ما زالت غالبية الشعب العراقي تفضل المقاومة السلمية على المقاومة المسلحة بعد أكثر من ستة شهور على انهيار نظام الحكم السابق. وما برح معظم القوى السياسية والدينية يراهن على أن المقاومة السلمية لم تستنفد أغراضها بعد. وعندما حدثت مواجهات أخيراً بين القوات الأميركية وعناصر تابعة للزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر، أكد قادة فى الحزبين الرئيسين المعبرين عن الإسلام السياسي الشيعي الدعوة والمجلس الأعلى أنها استثناء من القاعدة. ويبدو هذا الموقف غير مفهوم لدى كثير من السياسيين والمثقفين وربما قطاعات من الشعوب العربية الأخرى، على رغم أن في تاريخ بعض هذه الشعوب ما يشبهه بدرجة أو بأخرى، ولكن في شكل مختلف بفعل تباين الزمن والظروف. فقد اضطر معظم الشعب العراقي الى قبول الاحتلال الأميركي - البريطاني الى حين ثمناً لإسقاط النظام السابق لأن إجرامه فاق الخيال. وسيظل الحال كذلك الى أن يتأكدوا من أن هذا النظام لن يعود في صورته التي كان عليها أو في صورة أخرى. فما أصعب الموقف الذي يقفه معظم العراقيين اليوم بين ناري الاحتلال والخوف من عودة النظام السابق. وهم إذ يحدوهم الأمل في قدرة بلدهم على استعادة استقلاله، يساورهم القلق من أن يكون دعم المقاومة المسلحة سبيلاً إلى عودة النظام السابق الذي يعرفون أن بعض ضباطه وعناصره هم من أطلق هذه المقاومة على رغم أنها لا تقتصر عليهم. موقف صعب حقاً ذلك الذي يواجهه شعب مقهور. ولكنه يذكرنا بما قاساه كثير من المصريين عقب الاحتلال البريطاني في العام 1882، وخصوصاً الفلاحين منهم وأهل الريف. فقد وجدوا أنفسهم بين ناري الاحتلال البريطاني والخوف من استعادة الأسرة العلية وبالتالي الطبقة الارستقراطية التركية والشركسية السلطة كاملة مرة أخرى. فقد كانت مصر، من الناحية الفعلية، ملكاً لتلك الأسرة التي حكمتها واستأثرت بخيراتها مع حاشيتها ورجالها من الأتراك والجركس الذين كونوا طبقة عليا فوق المصريين جميعهم، مثلما فعل البعثيون التكريتيون الصداميون في العراق. ولذلك كان هدف ثورة أحمد عرابي قبيل الاحتلال البريطاني هو تحرير المصريين من هيمنة الظالمين، بدءاً بمساواة الضباط الوطنيين الذين قادهم عرابي بنظرائهم الأتراك والجركس. وتلاقت مصالح الضباط حينئذ مع طبقة جديدة من الأعيان المصريين كانت تشب عن الطوق من خلال مشاركتها سياسياً للمرة الأولى في مجلس شورى النواب الذي أسسه الخديوي اسماعيل في العام 1866. وعندما احتل الإنكليز مصر، لم يغيروا وضعها القانوني فظلت تابعة اسمياً للدولة العثمانية حتى نشوب الحرب الأولى في العام 1914. ولذلك ظل كثير من المصريين يخشون أن يؤدي خروج الإنكليز، من دون خلق وضع جديد يكون لهم فيه حق في وطنهم، الى عودة الأتراك بسياطهم. وهكذا كان ظلم الطبقة التركية التي هيمنت على مصر، وخصوصاً ريفها، في ظل حكم أسرة محمد علي منذ مطلع القرن التاسع عشر مانعاً المصريين من التركيز في النضال ضد الاحتلال البريطاني في بدايته. فلم يتصاعد هذا النضال، بدءاً بثورة 1919، إلا بعد إنهاء تبعية مصر للدولة العثمانية وظهور قيادة وطنية رشيدة استهدفت تحقيق الاستقلال التام لا الخلاص من الإنكليز والعودة الى ظلم الارستقراطية التركية. فعلى رغم رفض المصريين الاحتلال، ظلت في أذهانهم وخصوصاً الريفيين بينهم الصورة البشعة لاستعلاء طبقة الذوات الأتراك. كان الفلاحون ممتنين للإنكليز لأنهم ألغوا السخرة والكرباج. لم يكن هذا مبرراً لاستمرار الاحتلال، وإن كان الإنكليز هدفوا الى ذلك وسعوا الى أن يكونوا أقرب الى المصريين من الأسرة العلية والارستقراطية التركية الظالمة. وهذا هو ما حاول الأميركيون أن يفعلوا مثله في العراق معتقدين أن تحرير العراقيين من بطش صدام حسين ومقابره يكفي لقبولهم. كان المصريون يخشون عودة الأتراك وبطشهم، مثلما يخاف العراقيون الآن عودة صدام وجرائمه. كان الأتراك يعاملون المصريين في الريف بفظاظة ويزدرونهم ويضربونهم بالسياط حتى بعد أن يتفانوا في خدمتهم، الأمر الذي يظهر القول المأثور "آخر خدمة الغز علقة" للتعبير عنه. كان معظم المصريين يعتبرون الأتراك غزاً أي غزاة. وكان الحكام من أسرة محمد علي بالنسبة الى المصريين بمثابة رمز لهذا الماضي المؤلم. ويصور الدكتور محمد حسين هيكل في مذكراته مشاعر المصريين في ذلك الوقت بقلمه الرشيق قائلاً: "كان الناس من أهل الريف، وكان أبناؤهم من أمثالنا يفزعون إذا قيل لهم إن السلطان سيعود كما كان هو صاحب السلطة الشرعية وأن الغز سيتولون الأمر من جديد". هكذا كان المصريون في حال تمزق داخلي بين رفض الاحتلال والخوف من عودة الغز ومعهم السخرة والجلد بالكرباج. ولكنهم لم يلبثوا أن وجدوا الإنكليز، بدورهم، يستبدون بهم وإن من دون كرباج. ولم يشفوا من هذا التمزق إلا بفعل تطورين متزامنين تقريباً: أولهما قيام الإنكليز بضم مصر رسمياً الى مستعمراتهم وقطع صلتها بالدولة العثمانية عبر إعلان حمايتهم عليها في العام 1914. وثانيهما ظهور قيادة رشيدة أعلنت النضال ضد الاحتلال ورفضت في الوقت نفسه التبعية للدولة العثمانية مجدداً وعودة السلطة كاملة الى أسرة محمد علي. فقد ربطت هذه القيادة النضال الوطني بكفاح ديموقراطي من أجل نقل أكبر قدر من السلطة الى الشعب. وكان شعار الاستقلال والدستور معبراً عن هذا المعنى. الاستقلال عبر النضال ضد الاحتلال البريطاني، والدستور من خلال الكفاح ضد استعادة الأسرة العلية وبالتالي الارستقراطية التركية السلطة كاملة. فالاستقلال من دون الدستور كان من شأنه أن يضع السلطة كلها مرة أخرى بين يدي الخديوي فيستبد استبداد آبائه من قبله. وهذا هو ما يفتقده العراقيون اليوم. فمن يشنون هجمات مسلحة ضد الاحتلال ليسوا معنيين بديموقراطية أو دستور. كما أن جزءاً يعتد به منهم هم من ضباط وعناصر النظام السابق الذي روع الشعب. ومن يعملون لوضع دستور ديموقراطي يضمن عدم تكرار مأساة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود لا يهتمون اهتماماً كافياً ببلورة خطاب وطني قوي يؤكد معنى الاستقلال والسيادة. صحيح أنهم يعملون من أجل تحقيق هذا المعنى على الأرض. وصحيح أن العمل خير من الكلام. غير أن التعبير عن هذا العمل يظل ضرورياً، وخصوصاً في مجال الكفاح الوطني الذي ينطوي بالضرورة على مكون عاطفي حماسي لا يفيد وحده، ولكن لا يمكن الاستغناء. وبسبب حرص مجلس الحكم الانتقالي على عدم إثارة أزمة مع سلطة الاحتلال في الوقت الراهن، فهم يعالجون الخلافات معها بحكمة. ويترتب على ذلك حجب معلومات مهمة تؤكد الدور الوطني الذي يقوم به المجلس في مواجهة هذه السلطة. كما أن الشفافية في هذا المجال تتيح للعراقيين معرفة مواقف كل من أعضاء المجلس ووزراء حكومته فكان المصريون، تحت الاحتلال البريطاني، شغوفين بمتابعة أداء الوزراء أو النظار كما كان يطلق عليهم والتمييز بينهم. وكان المعيار الأساسي للتمييز هو مدى صلابة أو ضعف الوزير الناظر في مواجهة المستشار البريطاني لوزارته. وقد بنى سعد زغلول زعامته الوطنية في نهاية العقد الثاني في القرن الماضي على أدائه القوي خلال العقد الأول في نظارة المعارف التي وضع الإنكليز فيها دنلوب أكثر مستشاريهم شراسة. وكانوا يقارنونه بأداء وزير آخر آثر الخضوع للمستشار البريطاني، مما أدى إلى شيوع قصص كثيرة عنه اختلطت فيها الحقيقة بالفكاهة. ومن أطرف هذه القصص أنه كان جالساً في مكتبه مع ضيوف له عندما دخل سكرتيره طالباً منه توقيع أوراق مهمة. فسأله عما إذا كان المستشار الانكليزي وقعها، فلما أجاب السكرتير بالإيجاب، أشار إلى "الختم" الموضوع على المكتب، وقال له: "ها هو الوزير عندك وقع به الأوراق". ومعروف أنه مع كل من الوزراء العراقيين في الحكومة الموقتة الحالية مستشار أميركي. فلا يكفي أن يعمل كثير من أعضاء مجلس الحكم والوزراء بجد واجتهاد لخلق الأوضاع التي تتيح إنهاء الاحتلال. عليهم أن يدعموا هذا الجهد بخطاب وطني حماسي أيضاً لتوثيق العلاقة مع شعبهم الذي هو شعب عربي يشتاق إلى هذا النوع من الخطاب حتى إذا كانت خبرته معه مؤلمة. غير أن ثمة مشكلة، هنا، تخص العراق أكثر من غيره. فبلورة خطاب وطني يجمع هدفي الاستقلال والديموقراطية يقتضي غالباً ظهور زعيم يتمتع بحضور قوي أو شخصية "كاريزماتية". وفضلاً عن أن القوى الوطنية العراقية لم تفرز مثل هذا الزعيم، وأن تركيب المجتمع في حاله الراهنة يمكن أن يفرز زعماء دينيين وعشائريين بالأساس، فالشعب العراقي قد لا يكون مستعداً لقبول زعيم قوي الشكيمة لأنه يذكر بالقائد الفرد الملهم المهيب صانع المقابر الجماعية. ومع ذلك سيجد العراقيون الصيغة الملائمة لهم لتحقيق أهدافهم الوطنية والديموقراطية، مثلما وجدها المصريون قبل ما يقرب من قرن من الزمن. والى أن يحدث ذلك، علينا أن نفهم ونقدر الظروف التي يمر فيها الشعب العراقي، خصوصاً إذا كان في تاريخنا ما يشبهها بدرجة ما وبصورة ما. * كاتب مصري مساعد مدير مركز "الاهرام" للدراسات السياسية.