا اليوم أن الوجود العسكري الأميركي في العراق قد اقترب من هذا الخيار، وإن لم يصل إليه تماما، وإن القوة الأميركية قد غدت الثقل الموازن للقوة الإيرانية، أو هي في سبيلها لأن تصبح كذلك . وهذا هو التحول الأكثر مركزية في البيئة الجيوسياسية لخليج ما بعد حرب العراق . ولكن هل سترسو الولاياتالمتحدة نهائياً على خيار الموازن الخارجي في مقاربتها لأمن الخليج؟ إن الأمر لا يبدو حتى الآن على قدر كاف من الوضوح، فهذا الخيار دونه هو الآخر قدر كبير من التحديات . على صعيد النقطة الرابعة، أي فيما يتعلق بالعلاقة بين استقرار الخليج وإنجاز مقولات الإصلاح السياسي فيه، يبدو من الواضح أن الجميع قد انتهى إلى التسليم بالنمط التلازمي لهذه العلاقة. وهذه قضية أمكن تلمسها في كتابات الباحثين والصحافيين الأميركيين منذ ثلاثة أعوام على الأقل، وهذا أيضا ما عبرت عنه أوراق الباحثين الأميركيين الذين استضافتهم منتديات المنطقة هذا الشهر . ويمكن أن نذكر على هذا الصعيد بأن إحدى توصيات لجنة التحقيقات في هجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر قد نصت على الاستثمار لأقصى درجة ممكنة في مجال تطوير العلاقات الدبلوماسية والعمل الإنساني بغية محو بذور العنف من دول العالم الثالث . وما أدوات العمل الدبلوماسي والإنساني هذه سوى الأدوات والوسائل المتضمنة في الميزانية المخصصة للشؤون الدولية الأميركية. وقد رأى التقرير في هذه المبادرات عنصرا لا غنى عنه من استراتيجية متكاملة ترمي لمنع وقوع هجوم إرهابي آخر على الولاياتالمتحدة. يقول التقرير، إن « النجاح بعيد المدى، في هزيمة طالبان وملاحقة تنظيم القاعدة، يتطلب استخدام عناصر أخرى من قدراتنا القومية، واستخباراتنا وعملياتنا السرية، ونشاطنا الدبلوماسي، فضلاً عن تطبيق القانون، والسياسات الاقتصادية، وتقديم العون الخارجي، والدبلوماسية الشعبية، والدفاع عن أمننا القومي». وقد تمحورت هذه الميزانية التي تتضمن المساعدات الدولية وغيرها من البرامج العالمية، حول أهم الأدوات ووسائل العمل الأميركية غير العسكرية، وأدوات الدبلوماسية والعلاقات الخارجية. وقد حظيت بتأييد واسع من قبل الكونغرس واختصاصيي الأمن القومي.