بعد كل ما حدث ويحدث للعرب في اللحظة الراهنة، هل تسمح لنا أمانة العلم ومسؤولية التاريخ والمصير أن نعيد ونستعيد الكلام المدرسي المكرور عن ثوابت "الهوية العربية" والنقد المتداول الموجه الى عصر العولمة المتغير، ثم نحذر من مخاطره وندعو - وعظاً كالعادة - للحفاظ على الثوابت القومية أمام المتغيرات الدولية... وطبعاً بفذلكة فكرية تبدو عليها علامات "العصرنة" و"التوازن" و"الاعتدال" بإقامة تلك المعادلة الكلامية المستهلكة بين الأصالة والمعاصرة التي لم يخل منها أي "بيان تاريخي" للمثقفين العرب من دون أدنى تأثير في تضاريس الواقع العربي... وما يجب أن يقال ان المراوحة النظرية الطويلة بين الأصالة والمعاصرة من دون أن تظهر ثمرة ملموسة من تفاعلهما في الواقع العربي، دليل على أن العلاقة بينهما غير صحية وان الأمة - وعلى الأخص قادتها ونخبها - غير متمكنة من إدارة هذا التفاعل في شكل صحي، علماً أن ما يجب النظر اليه هو طبيعة البنى المجتمعية التحتية في القاع السوسيولوجي العربي وعلاقتها بمتغيرات التاريخ والعصر. فطالما تساءلت وأنا أسمع عن مؤثرات العولمة، ما تأثيرها في القبائل في اليمن وغيره والاثنيات في العراق وغيره، والطوائف والمذهبيات في لبنان وغيره. أياً كان الأمر، ... إذا خرجنا على هذا "المألوف" ولا بد من أن نخرج... فماذا نحن قائلون... والأهم ماذا نحن فاعلون؟! ان المشكلة الأساسية في هذه اللحظة التاريخية تكمن في شخصية "العرب المعاصرين" وفي ذهنيتهم وسلوكهم مع أنفسهم ومع العالم. أما ما تعارفنا عليه ب"الهوية العربية" فمخزون وموروث جمعي تاريخي طويل الامتداد في الزمان والمكان، مملوء بالأمجاد والايجابيات وبالتناقضات والتعارضات - في الوقت ذاته - ضمن تجربة الأمة عبر القرون تقدماً وتخلفاً ويمكن أن يُنتقى منه ما شكل من ناحية فكر الرواد المتقدمين الأوائل في النهضة العربية الحديثة من الطهطاوي الى الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وخير الدين التونسي... كما يمكن من ناحية أخرى أن يُنتقى منه ما يشكل اليوم فكر الجماعات التكفيرية والإرهابية!! فأية هوية نعني؟ منذ البداية نبه الإمام علي بن أبي طالب المسلمين في صدر الإسلام وفي مستهل الفتن الى أن: "القرآن حمّال معان وحمّال أوجه... وهو خط مسطور لا ينطق وإنما تنطق به أي بتفسيره الرجال". وطالما توقفت في زمننا متسائلاً أمام الظاهرتين المتناقضتين في الشرق الإسلامي اللتين يفترض انتسابهما معاً... الى التراث الإسلامي الواحد و"الهوية" الاسلامية الواحدة... وهما ظاهرة طالبان في أفغانستان المسلمة... والظاهرة الاتحادية المتقدمة في ماليزيا المسلمة أيضاً؟ كتاب المؤلف: مساءلة الهزيمة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2001، ص 89-90. في الحالين هنا اسلام وهناك إسلام. وهو إسلام "واحد" بطبيعة الحال جاء به الوحي من حيث الجوهر. ولكن أي فارق فظيع ومريع في الواقع بين الحالين والظاهرتين؟... ما تفسير ذلك؟ وماذا يجب أن يعني لنا نحن العرب الذين يمثل وطنهم العربي منطلق الإسلام وقلبه ومركزه... وفي زمن "الصحوة" الإسلامية! ونحن في أشد الحاجة، بالمناسبة، الى صحوة عقل تسند هذه الصحوة، بكل ما يعنيه العقل من تشخيص وتحليل ونقد ثم إعادة تركيب... وإلا فهو ما نشهده اليوم من تفجير للذات قبل الآخر، أليس ذلك هو انتحار الهوية؟!!. وقبل الدخول في صميم إشكال الهوية هويتنا نحن العرب المعاصرين في هذا العصر... وليس في العصر الأموي أو الفاطمي أو العثماني... أود أن أسجل تحفظاً أساسياً أخذ يقض مضجعي فكرياً... ويجب أن يقض مضاجعنا جميعاً إذا أردنا إنقاذ الوجود العربي في هذا العصر، بل إذا أردنا مجرد تحقيق الوعي الصحيح بهما... بالهوية وبالعصر: ما أريد أن ألفت اليه هو هذه الفجوة الشاسعة المخيفة بين ضجيج الكلام العربي في الفضائيات والندوات والصحف والمجلات وسائر المطبوعات والمنابر، وبين حقيقة الواقع العربي. يكاد المراقب والراصد للعلاقة بين ذلك الكلام وهذا الواقع أن يجزم بتجمّد أو موت "المفصل" الواصل بين القول والفعل في الحياة العربية. فليس ثمة علاقة مسؤولة بين ضجيج وادعاء وتزوير وكذب، من ناحية، وبين واقع آخر نقيض... ومختلف تماماً ينطق بعكس ذلك نتهرب من حقائقه ووقائعه ونكابر في شأنها - أنظمة وشعوباً وقادة فكر - مكابرات لن يسجلها التاريخ، ولا المستقبل، لا لمصلحتنا... ولا لبقائنا في هذا العصر... ما تفسير هذا التناقض المخيف؟ وكيف نعيد الحياة الى "المفصل الميت" المتجمد والمنقطع بين كلامنا وواقعنا؟ عندما تخفق تجاربنا القومية في المنعطفات التاريخية المريعة نسمع العبارة المعلبة الجاهزة والمستهلكة: الخطأ في التطبيق وليس في النظرية والمبادئ... حسناً، ولكن الى متى ستبقى مبادئنا معلقة في سماء اليوتوبيا والمثاليات الأفلاطونية... ومتى سنتخذ الوسائل العلمية لإنزالها على سطح الأرض؟ ولماذا بقينا عقوداً بعد عقود ونحن نعلن أفضل المبادئ ونعيش أسوأ الأوضاع؟ ما تفسير هذا التناقض الحاد المقيم... ومن المسؤول؟ ان لم نعالج هذه "الإعاقة" الخطيرة في السلوك العربي الراهن، فإن الكلام سيزداد تضخماً، بينما سيزداد الفعل هزالاً وضموراً وقد اقترب من مستوى العدم... وكبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون... أليس هذا التوجيه الحكيم من رصيد "الهوية"؟ فماذا فعلنا به... فعلاً لا قولاً؟!! بعد هذا التحفظ الفكري، لا بد من تحفظ منهجي. وكما ألمحت بداية، فلا بد من حصر إطار البحث في خصائص "شخصية العرب المعاصرين" وآليات تفاعلهم مع معطيات واقعهم وعصرهم. إن اطلاق التعميمات في شأن "الهوية" العربية - كما نفعل في مجمل الخطاب العربي -، أو "العقل" العربي من خلال النصوص المعلقة فوق تضاريس الواقع التاريخي كما فعل محمد عابد الجابري، أو "الرسالة الخالدة" التي لم يتعد دورها دور المظلة المهلهلة فوق النظم الديكتاتورية المتخلفة، كما فعل ميشيل عفلق، لن يؤدي بنا إلا الى ازدياد الهوة الشاسعة بين الكلام والعمل، وبين التنظير والتدبير. وكما لاحظ أحد باحثينا العرب الجادين، وهو الأستاذ السيد يسين، معبراً عن ضوابط المنهج العلمي في الدراسات الاجتماعية المعاصرة، فإن: "موضوع الشخصية القومية والتي يمكن تعريفها بأن دراسة أكثر سمات الشخصية شيوعاً في أي مجتمع للوصول الى تقديم صورة مؤلفة من هذه السمات، ليس من الموضوعات التي يسود في صددها الاتفاق بين الباحثين، ذلك أن الحديث عن سمات الشخصية اليابانية او الألمانية أو العربية أو اليهودية يمكن في كثير من الأحيان أن يكون زاخراً بالتعميمات الجارفة والأوصاف النمطية الثابتة التي قد تتجاهل أعماق بنية الشخصية من ناحية، والتغييرات الكبرى التي تطرأ عليها عبر الزمن. ويبدو مصداق ذلك لو اختزلنا الشخصية اليابانية في بعد واحد هو الخضوع المطلق للسلطة التي مثلها قبل الحرب العالمية الثانية الامبراطور... أو اختزلنا الشخصية الألمانية في بعد واحد هو سيادة الشخصية التسلطية...". ويضيف السيد يسين بناء عليه: "يرفض فريق من العلماء الاجتماعيين استخدام مفهوم الشخصية القومية لأنه لا يؤدي الى فهم موضوعي عميق... غير ان هناك فريقاً آخر يطبقون أدوات البحث الميدانية يرون انه يمكن ضبط مصطلح الشخصية القومية من خلال صيغة تعريف اجرائي له وتطبيق أدوات البحث المناسبة..." - صحيفة الأهرام، عدد 3 تموز يوليو 2003، ص 13. وعليه فلا بد من أن نهبط بهذه العموميات النظرية في ما يتعلق بنا كعرب من السماء الى الأرض، وأن نستدعيها لمساءلتها... لئلا تبقى أشياء غامضة تضلل أكثر مما تهدي... نلاحظ أن السيد يسين يستخدم مصطلح "الشخصية القومية"، فذلك أقرب الى التحديد العلمي. أما "الهوية" فمصطلح فلسفي شبه ميتافيزيقي وتعظيمه وتضخيمه من شأنه أن يؤدي الى الفاشية. وعليه، فإن توجيه ما يشبه المديح الشعري لهوية الأمة لن يفيدها، إذ تحتاج هذه الهوية من أجل فهمها، وإعادة تشكيلها على أرضية الواقع والعصر الى شيء من شجاعة النقد الذاتي... ورحم الله امرءاً وجيلاً عرف قدر نفسه. * مفكر وأكاديمي من البحرين[email protected]. والبحث في الأصل بتكليف من "شؤون عربية" الصادرة عن جامعة الدول العربية، وينشر بالتزامن مع أحدث إصداراتها - خريف 2003.