صدر كتاب أدوارد سعيد "الاستشراق"، للمرة الأولى بالإنكليزية عام 1978، ثم ترجم إلى عدد كبير من لغات العالم وأعيد طبعه مراراً وأصبح واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في ثقافة عصر العولمة. الآن، بعد ربع قرن على صدور الطبعة الأولى، وبعد أسابيع قليلة على وفاة مؤلفه وهو اعتبر المثقف العربي الوحيد الذي اخترق ثقافة العولمة بجدارة نادرة وبجرأة لا مثيل لها بين كل المثقفين العرب. تبدو العودة اليوم إلى قراءة نقدية لكتاب "الاستشراق"، مشروعة وضرورية. لكن ذلك يتطلب تجاوز تاريخ الكتاب الذي عبر عن بدايات تشكل وعي إدوارد سعيد في مجال نقد الثقافة الإمبريالية إلى الإطار الأوسع لمشروعه الثقافي الذي جعل من مقولاته نقطة تحول أساسية في تاريخ الثقافة العالمية من دون أن تشكل حتى الآن مرتكزاً لتيار ثقافي فاعل في الحياة الثقافية العربية. أنتج إدوارد سعيد مقولات ثقافية في مجالات عدة، كالنقد الأدبي، والموسيقى، والسجال المعمق حول دور المثقف، وثقافة الإمبريالية، ونقد الاستشراق وغيرها. لكن كتابه "الاستشراق" أثار ضجة ثقافية هائلة لأنه كان رمى حجراً كبيراً في مستنقع الدراسات الاستشراقية التي تحدث دعاتها كثيراً عن الموضوعية والبحث العلمي، لكن كانت مشبعة بنظرة استعلائية أوروبية تجاه دول الشرق وشعوبها. ولم تشذ عن هذه القاعدة سوى قلة محدودة من الباحثين الغربيين المنصفين التي يصح توصيف دراساتها بأنها حللت تطور المجتمعات الشرقية على أسس علمية موضوعية. باختصار شديد، شكل كتاب "الاستشراق" معلماً بارزاً في دراسة تلك الظاهرة. وبعد أن ترجم إلى كثير من لغات العالم، اعتبر أفضل دراسة نقدية أنجزها مفكر عربي في هذا المجال، لا بل من أفضل ما كتب عن تاريخ الاستشراق في العالم كله. وعبر أحد النقاد عن أهمية الكتاب بقوله: "إن التاريخ العلمي لظاهرة الاستشراق بدأ فعلاً مع كتاب إدوارد سعيد هذا، وأن أي مثقف يتناول موضوع الاستشراق من دون الاستفادة من مقولاته لن يفي هذا الموضوع حقه. هكذا تحول الكتاب إلى "سلطة معرفية" يصعب تجاوزها بسهولة، وقدم مسحاً شمولياً قلَّ نظيره لتاريخ هذه الظاهرة مع نماذج تطبيقية على غاية في الدقة". كتب الكثير حول موضوعات الكتاب خلال ربع القرن المنصرم، لذا نبادر هنا إلى طرح أسئلة منهجية: هل ابتكر إدوارد سعيد مقولات علمية شكلت إضافة نوعية في مجال علم الاستشراق؟ هل أن تلك المقولات قابلة للاستمرار بعد ربع قرن على نشرها؟ ولماذا أثر كتاب "الاستشراق" عميقاً في الفكر الثقافي لعصر العولمة من دون أن يترك أثراً مهماً في كتابات الباحثين العرب؟ نشير بداية، إلى أن هزال الموقف العربي باد على كل الصعد ومنها على المستوى الثقافي. لذا كانت وفاة إدوارد سعيد مناسبة لذرف الدموع على "عملاق الثقافة العربية"، إلا أنه ليس في الأفق ما يشير إلى تبلور تيار ثقافي عربي قادر على تشكيل قوة فاعلة لتطوير مقولاته الثقافية حول نقد الاستشراق، وثقافة الإمبريالية، ودور المثقف النقدي في عصر العولمة. فإدوارد سعيد مثقف عربي عالمي الانتشار، متفرد في تملك مصادر ثقافته الكونية، ومواقفه الجريئة، وقدرته على التأثير المباشر في مراكز القوى الثقافية في أميركا وأوروبا. وعبثاً يحاول المثقفون العرب النسج على منواله أو تقليده، ولكن من واجبهم العمل على إبقاء فكره النقدي حياً وفاعلاً. في هذا المجال تتجلى أهمية إدوارد سعيد في أنه أعطى مصطلح "الاستشراق"، الكثير من السمات التي تبرز جوهر علاقة الغرب بالشرق معرفياً. وهي علاقة تمتد قروناً عدة وتشمل الكثير من الموضوعات التي يبدو معها أي كتاب في الاستشراق عاجزاً بالضرورة عن إيفاء الموضوع حقه. لذا شدد الباحث على موضوعين أساسيين من موضوعات الاستشراق الكثيرة وهما: 1 - تحليل أبحاث ودراسات علمية وأكاديمية غربية رسمت معرفياً علاقة الغرب بالشرق. ويقول سعيد في هذا الصدد: "لقد كان الشرق، تقريباً، إختراعاً غربياً... فالشرق جزء تكاملي من حضارة أوروبا وثقافتها الماديتين. ويعبر الاستشراق عن ذلك الجزء ويمثله ثقافياً، بل حتى عقائدياً، من حيث نهج الكتابة، والصور، والمعتقدات المذهبية وحتى البيروقراطية الاستعمارية والأساليب الاستعمارية. ويرتبط بهذا التراث الجامعي، موضوع هذه الدراسة، معنى أكثر عمومية للاستشراق. فالاستشراق أسلوب من الفكر قائم على تمييز وجودي أنطولوجي ومعرفي إبستمولوجي بين الشرق وفي معظم الأحيان "الغرب". 2 - تحليل الإنتاج الفني الغربي الذي استلهم صورة الشرق فنياً وحولها مادة للإبداع. فقد أنتج فنانون غربيون لوحات رائعة عن الشرق، منها ما جاء نتيجة مشاهدات ومنها ما رسم من وحي الخيال ومن تأثير الدراسات الغربية عن الشرق. تكمن إضافات إدوارد سعيد النوعية في إنتاج مقولات ثقافية تساهم في تعرية الظاهرة الثقافية ضمن محورين: الأول: ان سعيد في كتابه هذا عرى جوهر الارتباط، المعلن أو الخفي، بين الإنتاج الاستشراقي بشقيه الأكاديمي والفني والمشروع الاستعماري الذي كانت تحضر له أوروبا للسيطرة على دول الشرق وإلحاقها تبعياً بها. يقول سعيد: "يعتمد الاستشراق، بطريقة ثابتة، من أجل إستراتيجيته على هذا التفوق الموقعي المرن الذي يضع الغرب في سلسلة كاملة من العلاقات المحتملة مع الشرق من دون أن يفقده للحظة واحدة كونه نسبياً صاحب اليد العليا. الثاني: انه كشف، وبالطريقة العلمية عينها، رؤية الشرق لذاته معرفياً، والتي تفضح العروة الوثقى ما بين قادته ومثقفيه وفنانيه، وتجاره والمشروع الاستعماري تحديداً والذي قدم لهؤلاء السلاح الفتاك لإعاقة حركة التطور في مجتمعاتهم وإبقائها رهن الاستلاب الثقافي والتبعية السياسية والاقتصادية والإدارية والتربوية وسواها. وما انغلاق مجتمعات الشرق على ذاتها تحت ستار خادع من الممانعة، ورفض الغرب، وحماية الأصالة والخصوصية سوى الوجه الآخر والأكثر خطورة للفكر الاستشراقي ومقولاته. فالانغلاق على الذات ومحاربة كل أشكال التغيير والتطور الوافد من الغرب أسهما في تجريد المجتمعات المشرقية من سلاح العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة التي هي السلاح الأكثر قدرة على حماية الهوية، والدفاع عن النفس، وتركا الباب مفتوحاً لبناء مستقبل مشرق لمواجهة تحديات العولمة وثقافاتها. نخلص إلى القول إن مقولات ادوارد سعيد في "الاستشراق" تعري جوهر النظرة الاستعلائية الغربية بقدر ما تعري مقولات النظرة الانغلاقية المشرقية التي تقدم صورة مشوهة عن الذات بصفتها منفعلة بثقافة ماضوية أو تراثية وحيدة الجانب وغير قادرة على مواجهة الثقافات العصرية. وقد فضح إدوارد سعيد هذه الرؤية المزدوجة للتفكير الاستشراقي كما تجلت في مقولات الاستشراقيين في الجانبين الغربي والمشرقي معاً. فالاستشراق ليس دراسة الغرب للشرق من موقع الاستعلاء فحسب بل نظرة الشرق الدونية إلى نفسه من خلال مقولة إبن خلدون "تشبه المغلوب بالغالب". لم يعد موضوع الاستشراق مع إدوارد سعيد متمحوراً على فهم النظرة الخاطئة أو المتخيلة والمتبادلة بين الشرق والغرب بل في تحول الشرق إلى تابع ذيلي للغرب من خلال التواطؤ العلني بين المستبد الوافد من الغرب والمستبد الحاكم في الشرق. وقد نجح ذلك التواطؤ في وأد كل المشاريع النهضوية في الوطن العربي وكثير من دول العالم الثالث، لأنه نجح أولاً في ضرب أو تهميش ثقافة التغيير الجذري وقواها الحية، ونسف كل أشكال العمل الديموقراطي، ومصادرة الحريات الأساسية. ونجح سعيد في تعرية الوجه المزدوج للظاهرة الاستشراقية، فبدت على حقيقتها العارية كظاهرة فضائحية تؤكد وجود صلة وثقة ومباشرة بين قادة الغرب الاستعماري وقادة الاستبداد المشرقي. وكان له الدور الأساس في إبرازها وتعريتها وتقديم الأدلة الكافية على صدقيتها. لم يكن لديه هاجس الإكثار من الكلام على الدقة والموضوعية في رسم الظاهرة الاسشراقية بل كان مؤمناً بأن إبراز الحقائق العارية هي قمة الموضوعية والحياد. لذا أحدث كتابه المتميز هذا، فور صدوره، صدمة عنيفة للمدرسة الاستشراقية الغربية في كل تلاوينها، فانبرى للرد عليه عتاة الاستشراقيين، وفي طليعتهم برنارد لويس الذي لم يتورع عن إستخدام لغة الشتائم الرخيصة في نقده غير العلمي وغير الرصين لكتاب "الاستشراق"، ما يدل على مدى الضرر الفادح الذي ألحقه الكتاب بالمقولات الاستشراقية السائدة التي بلغت مرحلة متقدمة في الاهتراء والتسطيح مع كتابات برنارد لويس ضد العرب والمسلمين. نجح إدوارد سعيد، إلى حد بعيد، في نقل دراسة الاستشراق من الإيديولوجيا إلى العلم، فعرى الأواليات الخفية التي كانت تتحكم بنظرة الغرب إلى الشرق، واستخدم الأسلوب العلمي الإبستمولوجي لدراسة موقع الاسشتراق في تاريخ الثقافة الأوروبية وليس قراءة الثقافة الأوروبية بعيون استشراقية أو من خلال منهج استشراقي. وجاءت مقولاته شديدة الدلالة، لأنها تختزن عصارة ما أنتجه هيغل، وماركس، وماكس فيبر، وغرامشي، ولوكاش، وفرانز فانون، وجان بول سارتر، وفوكو وغيرهم، وساعدته على توليد نظام معرفي متكامل لدراسة الظاهرة الاستشراقية من مختلف جوانبها. لم تستفد الكتابات العربية من دراسة إدوارد سعيد عن الظاهرة الاستشراقية إلا قليلاً. فقد تجاهلت في شكل شبه تام النظام المعرفي الذي أرسى قواعده هذا المثقف العميق الانتماء إلى الثقافة الإنسانية الشمولية. وفهم بعض مثقفي العرب أن نقد الظاهرة الاستشراقيه يعني نقداً لظاهرة تخص الغرب الاستعماري دون سواه، وذلك عن سابق تصور وتصميم. ولم يبادروا إلى دراسة الأبعاد الحقيقية لمقولاته العلمية لفهم الاستشراق كظاهرة شمولية تطاول أنظمة الاستبداد في الغرب والشرق معاً. فقد تم توظيفها من جانب الغرب لأهداف استعمارية لا علاقة لها بالتنوير، كما تم توظيفها من جانب قوى الاستبداد المشرقي لخدمة أهداف سلطوية تساعد في ترسيخ زعامات قبلية وطائفية وديكتاتورية لم تساعد شعوبها في معركة التحرر الوطني والقومي والاستقلال.