جرى في استراليا في الاسبوع الاول من تشرين الثاني نوفمبر 1999، استفتاء مثير حول الرئاسة الرمزية للدولة، وهل تظل ملكية أو تتحول الى جمهورية. فمن المعروف ان استراليا هي إحدى دول الكومنولث، أي مجموعة المستعمرات البريطانية السابقة، وهي آثرت بعد الاستقلال أن تظل ضمن رابطة الدول المتعاونة مع بريطانيا العظمى. ومن هذه الدول الهند وباكستان وجنوب افريقيا، واستراليا ونيوزلندا وكندا. ولكن الدول الثلاث الاخيرة - أي استراليا ونيوزيلندا وكندا - هي دول ذات ماضٍ استعماري استيطاني، أي لم تكتف بريطانيا باحتلال أراضيها، مثلما فعلت في الهند ومصر، مثلا. ولكنها جلبت أيضاً الى تلك البلدان الثلاثة مستوطنين أوروبيين بيضاً، خصوصا من بريطانيا نفسها، ورغم ان هؤلاء المستوطنين تمردوا بعد فترة على بريطانيا، وطالبوا بالاستقلال التام مثلما حدث في اميركا الولاياتالمتحدة في أواخر القرن الثامن عشر، فإن البعض الآخر طالب بالاستقلال "الفعلي" من دون الاستقلال "الرسمي" عن بريطانيا. ومن هذه استراليا ونيوزيلندا وكندا، والفارق بين الاستقلال "الفعلي" و"الرمزي" هو انه في الاول يدير البلد شؤونه الداخلية والخارجية بواسطة ابنائه، ويتمتع بسيادة فعلية على أرضه، وله تمثيل خارجي، مثل أي دولة مستقلة أخرى. كل ما هنالك هو ان ملك، وفي ما بعد ملكة، بريطانيا يكون هو أو هي رئيس الدولة - أي الملك او الملكة، وكما هي الحال في بريطانيا العظمى نفسها، فإن الملك او الملكة "يملك" ولا "يحكم"، وهو النظام الذي يطلق عليه اسم "الملكية الدستورية"، وفيها الذي يحكم مثلا، هو رأس السلطة التنفيذية أي رئيس وزراء منتخب. ومع أن استراليا هي من الدول التي استقلت بنفسها رمزياً، تحت التاج البريطاني، او الملكة كرئيس للدولة، إلا ان ذلك، لم يمنع مجلس النواب الاسترالي من مناقشة هذا الامر الرمزي. وطالب فريق كبير من النواب بإلغاء الملكية، واعلان الجمهورية، وقرر البرلمان الاسترالي فعلاً ان يستفتي الشعب الاسترالي بشأن هذا الامر. وبعد شهور عدة من السجالات الساخنة، تم الاستفتاء يوم 5/11/1999. وكانت المفاجأة أن غالبية الرأي العام الاسترالي، أو بالأحرى، من أدلوا بأصواتهم في الاستفتاء فضلوا البقاء تحت التاج البريطاني، أي أن تظل الملكة هي رأس الدولة الاسترالية. إن تفسير رغبة الغالبية الاسترالية في ان تظل ملكية، ورفضها أن تكون بلده جمهورية، هو الحنين والولاء التاريخي الرمزي، انه التمسك بتقاليد الاستمرارية الثقافية، وبخاصة اذا لم تنطوِ على اضرار فعلية، او انتقاص من حريات الشعب أو سيادته على شؤونه الداخلية والخارجية. والطريف في الامر أن الشعب البريطاني في بريطانيا العظمى، وكذلك الاسرة المالكة البريطانية، لم ينفعلا بالسجال الذي دار في استراليا. وقد تصادف وجودي في بريطانيا قبل الاستفتاء الاسترالي بأسبوع واحد فقط، بمناسبة مؤتمر حوار الاديان الذي يرعاه الامير البريطاني دوق ادنبره، وزوج الملكة اليزابيث فيليب، والأمير الاردني الحسن بن طلال والسير ايفلين روتشيلد، سليل عائلة روتشيلد اليهودية العريقة. وكان الامير فيليب هو المضيف، وكانت الاقامة وجلسات المؤتمر في قلعة وندسور الشهيرة قرب لندن، وبالطبع جاءت مناسبات عدة اثناء ايام المؤتمر الثلاثة للحديث مع الامير فيليب. وفي إحدى هذه المرات، على مائدة الغداء، وحين تصادف جلوسي الى جانبه، سألته عما اذا كان هو او الملكة اليزابيث معنيين أو مهمومين بما يدور في استراليا؟، وكانت المفاجأة هي اجابته بأنهما يتابعان السجال الدائر والاستفتاء المرتقب، ولكنهما ليسا "مهمومين". وأكثر من ذلك اشار الامير فيليب بشيء من الداعبة الى أن مثل هذا الاستفتاء قد يحدث في بريطانيا نفسها. ثم نظر الى سقف مبنى سانت جورج الذي كنا نجلس فيه في القلعة العريقة، وقال إن عمر القلعة وندسور وضمنها سانت جورج هو ثمانمئة عام، وأنه ليس للاسرة المالكة البريطانية من نصير اول في بريطانيا نفسها غير هذا التاريخ العريق. ثم غير الامير فيليب الحديث بسؤالي عن إحدى النقاط التي وردت في محاضرتي صباح اليوم نفسه عن "صحيفة المدينة" التي وقعها الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود والقبائل غير المسلمة لتنظيم شؤون الحياة في اول دولة اسلامية 622 ميلادية/ السنة الاولى الهجرية، ولم يكن الامير سمع عن هذه "الصحيفة" من قبل، وقد وصفتها انا في المحاضرة بأنها اول "عقد اجتماعي مدني" واول "دستور" في التاريخ. واشار الامير فيليب الى اوجه الشبه بين "صحيفة المدينة" و"العهد الاعظم" أو الماغنا كارتا، الذي اجبر الملك جون ملك انكلترا على توقيعه، مع الارستقراطية الانكليزية للمشاركة في الحكم وضمان مجموعة من الحقوق المدنية والسياسية للشعب الانكليزي 15/6/1215. وأشرت الى ان الفارق المهم بين صحيفة المدينة والماغنا كارتا هو ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن "ملكاً"، وأنه لم يجبر على التوقيع، ولم يُجبر هو من جانبه احداً على التوقيع، بل كان الأمر كله بالتراضي وبالارادة الحرة لمن وقعوا على صحيفة المدينة. وبالطريقة الانكليزية، قال الامير فيليب "هذا مدهش" THIS IS REMARKABLE خصوصا أنه حدث قبل "الماغنا كارتا" بستة قرون وبطريقة سليمة. المهم من هذا الاستطراد هو التدليل على الروح الرياضية للأسرة المالكة البريطانية في تقبل ما تسفر عنه الارادة الشعبية، سواء في بريطانيا أو احدى مستعمراتها السابقة. وكان فحوى حديث الامير فيليب هو ان الاسرة المالكة البريطانية تعودت على هذه الممارسة منذ قرون عدة، وبعد ان تعلمت من تجارب وصراعات دموية استمرت من الماغنا كارتا في القرن الثالث عشر، الى الثورة الانكليزية بقيادة اوليفر كرومويل في القرن السابع عشر. واشار الامير فيليب بأصبعه عبر اقرب النوافذ وقال ضاحكاً: "هل ترى هذه المئات من زوار قلعة وندسور. ربما يتمسك بنا الشعب البريطاني لأننا اصبحنا نجلب له بلايين عدة من الجنيهات الاسترلينية من السياحة سنويا". لقد ذكرني حديث الامير فيليب، ثم نتائج الاستفتاء الاسترالي، بالدعوة التي يرددها منذ شهور الدكتور اياد السراج، الطبيب الفلسطيني، وأحد نشطاء حقوق الانسان في غزة، الذي سجن مرات عدة، سواء بواسطة قوات الاحتلال الاسرائيلية، أو بواسطة السلطة الوطنية الفلسطينية. يدعو الدكتور اياد السراج الى عودة "الملكية" الى الجمهوريات العربية - مثل العراق وسورية ومصر وليبيا وتونس - بشرط أن تكون هذه الملكيات "دستورية"، أي يملك فيها الملك ولا يحكم، أي ان يكون هناك عقد اجتماعي ملزم بهذا المعنى. وطالب أياد السراج المثقفين العرب بأن يأخذوا المبادرة في هذه الدعوة، وكان ذلك اثناء إحدى الندوات التي نظمها المجلس الفلسطيني للعلاقات الخارجية في مدينة غزة عن المجتمع المدني يوم 17/7/1999. وظن المشاركون في الندوة للوهلة الاولى ان الطبيب الفلسطيني يمزح او يسخر أو يهزأ، ولكنهم سرعان ما أدركوا ان الرجل جاد تماما. 1 - ان الملكيات العربية التي بقيت على قيد الحياة، كان اداؤها في السنوات الاخيرة افضل كثيرا من الجمهوريات، خصوصاً تلك الجمهوريات التي أدعت أو لا تزال تدعي "الثورية". 2 - أن بعض هذه الملكيات، وبخاصة في الكويت والمغرب والاردن اخذت المبادرة في التحول الى الديموقراطية، وأنها عقدت انتخابات دورية في السنوات العشر الاخيرة، واستحدثت نصوصا دستورية، تؤدي تدريجاً الى تعميق الديموقراطية وتحويل بلدانها الى ملكيات دستورية، وأن انتخاباتها لم تعد تزور، او تظهر نتائجها 99،99 في المئة. 3 - ان الأسر الملكية الأخرى في بلدان الخليج بدأت، وإن بصيغ مختلفة، المشاركة السياسية من خلال مجالس للشورى والتحرير التدريجي لوسائل الاعلام. 4 - ان بعض الرؤساء في بعض الجمهوريات العربية يعدون ابناءهم لوراثة السلطة من بعدهم في أي حال. وأنهم لن يعدموا الوسائل لإخراج مسرحيات سياسية، مغزاها أن الجماهير هي التي زحفت على القصر الجمهوري مطالبة "بولاية ابن الرئيس من بعده". لأن ذلك الابن هو وحده الذي يؤتمن على المسيرة التي بدأها والده على طريق الاستقرار والازدهار. 5 - انه بدلاً من فرض هذه المسرحيات الهزيلة على شعوبنا، فليكن الامر بيدنا، وليكن من خلال صفقة معقولة، تعطي الرئيس ما يريده - وهو توريث احد انجاله - وتعطي شعوبنا ما تريده، وهو الديموقراطية الحقيقية، وأن الصيغة الممثلى لذلك هي "الملكية الدستورية". ويعتقد زياد السراج أن الرؤساء يمكن ان يقبلوا هذه الصيغة لأنها اكثر قابلية للاستمرار واكثر صدقية، وأكثر شرعية في الامدين المتوسط والبعيد، من بديل المسرحية الهزلية التي قد يجري تحدي نتائجها بعد رحيل "الزعيم القائد". إن ما فعلته غالبية الشعب الاسترالي من تمسك بملكة تعيش على بعد اكثر من 20 ألف كيلومتر من بلادهم ودعوة الدكتور اياد السراج الى عودة الملكية الى الجمهوريات العربية، ينطوي في ما ينطوي عليه لا فقط على الحنين الى ماضٍ اكثر عراقة، ولكنه ينطوي ايضا على خيبة امل عريضة وعميقة بالانظمة الجمهورية، التي بدأت تقتلع الملكيات في الوطن العربي من الخمسينات. لقد كان الترحيب بهذه الجمهوريات وبالأنظمة الثورية التي جاءت بها، ترحيبا عارما وصادقا، فقد كان الظن ان الجمهوريات ستفتح الباب على مصراعيه امام ابناء الشعب لكي يرتقوا ويصعدوا الى اعلى المناصب، بما فيها منصب رئيس الدولة، وأن ذلك سيتم على اساس قواعد المساواة والتنافس الشريف. وفي ظل ديموقراطية حقيقية تسمح بتداول السلطة. كانت تلك وغيرها من الآمال الوطنية والقومية هي التي جعلت شعوبنا العربية ترحب في البداية بالانظمة الجمهورية. ولكن بعد نصف قرن، ادرك كثير من ابناء هذه الشعوب، كما ادرك أياد السراج وغيره، اننا لم نر من معظم هذه الأنظمة الجمهورية، وبخاصة من تدعي الثورية منها، الا الاستبداد والهزائم والخراب، ولا حول ولا قوة الا بالله. * كاتب مصري، مدير "مركز ابن خلدون للتنمية".