سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"حركة القوميين العرب بين 1951 و1961": أوائل سورية والعراق ومصر ."عصبة العمل القومي"و"جمعية الجوال العربي" والبدايات الاولى للقاءات تعاون مع العناصر العسكرية 3 - 6
} نتابع في ما يلي نشر فصول من كتاب جديد عنوانه "حركة القوميين العرب نشأتها وتطورها عبر وثائقها، الجزء الأول 1951 - 1961"، يصدر قريباً عن "مؤسسة الأبحاث العربية" في بيروت بتحرير هاني الهندي وعبدالإله نصراوي. تُنشر الفصول في ست حلقات أيام الاثنين والخميس والسبت، وهنا الحلقة الثالثة: في سورية، أكثر من أي قطر عربي آخر، تزايد خوف المثقفين القوميين الشباب من انغماس رجالات الرعيل الأول - خصوصاً بعد تصفية الثورة السورية الكبرى في عام 1927 - في العمل الوطني المحلي، بل اندفاع بعض أولئك القادة لإيجاد صيغة سياسية للتعاون والتفاهم مع سلطات الانتداب الفرنسي، وبسبب ضعف الروابط السياسية والتنظيمية بين أبناء ذلك الرعيل، إذ كانت الروابط بينهم مرتكزة، الى حد بعيد، على العلاقات الشخصية، بل كان هناك "خوف شديد من أن تكون الكتلة الوطنية قد انجرفت بعيداً عن تراثها العروبي المتجذر في الجمعيات السرية وتجارب الماضي الشخصية، وباتجاه وطنية سورية محلية، وكانت سياسة "التعاون النزيه" التي اتبعتها الكتلة أفضل مؤشر على هذا الانفصال عن الماضي، وعن المبادئ الأساسية للحركة...". كان القوميون في سورية كثيرين، وتعددت مجموعاتهم في المدن خصوصاً. لكن "جمعية التحرير العربية" نجحت نجاحاً فاعلاً في تجنيد عناصر كثيرة، واعتمدت في بنائها على نظام الخلايا السرية المقفلة، فكانت الواحدة منها تتألف من 3 الى 5 أعضاء. وقد ركز القوميون عموماً، و"جمعية التحرير العربية" خصوصاً، نشاطهم على الحركة الكشفية ووجدوا فيها وسيلة، بل غطاء مناسباً للعمل القومي، وكان الدكتور رشدي الجابي الرئيس الأول والأوحد لاتحاد الكشافة السوري خلال أيام الانتداب، غير ان شؤون "الاتحاد" اليومية تُركت للمدير التنفيذي علي عبدالكريم الدندشي". واهتم القوميون، وخصوصاً من عناصر "جمعية التحرير العربية"، بانشاء الأندية الثقافية والاجتماعية والرياضية ذات التوجه القومي: فأسس الدكتور ظافر الرفاعي "النادي الثقافي العربي" في حلب، لكن "النادي العربي" في دمشق الذي أسسه الدكتور سعيد فتاح الإمام في شباط فبراير 1937 كان هو الأهم والأكثر فاعلية ونشاطاً، إذ أصبح "في نهاية الثلاثينات تنظيماً علمانياً عروبياً يضم 108 أعضاء منتظمين، منهم 26 امرأة متعلمة. وكان لديه توجه نخبوي، فحاول جمع أفضل العناصر تعليماً في دمشق، سعياً وراء تحقيق أهدافه". وشارك النادي بفاعلية بارزة في نشاطات "جمعية الدفاع عن فلسطين" وجمع التبرعات لها ودعم الثورة الفلسطينية. ولعبت عناصر أساسية من أعضائه دوراً مهماً في مؤتمر بلودان الذي عقد في تموز يوليو 1937 من أجل قضية فلسطين. وأهم ما قامت به مجموعة "جمعية التحرير العربية" إعدادها الناجح لعقد مؤتمر سري بقصد تأسيس حزب علني يطرح الفكرة القومية العربية بشكل واضح وصريح ومباشر. وكان فريد زين الدين هو الذي لعب الدور المركزي في دفع هذا المشروع الى الواقع السياسي وساعده في ذلك واصف كمال وعلي عبدالكريم الدندشي. وبعد اتصالات سرية مكثفة تم الإعداد لذلك المؤتمر الذي عقد في قرية "قرنايل" - بلبنان - في 24/8/1933 واستمر خمسة أيام، حضره نحو ثلاثين عضواً من أصل خمسين مدعواً، فقد تغيب عدد كبير بسبب اجراءات الأمن الفرنسية والرقابة السياسية الشديدة. وكان معظم المشاركين من سورية مثل عبدالرزاق الدندشي وصبري العسلي وأحمد الشرباتي وعبدالكريم العائدي وشفيق سليمان وجلال السيد وفهمي المحايري وأبو الهدى اليافي وعدنان الأتاسي وعرفان الجلاد وعلي عبدالكريم الدندشي. وشارك من لبنان علي ناصر الدين وشوقي الدندشي وفريد زين الدين. ومن فلسطين أكرم زعيتر وواصف كمال. وجاء من العراق ناجي معروف وصادق البصام وعبدالمجيد عباس، واتفق هؤلاء على تأسيس حزب علني هو "عصبة العمل القومي". كانت أهم انجازات المؤتمر ان أعضاءه وضعوا دستوراً "جسّد مفهوم الأمة العربية والقومية العربية على أسس علمانية" - كما قال علي ناصر الدين، أحد أبرز قياديي "عصبة العمل" - وبالتالي "كنا أول من عرّف القومية تعريفاً صحيحاً واضحاً وحددنا قضية العرب - وقضية لبنان جزء منها - تحديداً علمياً قومياً سياسياً. وفرقنا بين الجامعة الاسلامية كما يسمونها، والجامعة العربية. وقلنا بهذا وعملنا له، ودعونا الى القول والعمل...". وقد تم إقرار الدستور بعد مناقشات طويلة وساخنة. وكان الإنجاز مهماً إذ تشكل حزب قومي عربي علني له دستوره المميز. وقبيل انتهاء المؤتمر اختار الأعضاء المحامي عبدالرزاق الدندشي رئيساً لهذا التنظيم القومي الجديد. تعتبر "جمعية التحرير العربية" أن "عصبة العمل القومي" هي الواجهة السياسية والحزب القومي العلني لتنظيمها السري. ولكن الأهم من هذا الاعتبار "ان عصبة العمل استطاعت من خلال عملها المرتبط بالجماهير مباشرة ان تعبر نظرياً وعملياً عن طموحات هذه الجماهير السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن تكون "حركة قومية جماهيرية" لم تعرفها الأحزاب النخبوية العربية التي ظهرت خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، ولا الأحزاب التي عاصرتها في الثلاثينات، وذلك بفضل قيادييها المتنورين من البورجوازية الوسطى والصغيرة والليبرالية المسلمة والمسيحية الذين تخطوا في وعيهم السياسي والقومي القيادات الاقطاعية والبورجوازية العليا التي كانت توجه تلك الأحزاب...". ونشطت "عصبة العمل القومي" في سورية ولبنان في شكل أساسي، وكان لها قواعد ناشطة وفاعلة في الأوساط الطالبية وبين المثقفين، وخصوصاً في دمشق وحمص وطرابلس وبيروت. وكان لها جريدتها الأسبوعية "العمل القومي" التي كانت تصدر في دمشق، ولكن يصعب القول انها شكلت "حركة قومية جماهيرية" باستثناء ما قدمته من دور نضالي مميز في اللواء السليب الاسكندرونة وانطاكية في مقاومة السياسة الاستعمارية الفرنسية التي عملت على سلخ هذه المنطقة العربية عن سورية وإلحاقها بالجمهورية التركية في مقابل ان تنضم الأخيرة الى دول المحور ألمانيا النازية وايطاليا الفاشية. وكان زكي الأرسوزي - من قيادات العصبة - هو البطل المناضل في تلك المقاومة التي سحقها الفرنسيون والأتراك. وإضافة الى ذلك فقد تعرّضت عصبة العمل لمقاومة شديدة من جانب السلطات الفرنسية كما عمل رجالات الكتلة الوطنية على إضعافها والتآمر على وحدتها. وقد فتر نشاطها وتجمد مع نشوب الحرب العالمية الثانية في أيلول سبتمبر 1939 بإعلان حال الطوارئ وقوانين الأحكام العرفية. أدرك دعاة الفكرة القومية العربية أهمية التربية والتعليم والتثقيف الشعبي في نشر أفكارهم، فركزوا اهتماماً خاصاً في بلاد الشام على الإفادة من المدارس والمعاهد التربوية الخاصة والحركة الكشفية والأندية والصحف في تربية الجيل العربي الجديد. إلا أن المجال للتبشير والتنظيم كان في العراق أوسع وأعرض، وذلك لأن "الدولة" شجعت - على رغم اعتراض المستشارين الانكليز المنتشرين في المؤسسات الرسمية كافة في العراق - على نشر الفكرة القومية. وقد أحسن "الحكم الوطني" الذي قام فيصل بن الحسين على رأسه، في الافادة من مؤسستي التربية والجيش عند تأسيس "المملكة العراقية" في آب اغسطس 1921، ونجح في وضعهما في خدمة هذه الفكرة القومية ونشرها وترسيخها. وكان ساطع الحصري - من أبرز أعوان الملك فيصل - قد لعب دوراً طليعياً متميزاً في وضع تلك البرامج التربوية ذات التوجه القومي، وعرف عنه التزامه الشديد بتلك المبادئ ومناقبيته. في هذا المجال التربوي تقول باحثة اميركية "ان العراقيين استخدموا المدارس وسيلة لتحقيق هذا الهدف - زرع العقيدة القومية -. وكان الثلاثة الأساسيون في فترة 1921 - 1941 هم ساطع الحصري وفاضل الجمالي وسامي شوكت... والظاهر ان المربين العراقيين أعجبوا بما قيل عن دور "المعلم البروسي" بأنه هو الذي كسب الحرب البروسية - الفرنسية في عام 1870 التي تحققت بها وحدة ألمانيا، وليس "الضابط البروسي"، وأن هؤلاء التربويين العرب تأثروا بأفكار فيخته في إلحاحه على دور التربية في تحقيق الوحدة القومية الألمانية. ولتحقيق مثل هذه البرامج الطموحة، فقد كانت الحاجة ماسة لإحضار معلمين أكفاء، وفتح العراق أبوابه لاستقبال العشرات، بل المئات من المدرسين العرب من بلاد الشام ومصر. وكان درويش المقدادي من أوائل الأساتذة الذين قدموا الى العراق عام 1924 للتدريس في مدارسه المختلفة كاستاذ لمادة التاريخ العربي، وكان له دور كبير في ترسيخ هذه الفكرة القومية ونشرها بين الآلاف من طلابه الذين درسهم في الثانويات ودور المعلمين، وعرف عنه تجسيده للمثل والقيم والأخلاقيات التي بشر بها طوال سنوات عمله في العراق حتى نهاية أيار 1941 إذ سجنه البريطانيون بقية أعوام الحرب العالمية. الى جانب برامج التعليم التي وضعها الحصري فقد كتب الكثير مشجعاً الدولة على إقرار قانون التجنيد الاجباري، ونجح أيضاً في تأسيس نظام الفتوة لطلاب المدارس العراقية في مراحل التعليم الثلاث، حيث أصبح التدريب العسكري مادة أساسية في برامج التعليم، خطط له ونفذه ضباط جرى انتقاؤهم بعناية خاصة. وفي الثلاثينات شهد العراق نشاطاً سياسياً وفكرياً لافتاً، فتأسست أحزاب عدة وظهرت أندية أدبية ورياضية واجتماعية كثيرة في مختلف المدن العراقية الرئيسية. وكانت هناك هيئتان قوميتان لعبتا دوراً مهماً في الأوساط الثقافية في بغداد خصوصاً. كانت "جمعية الجوال العربي" أقدم الهيئات القومية في فترة ما بين الحربين العالميتين وقد أسستها جماعة من المعلمين القوميين خلال السنة الدراسية 1929 - 1930 في العاصمة. وتذكر دراسة اكاديمية عراقية ان "المقدادي كان رائد جمعية الجوال في عشرينات القرن العشرين... وشاركه في هذا المسعى متّى عقراوي وخالد الهاشمي وناجي معروف وسليم النعيمي ومزاحم الشابندر... وتورد هذه الدراسة اسماء 139 جوالاً من أعضاء الجمعية من المعلمين العراقيين والعرب من مصر وبلاد الشام. وفي عام 1934 أجيزت هذه الهيئة رسمياً باسم "جمعية الجوال العربي" واختير الاسم على اعتبار ان الأعضاء دعاة القومية العربية العاملين على بعث الفتوة العربية الاسلامية "سيتجولون" في أنحاء العراق والوطن العربي لنشر مبادئهم". وفي هذه الدراسة ونقلاً عن أحد قيادييها "فإن الجمعية مع الكثير من الهيئات والمؤسسات القومية كانت إحدى واجهات التكتل القومي السري... وكان لها ارتباط سري على مستوى البلاد العربية". وضع الجوالون وثيقة فكرية وسياسية مهمة جداً سموها "المنهج القومي العربي" في حزيران يونيو 1935، ومن المواد اللافتة تلك النظرة القومية الحكيمة لمسألة "الأقليات" فقد ميزوا بشكل واع وسليم الفارق بين من سمّوهم "اخوان العرب وبين الجماعات المعادية، وفي ذلك الوقت المبكر جداً. فقد أكد هؤلاء أن "القومية العربية تنظر من جهة الى الجماعة المؤاخية للعرب كإخوان للعرب: البربر في الغرب، وإخوانهم الأكراد في الشرق، ممن هم أهل البلاد المشتركون فيها مع العرب - الذين تربطهم وإياهم أواصر القربى الواشجة والمصالح المشتركة المتبادلة والصلات الثقافية والتاريخية القوية - نظراً ترعى فيه حقوقهم وتكفل لهم المساواة التامة في الحقوق والواجبات مع العرب، وتضمن لهم رعاية رغائبهم الخاصة بهم رعاية تامة ضمن حدود الدولة السياسية، وترى أن ذلك متفق مع الحق ومع الهدف القومي العربي، وانه في مصلحة الأمة العربية. وتنظر من جهة أخرى الى الجماعات المعادية للعرب المغتصبة لبلادهم كالصهيونيين في جنوب الشام والفرنسيين والايطاليين النازحين الى شمال افريقيا وأمثالهم، الذين يستندون الى تأييد استعماري ويؤيدون الاستعمار وغرضهم تسخير العرب واستغلالهم - نظرها الى المستعمرين أنفسهم - وترى أن استمرارهم على حالهم وعنتهم إن هو إلا تثبيت لظلم نازل في الأمة العربية وأن رعايتهم رعاية للغاصبين". وفي عام 1935 حين تأسس "نادي المثنى بن حارثة الشيباني" انضمت "جمعية الجوال العربي" للنادي نظراً لتماثل المبادئ والتوجهات السياسية وتشابهها، واحتفظت الجمعية بوضع اداري خاص. كان "نادي المثنى بن حارثة" هو الهيئة القومية الثانية ذات الدور المهم في التيار القومي. واذا كانت "جمعية الجوال" قد أسسها المدرسون وطلاب دار المعلمين، فإن النادي أسسه "عدد من الشخصيات القومية المعروفة، من بينهم: صائب شوكت والطبيب صبري مراد وخالد الهاشمي وعقراوي والمقدادي. وقد أجيز النادي رسمياً في شباط فبراير 1935، وتشكلت الهيئة الادارية من صائب شوكت رئيساً ومحمد مهدي كبه نائباً للرئيس وعبدالمجيد قصاب سكرتيراً وسعيد الحاج ثابت أميناً للصندوق. ومن قراءة النظام الداخلي للنادي يلحظ المرء أن التشابه مع الجوالين عميق، وأن اهداف النادي الأساسية هي اثنان: الأول فكري وثقافي يتناول الشعور القومي والثقافة العربية والتراث. والثاني رياضي يتناول جسم الانسان...". لعب هذا النادي دوراً تاريخياً في تطوير الفكرة القومية والعمل القومي في العراق، وكان بمثابة قيادة سياسية للتيار العربي وتبنى بقوة كفاح سورية ولبنان ضد فرنسا وكفاح شعب فلسطين ضد بريطانيا والصهيونية. وفي أحضان النادي تشكلت "جمعية الدفاع عن فلسطين" التي افتتحت فروعاً لها في المدن العراقية وجمعت تبرعات وأموالاً كبيرة لنصرة كفاح فلسطين. وترك نشاط النادي آثاره العميقة في مختلف الأوساط العراقية والعربية من خلال مجلة النادي ومحاضرات أعضائه وضيوفه القادمين من مختلف الأقطار العربية. كما وقف النادي مؤيداً للحركة الدستورية في الكويت في عام 1938، وعرف ذلك العام حركات اصلاحية مهمة في ثلاث مدن تجارية ساحلية في الخليج العربي. وإضافة الى ذلك أقام نادي المثنى علاقات مهمة مع أندية وهيئات قومية في بلاد الشام ومصر، وشارك في بعض نشاطات تلك المنظمات العربية. واستمرت مساهمات النادي في دعم التيار القومي، ووقف معظم رموزه الى جانب حكومة الدفاع الوطني التي تشكلت بعد هرب الوصي على العرش - الأمير عبدالإله - الى القواعد العسكرية البريطانية في نيسان ابريل 1941. وقد أقفل النادي وتعرضت قياداته لاضطهاد بعد احتلال بريطانياالعراق في آخر أيار مايو 1941. كان الانجاز كبيراً في ميدان العمل القومي من خلال برامج التعليم ونشاطات الأندية والجمعيات القومية المختلفة. وكذلك كان للجيش دوره المهم في هذا الميدان، فقد أنشئت المؤسسة العسكرية العراقية في صيف 1921، وكانت نواتها الأولى من الضباط المسيّسين ممن خدموا في الجيوش التركية وشارك معظمهم في الثورة العربية ضد السلطنة العثمانية 1916 مع فيصل بن الحسين. ولعبت طبقة الضباط هذه دوراً كبيراً في بناء الدولة الجديدة، وتمتع هؤلاء بنفوذ كبير ومؤثر في مسار الحكم الملكي. وفي 29/10/1936 قام أحد قادة الجيش بأول انقلاب عسكري عرفه الوطن العربي بقيادة الفريق بكر صدقي وكان "وطنياً عراقياً"، لكن عهده لم يطل إذ اغتيل في 11/8/1937، وبقي الجيش منذ تلك الحادثة تحت توجيه كتلة قومية من الضباط قادها صلاح الدين الصباغ. وقد وصفت الباحثة الأميركية سيمون هذه المجموعة بأنها "مثلت جيلاً انتقالياً. فقد درسوا في المعاهد العثمانية، لكنهم اختلفوا عن الجيل السابق، فلم يكونوا مؤيدين لبريطانيا، ولا للأتراك، كما لم يكونوا قوميين عراقيين... كانوا قوميين عرباً ناضلوا من أجل استقلال العراق عن بريطانيا ولتحرير سورياوفلسطين من الحكمين الفرنسي والبريطاني. وعليه، كان العمل مع بريطانيا يعني بالنسبة لهم خيانة وليس البراغماتية...". لقد لعب الجيش في هذه المرحلة دوراً مهماً في دفع السياسة العراقية نحو تبني موقف تحرري عربي، وأصبح العراق قاعدة للعمل القومي وملجأ للأحرار العرب، خصوصاً بعد أن تم التنسيق والتعاون، في العراق، بين التيار القومي والمؤسسة العسكرية، وكان ليونس السبعاوي دوره الكبير في توفير تلك العلاقات الايجابية البناءة. وعن مصر لن يكون جديد اذا قلنا انها لعبت تاريخياً دور القاعدة الكبرى في حماية المشرق العربي من غزوات أجنبية عدة، وانها حفظت وحافظت على استمرارية الحضارة العربية وثقافة هذه الأمة في وجه العواصف والأعاصير المختلفة خلال القرون السالفة. وكان دورها في اليقظة العربية المعاصرة رائداً ومؤثراً ومتقدماً من خلال مؤسساتها وصحافتها ونضالها المتنوع ضد الاستعمار والاستبداد والطغيان منذ أوائل القرن التاسع عشر. ولكن ماذا عن دورها القومي في مرحلة ما بين الحربين العالميتين؟ عرفت مصر منذ بداية القرن العشرين تيارات فكرية سياسية مختلفة، لكن موقف غالبية المثقفين المصريين كان سلباً من الدعوة القومية، وخصوصاً أيام الثورة العربية الكبرى 1916 - 1918، بل كانوا متشككين مرتابين من هذا التيار ودعاته بسبب تحالف الثورة مع بريطانيا ولمحاربتها السلطنة العثمانية التي كان لها أنصارها في أرض الكنانة. لكن هذه الصورة بدأت تتغير بسرعة بعد ثورة العراق ضد الانكليز في حزيران 1920، وبعد معركة ميسلون 24 تموز يوليو 1920، وبعد الثورة السورية الكبرى ضد فرنسا 1925 - 1927، ولجوء العشرات من المثقفين والمناضلين السوريين الى مصر، بعد أن سحقت فرنسا تلك الثورة. وكان أبرز أولئك المثقفين النشطاء عبدالرحمن الشهبندر، الذي استقر في القاهرة لسنوات عدة. ثم جاءت ثورة عمر المختار في برقة وطرابلس في أعوام 1928 - 1932 ضد الحكم الفاشي الايطالي، فأخذ هذا التحول طابع التأييد والدعم لتلك الثورات العربية، وبدأ ينتشر ويترسخ. من أواخر العشرينات وحتى الثلاثينات شهدت مصر معارك فكرية وسياسية وأدبية وصراعات وسجالات حادة. فقد عرفت معركة العربية والفرعونية، والوحدة العربية، واللغة العربية الفصحى والعامية، والكتابة بالحروف اللاتينية، ومعركة كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين، وقبلها معركة كتاب الاسلام وأصول الحكم لعلي عبدالرازق. وكانت سنة 1933 معركة العروبة في مصر، عندما وردت عبارة مشؤومة في مقال لطه حسين وفيه "ان المصريين خضعوا لضروب من البغض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان، وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين". وانقسم الكتّاب المصريون الى فريقين كان أنصار العروبة هم الأكثر والأقوى حجة. عن مضمون ذلك التأييد المصري للثورات العربية والاندفاع من أجل عروبة أرض الكنانة يقول محمد جابر الأنصاري: "ان احتجاجات المصريين ومعارضاتهم كانت دفاعاً عن الاسلام وليس باسم القومية العربية. لقد كانت فلسطين هي العامل الحاسم الذي حوّل السياسيين المصريين نحو سياسة عربية شاملة، فالاستعمار الصهيوني والسياسة البريطانية واضطرابات العرب وثوراتهم المتكررة ما بين عامي 1936 و1939 كان لها الأثر الحاسم في الرأي العام المصري الذي أسهم في نمو المنظمات الاسلامية وتزايد قوتها..." وقد ميز الأنصاري بين "التحول نحو العروبة" الذي سماه "تعريب مصر سياسياً"... وبين تعريبها العقيدي اللغوي الثقافي والحضاري عموماً، فأرجع "التعريب السياسي" الى "الفترة التكوينية الخصبة الواقعة بين 1930 - 1936 في حين تم "التعريب الحضاري" في عهد التعريب الاسلامي بعد عصر الفتح، شأنها في ذلك شأن الأقطار التي تعربت خارج الجزيرة العربية". وعلينا أن نذكر هنا انه اضافة الى ما تقدم فقد كان القوميون العرب يركزون اهتماماً خاصاً على دور مصر في معركة التحرير والتوحيد. وكانت البلدان العربية، المشرقية خصوصاً، تنظر الى مصر ومثقفيها نظرة تقدير ومحبة واحترام وكان القوميون ينتظرون الدور المصري في معركة العروبة بشوق بالغ. ومن هنا كان العراق يرحب بحرارة بالمثقفين المصريين والأساتذة الذين درسوا في المعاهد التربوية والعلمية في العراق. وكان للحصري والسبعاوي والمقدادي وزين الدين وغيرهم محاضراتهم عن أهمية مصر ودورها في النضال القومي ومستقبل المشروع النهضوي العربي. ظهرت في الثلاثينات في مصر أندية وهيئات ذات توجه عربي، لعل الأبرز بينها كانت "رابطة الاتحاد العربي" التي ترأسها محمد علي علوبة، وصدرت مجلات ودراسات مهمة أكدت كثيراً على التوجه العربي لمصر. وشاركت قيادات مصرية في المؤتمرات العربية التي عرفتها المنطقة بدءاً من مؤتمر القدس 1931 في شأن مستقبل فلسطين. ان التحول السياسي العربي في مصر سيترك آثاره العميقة في الأربعينات وما تلى ذلك من أحداث سياسية مهمة في الخمسينات والستينات. وكان تجذر الدعوة القومية العربية في مصر بداية تحولات مهمة في تاريخ الأمة، فقد انتقلت هذه العقيدة السياسية من أطراف الوطن الى قلبه ومركزه الأساسي، حيث الوزن السياسي والاقتصادي والفكري والأدبي والبناء الهيكلي للدولة العصرية الذي عرفته مصر منذ القرن التاسع عشر. نعود الى ما تركته الحرب العراقية - البريطانية من آثار، فإذا كانت الهزيمة قد أصابت التيار القومي فقد أدرك البريطانيون ان النقمة الشعبية في الوطن العربي ازدادت واتسعت. ومن هنا يمكن ان نرى في خطاب أنطوني إيدن - وزير خارجية بريطانيا في مجلس العموم في 29/5/1941، أي قبل سقوط بغداد بيومين - محاولة تهدئة خواطر الجماهير العربية. فماذا قال ذلك المسؤول الانكليزي؟ "... ان العالم العربي قد خطا خطوات عظيمة منذ التسوية التي تمت عقب الحرب العالمية الماضية. ويرجو كثير من مفكري العرب للشعوب العربية درجة من الوحدة أكبر مما تتمتع به الآن. وإن العرب يتطلعون لنيل تأييدنا في مساعيهم نحو هذا الهدف... وحكومة جلالته سوف تبذل تأييدها التام لأية خطة تلقى موافقة عامة". كان هذا البيان السياسي مهماً جداً، وقد استقبله العرب بالترحيب، كما يقول علي المحافظة. وعلى أية حال فقد كان بداية ما سمي "بمشاورات الوحدة العربية" التي بدأت في القاهرة في ربيع 1943 أيام مصطفى النحاس - زعيم حزب الوفد، أكبر الأحزاب المصرية، بل والعروبية -. وحضرت وفود عربية رسمية من العراق وسورية ولبنان والسعودية وشرقي الأردن واليمن وأجرت مشاورات مع الحكومة المصرية، وانتهت بتوقيع الدول السبع على بروتوكول الاسكندرية في 7/10/1944، إذ اعتبرت الوفود نفسها "لجنة تحضيرية للمؤتمر العام، وتم الاتفاق بينهم على تأليف جامعة الدول العربية" في شكل يرضي السعودية ولبنان، حيث كان هذان النظامان حريصين كل الحرص على "تجميد الأوضاع السياسية القائمة"، فقد خشيا أن يكون قيام الجامعة العربية بداية لتقارب أو اتحاد عربي جاد. وتحقق ذلك ووقّع على الميثاق في 22/3/1945، واختير عبدالرحمن عزام أميناً عاماً للجامعة. وعلى أية حال، لم تكن المؤسسة العربية الجديدة "بديلاً من الوحدة أو الاتحاد، وإنما كانت بديلاً من حال الفوضى وعدم التنسيق القائمة بين دولهم قبل قيامها. واعتبرها القوميون العرب نقطة بداية وخطوة أولى نحو تحقيق غايتهم المنشودة". لقد جاءت جامعة الدول العربية "محاولة" لامتصاص التوق العربي للتعاون، بل اتحاد بين تلك الدويلات. إلا أنها عملياً دفعت الأمور نحو تجميد "الأوضاع العربية الراهنة" على ما هي عليه. وبعد أقل من ثلاث سنوات، أقرت الهيئة العامة للأمم المتحدة قراراً بتقسيم فلسطين وإقامة دولتين: يهودية وعربية. وفي 15/5/1948 أعلن قيام اسرائيل. وخاض العرب - بل قل دولهم المنقسمة على نفسها - حرباً ضد الصهاينة، فانكشف عجز الجامعة بسبب شدة الخلافات بين أعضائها وقامت للعدو الصهيوني دولة في فلسطين بعد أن شرد شعبها وطرد من وطنه. بكلمة، كانت جامعة الدول العربية بداية رغب بها القوميون خطوة في مسيرة طويلة، لكن ميثاقها اعترف "بالهوية العربية"، فقط، وفي الوقت نفسه أقرّ التجزئة والحدود التي رسمتها اتفاقيات ومعاهدات "سايكس - بيكو" و"العقير" وغيرها، ودعا لاستمراريتها وتجميد التوجهات القومية الداعية للتكامل والاندماج.