كثير هو ما يسمعه المرء هنا أو يقرأه هناك تعبيراً عن أمنيات عربية في نهوض قوة دولية توازن القوة الاميركية أو تعادلها. ويصل الامر احياناً الى حد الرهان على دولة منهارة تقريباً مثل روسيا التي أفاق رئيسها بوريس يلتسن وأراد ان يزايد على معارضيه بكلام يوحي ظاهرياً بأن بلاده مازلت لها كلمة على الصعيد الدولي. ويبدو أن طول عهدنا في العالم العربي بأسلوب اللعب على التناقضات الدولية يؤدي بنا الى إساءة قراءة العالم الراهن الذي لم يعد هذا الاسلوب مجدياً بأي مقدار في التعاطي معه، بافتراض انه كانت له جدوى في أي وقت. وهذا أسلوب اقدم مما يتصور كثيرون. فهو يعود الى مطلع القرن العشرين عندما ظهر كأحد أهم مكونات المنهاج الذي اتبعه الحزب الوطني القديم في مصر ضمن كفاحه ضد الاستعمار البريطاني، وتم احياؤه بعد ثورة 1952 ليتحول الى تقليد مستمر في السياسة الخارجية المصرية حتى انتهاء عصر الحرب الباردة والقطبية الثنائية. وصار هذا الأسلوب حلاً سهلاً يعوض ضعفنا وعجزنا عن بناء القوة الذاتية، ويلهينا عن السعي الى هذا البناء، بل يوحي الينا احيانا اننا اقوى واذكى من كل من نستغل التناقضات بينهم. ولم لا، ونحن نظن ان التناقضات الدولية مصدر قوة لنا؟ ولم تكن اكبر كارثة تعرضنا لها في القرن العشرين، وهي هزيمة 1967، إلا نتاجاً في احد اهم أبعادها لأسلوب اللعب على التناقضات الدولية والاستعاضة به عن بناء قوتنا، حتى اذا ادى ذلك الى تحول مصر الى منطقة نفوذ سوفياتية. وهو ما بدا أن بعض انصار هذا المنهاج فرحوا به و افتخروا بدلاً من أن يحزنوا ويخجلوا. لذلك كان ضرورياً أن يبرر بعضهم ذلك بأن الرئيس جمال عبدالناصر طلب وجود القوات السوفياتية ليس تهرباً من اداء الواجب الوطني ولا اتكالاً على قوة الاصدقاء فقط، وانما طلب ذلك إدراكا منه بأن خطة الامبريالية الصهيونية المشتركة التي فشلت في إسقاط النظام بعد هزيمة 1967 بدأت في شن حرب مباشرة ضد معنويات واقتصاد الشعب المصري. وهكذا وصل أثر هذا المنهاج عندما صار موجهاً الى السلطة الى الحد الذي احتجنا معه الى حماية اجنبية فعلية. وهذا هو ما لاحظه صلاح عيسى، في مقالة بديعة له "الجمهورية" القاهرية 22/4/99 عن علاقتنا مع العالم في نهاية القرن العشرين، فقد لاحظ اننا تعودنا أن نلعب على التناقضات بين الكبار ونبتز كل قطب بالآخر، فنستعين بالاتراك على الفرنجة وبالفرنسيين على الانكليز والعكس، ويقول بعضنا للاميركان: هاتوا دولارات احسن وكتاب الله تصبحوا تلاقونا شيوعيين، بينما يقول البعض الآخر للسوفيات: هاتوا طيارات احسن وحياة "الميثاق" و"بيان 30 مارس" نقلبها اميركاني ونطيّن عيشتكم. ومع اننا اخذنا دولارات وروبلات من هؤلاء واولئك، فضلاً عما توفر لنا مما تختزنه أراضينا من ثروات طبيعية وخصوصاً النفط، الا اننا لم نستثمر ذلك ولم نستطع ان نبني منه قوة ذاتية تحسن اوضاعنا نسبياً بالقياس الى الكبار. وهكذا تمكن منا اسلوب اللعب على التناقضات الدولية منذ الخمسينات، الى المدى الذي كانت حكومات عربية تمارسه باعتباره قمة المهارة السياسية، فيما أفاض مثقفون في شرح ما ينطوي عليه من عبقرية، مقتفين في ذلك اثر الزعيم المصري مصطفى كامل الذي سبق الى التنظير لهذا الاسلوب في كتاب مبكر صدر في العام 1898 تحت عنوان "المسألة الشرقية". عالج ذلك الكتاب قضية مصر على انها فصل من فصول المسألة الشرقية، وحددها في النزاع القائم بين بعض الدول الاوروبية والدولة العثمانية على البلاد التابعة لها، وخصص فصلاً في هذا الكتاب للمسألة المصرية. ويوضح مضمون هذا الفصل حجم الاوهام التي تعلق بها مصطفى كامل في تطلعه الى تحرك الدول الاوروبية المضارة من الاحتلال البريطاني لمصر. بل تصور ان مصالح هذه الدول في مواجهة خطر استئثار انكلترا بقناة السويس ستدفعها الى السعي لتحرير مصر. وكان مصطفى كامل هو اول من تطلع الى صعود دور المانيا بفعل تنامي مصالحها التي توهم انها ستدفعها الي السعي لتخليص مصر من الانكليز، ولم يأخذ درساً من الاتفاق الودي البريطاني - الفرنسي في نيسان ابريل 1904 على اطلاق يد لندن في مصر مقابل عدم تدخلها في سيطرة باريس على المغرب العربي. وكان تعويله على التناقضات الدولية مرتبطا بمنهاج متجه بطابعه الى الخارج دوماً يبحث فيه عن الداء والدواء. لذلك يصعب قبول ما ذهب اليه البعض من ان مصطفى كامل كان حسن النية بفرنسا، وبالتالي ركّز على الاعلام السياسي الذي كان يقوم به على ارضها. فلم تكن المشكلة في حسن النية وانما في سوء التقدير وضعف الرؤية، وهما من سمات اسلوب اللعب على التناقضات الدولية. والأرجح ان هذا الاسلوب الذي ورثته قطاعات من التيارات القومية والاسلامية واليسارية وتبنته ثورة 1952، لا يمكن الا ان يقود الى الخروج من تبعية الى اخرى. وكانت الفترة الوحيدة في القرن العشرين التي تحررت فيها السياسة المصرية نسبياً من هذا المنهاج، هي فترة ما بين الثورتين 1919 و1952، اقل الفترات تبعية. فهي الفترة التي شهدت نضالاً مستمراً للتحرر من الاستعمار الانكليزي من دون الاعتماد على دولة او دول اخرى. وعلى رغم ان عوامل سياسية واجتماعية اضعفت امكانات بناء نهضة ذاتية خلالها فقد شهدت مصر تقدماً معقولاً في الاقتصاد والتعليم والديموقرطية وهذه هي المقومات الثلاث الكبرى لأي نهضة تحقق قوة ذاتية. وارتبط تراجع هذه المقومات بعد ثورة 1952، باستثناء التعليم بدرجة ما ومن حيث الكم لا الكيف، باستعادة منهاج اللعب على التناقضات الدولية، الذي اوقع مصر في شراك الولاياتالمتحدة، فلم تكد تتفاداها حتى سقطت في براثن الاتحاد السوفياتي في اطار علاقة سقيمة حجب ثمنها الفادح في 1967 أي عوائد ايجابية لها. لقد وضعت جماعة الحزب الوطني القديم اساس هذا التقليد المسؤول عن قدر يعتد به من هزائمنا وخسائرنا خلال القرن العشرين، في الوقت الذي كان منافسه حزب الامة يحذر من مغبته ويوضح كما كتب سكرتيره المفكر الليبرالي أحمد لطفي السيد انه يجب ألا نقع مرة ثانية في حبائل ذلك الوهم القديم الذي كان يراود امتنا الوقت بعد الوقت، اذا كان يقال لنا مرة ان فرنسا ستحرر بلادنا ومرة ان الدولة العلية بحقها علينا تسفك دماء ابطالها لتخرج الانكليز من بلادنا، ثم هي بعد ذلك تتركنا لأنفسنا في بلادنا أحراراً نتصرف فيها بما نشاء. لا بد لنا من عزة تربأ بنا عن ان نطلب من غيرنا ان يأتي يحرر نفوسنا من الرق وقلوبنا من عبادة القوي. ان الاعتماد على الموازنة الدولية صار من المودة القديمة فلا ينفع مصر شيئاً كثيراً، انما الذي ينفعها هو الا تني لحظة واحدة عن العمل لذاتها وعن اثبات شخصيتها وميلها الى الاستقلال. وعندما ادرك قادة الحزب الوطني ان الاعتماد على تركيا لم يعد مجدياً ولا مأموناً في ظل ادارتها القائمة في بداية الحرب الاولى او لا يكفي وحده، لم يجدوا غضاضة في الوقوف مع المانيا من دون اي غطاء من النوع الذي كانت فكرة الجامعة الاسلامية توفره لتبرير الاعتماد على تركيا. فكأن محمد فريد زعيم الحزب الوطني اكتشف اخيراً في بداية الحرب العالمية الاولى ان لتركيا اطماعاً في مصر. ومع ذلك فقد رسم بقلمه شخصياً الصورة البائسة، من دون ان يدري انها كذلك بالطبع، لأسلوب اللعب على التناقضات، فهو يروي أنه ذهب الى الآستانة في ايلول سبتمبر 1914 بيما نذر الحرب تتجمع، وسعى الى مقابلة الخديوي الذي لم يكن اقل منه ولعاً بذلك الاسلوب. وعلم فريد، حسب روايته، ان هناك رأيين تنازعا الخديوي: أولهما الاتفاق مع الانكليز على إعطاء مصر الدستور، وثانيهما الاتفاق مع الاتراك على استرداد "استقلال مصر" بالقوة بمساعدتهم وعودة الحال الى ما كانت عليه قبل الاحتلال، و ان الخديوي يميل الى الخيار الثاني. وتدل مذكراته الى انه لم يحسم تفكيره في شأن الصورة المحددة للعلاقة مع تركيا اذا خرج الانكليز من مصر. فكانت تنتابه شكوك في نوايا تركيا تجاه حزبه بالاساس وازاءه هو شخصياً. وبدلاً من ان يعيد النظر في المنهاج الذي اتبعه، اذ به يستعين بقوة اخرى متحالفة مع تركيا للضغط عليها حتى تصدر ارادة سنية توضح نواياها تجاه مصر. بل حاول استعداء الالمان على الصدر الاعظم سعيد حليم باعتباره رجل الانكليز ولم يوافق على الحرب ضد دول المحور كما قال فريد لوكيل خارجية المانيا في 4 كانون الثاني يناير 1915. وفي الوقت الذي فعل ذلك، كان متخوفاً من ان تحتل المانيا مصر بدلاً من الانكليز، ولذلك تعبر مذكراته عن مدى الحيرة الناجمة عن أسلوب اللعب على التناقضات حين يصل متبعوه الى مأزق تاريخي حقيقي. كان يريد الاستعانة بالألمان ضد الاتراك اذا استبدوا بمصر بعد خروج الانكليز. وكان يخشى ألا يجد قوة دولية اخرى يلجأ اليها اذا انتصر الالمان وسيطروا على مصر. ولأن هذا منهاج لا يقود إلا الى تبعية، فقد اختار فريد الاعتماد على المانيا وتطلع الى قيامها بعمل عسكري ضد الانكليز في مصر. ويروي انه قابل السفير الالماني لدى الاستانة وتحدث معه في "تحرير" مصر من الانكليز، وعبر عن سعادة بالغة لأن السفير قابله بكل حفاوة ودعاني لتناول الغذاء مع عائلته وأجلسني عن يمين زوجته وهو أشرف وأرفع مكان في عرفهم. وكرر ورثة ذلك المنهاج الخطأ خلال الحرب الثانية، وعندما كان محمد فريد وجماعته يلعبون على تناقضات الحرب العالمية الاولى، لم يدر في خلدهم ان انكلترا يمكن ان تنتصر. ولذلك وقفوا في الصف المعادي لها بوضوح. ولو كان رجال حزب الامة وقعوا في هذا الخطأ الجسيم بدورهم لما كان في إمكانهم مواصلة دورهم الوطني والسعي الى الاستقلال في اعقاب حرب خرج منها الانكليز منتصرين. وليس أدل على ذلك من أن محمد فريد لم يكن قادراً على التحرك بحرية بعد انتهاء الحرب، فهرب الى ميونيخ واخذ يرسل رسائل لم تكن لها اي قيمة بطبيعة الحال. لأنه جعل نفسه جزءاً من المعسكر المهزوم، الى ان فوجئ بأنباء ثورة 1919 التي أثارت دهشته. ومع ذلك، لم تكن تلك التجربة المريرة كافية لوضع حد لأسلوب اللعب على التناقضات، فقد تم توارثه ضمن منهاج بكامله يتوجه الى الخارج اكثر من الداخل، كما لم تكن الكارثة التي ترتبت عليه وعلى عوامل اخرى بالطبع عام 1967 كافية لتجاوزه. فما زال هذا المنهاج مؤثراً على تفكير قطاع يعتد به من معظم التيارات السياسية العربية حتى الآن. وليست الآمال العريضة في صعود قوى دولية توازن القوى الاميركية وما يقترن بها من احلام في نظام عالمي أفضل، الا نتاجاً لذلك المنهاج. وهي احلام ننفق فيها وقتاً أكثر مما نخصص للعمل الجاد من اجل نهضة أمتنا وبناء قوتها الذاتية. وليس الرهان حالياً على اوروبا، اي على المستعمرين السابقين، إلا إعادة انتاج لتطلع جماعة الحزب الوطني الى مساعدة المانيا لنا لنتحرر من الانكليز. وحتى الرهان على اليابان ليس جديدا. فقد تطلعت أنظار مصطفى كامل اليها في وقت كانت بعيدة عن المنطقة مثل بعد الأرض عن "الشمس المشرقة" التي جعلها عنواناً لكتابه الذي تحدث فيه عن قوة اليابان الناهضة. وحتى روسيا التي تضعضعت قوتها نجد لدينا من يراهن عليها بدلاً من أن يرثي لحالها. لقد انهار الاتحاد السوفياتي الذي أدى اللعب على التناقضات بينه وبين القطب الآخر في عصر القطبية الثنائية الى الوقوع في أسر التبعية له خلال النصف الثاني من الستينات وبداية السبعينات. وكان انهياره مدوّياً الى حد أن وريثته روسيا لم تعد قادرة في مطلع القرن الواحد والعشرين على ان تنفع نفسها. ومع ذلك ظل خيال بعض العرب جامحاً باتجاه موسكو في اطار تطلعهم الى تحول هيكل النظام العالمي الأحادي الى آخر متعدد الاقطاب. ورغم أن روسيا هي آخر دولة كبرى يمكن أن تكون مرشحة لمنافسة الولاياتالمتحدة عى القمة العالمية، في مطلع القرن الواحد والعشرين، ما زال هناك من يراهن عليها، وبخاصة حين يصدر عنها أي كلام يجوز تفسيره على أنه يحمل نوعاً من التحدي للقوة الاعظم. فالمهم لدى اصحاب المنهاج الراديكالي هو الكلام لا أكثر. ولذلك امسكوا - على سبيل المثال - بتصريح لا معنى له صدر عن الرئيس الروسي في شباط فبراير 1998 وتضمن إشارة الى خطر حرب عالمية ثالثة يمكن ان يترتب على استخدام القوة العسكرية ضد العراق. كما اطلقوا العنان لخيالهم مرة ثانية في كانون الأول ديسمبر من العام نفسه عندما عبرت الحكومة الروسية عن غضبها من الاستهانة الاميركية بها مع بدء عملية "ثعلب الصحراء". والمهم انه في شباط فبراير 1998 صبّ الناطق باسم الرئيس الروسي ماء بارداً بسرعة على من فسروا كلام يلتسن بأنه تهديد لأميركا، وقال إن هذا تفسير سخيف وغير منطقي. لقد تصور هؤلاء ان الدب الروسي استجمع قواه التي خارت، واعتبروا ذلك اهم من ان يسعوا الى بناء قوتنا الذاتية. والأخطر من ذلك انهم لم يكفوا عن الرهان الخيالي على روسيا، فمن سمات هذا الاسلوب انه خاضع لانماط متقولبة شديدة الجمود وتنطوي على مقدار من الميتافيزيقا السياسية، ما يجعل صعباً على اصحابه استخلاص الدروس من تجاربهم. غير أنه اذا أردنا أن يكون شأننا في القرن الواحد والعشرين مختلفاً عن سابقه، ينبغي أن ندخله متحررين من وطأة الانقياد الى أسلوب اللعب على التناقضات الدولية. * كاتب مصري، رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".